• لم أبلغ الثامنة عشر من عمري حتى تركت الجامعة في السنة الثانية من دخولي إليها وحررت نفسي من كل ضروب العبادة والإيمان الذي تعلمته.
• قد آمنت بإله، أو بالأحرى لم أنكر وجود إله، ولكن لم أقدر أن أوضح شيئاً عن هذا الإله الذي لم أنكر وجوده..
• في بداءة عملي كنت أعتقد أن الكمال الأدبي هو غايتي الرئيسية، ولكنني لم ألبث أن وجدت نفسي ساعياً وراء الكمال العام في جميع الأعمال.
• لقد كانت أسمى مراتب الأخلاق الصالحة في عقيدتي منحصرة في الطموح، ومحبة القوة، والحصول على الربح، والكبرياء والغرور، والغضب والإنتقام.
• ليس في قاموس الجرائم جريمة واحدة لم أرتكبها، ولكنني كنت مع كل ذلك مكرماً محترماً من أبناء عشيرتي كرجل أديب فاضل.
• رغبتي في الشهرة كانت تقضي على كل إصلاح في فكري. وعلى خداعي الكثير في كتابتي نجحت نجاحاً باهراً، وكان الناس يقرأون كتاباتي مادحين شاكرين.
• كان الإيمان بالشعر، وبنمو الحياة، إيماناً حقيقياً، وكنت كاهناً حقيقياً أبشر به. وكان القائم بمثل هذا العمل إذ ذاك رفيقاً للربح والكرامة في جميع أعماله.
• كانت حياتي في أوروبا، وتعرفي بعظماء مفكريها وعلمائها، عاملاً فعالاً على تأييد عقيدتي بإمكانية البلوغ إلى الكمال العام الذي كان المفكرون في أوروبا يؤمنون به.
• إنني كسائر المجانين كنت أعتقد أن جميع رفقائي مجانين وليس بينهم عاقل غيري..
• يجب أن أحكم على ما هو حق وضروري، وليس بما قاله الناس وفعلوه، ولا بما رتبوه من النظم للتقدم، بل بما أشعر بصوابه في أعماق قلبي.
• كل شيء ينمو ويتغير. وأنا نفسي أنمو وأتغير كل يوم. وسيأتي يوم يدرك فيه الجميع سر هذا النماء.
• لقد رأيت أن كلاً من المعلمين يختلف عن الآخر بطريقة تعليمه، وبما يعلمه، ولذلك يخاصمه، وينازعه عبثاً ليخفي عنه جهالته وغروره.
• كانت فكرة الإنتحار تخطر لي في كل يوم، بل كل ساعة كما كانت فكرة الجهاد في سبيل كمال الحياة، رفيقة لأحلام شبابي.
• لم أكن أبلغ الخمسين من عمري بعد، فقد كان لي زوجة صالحة تحبني وأحبها، وأولاد مهذبون، وأملاك واسعة كانت تنمو وتزداد من غير أن أتعب في سبيلها.
• هكذا أتعلق أنا بغصن شجرة الحياة، عارفاً أن تنين الموت ينتظرني، وهو على أتم الإستعداد ليمزقني إرباً إرباً. ولا أدري لماذا قدر لي أن أحتمل كل هذه المشقات..
• مهما بالغت في التفكير في نفسي لأقنع ذاتي أنني لا أستطيع أن أدرك معنى الحياة، وأنني يجب أن أعيش بدون تفكير، فإنني عاجز عن العمل بهذه النصيحة، لأنني قد عشت متمرداً عليها زمناً طويلا.
• أنا، بما في قلبي من المحبة لهم (أسرتي) لا أقدر أن أُخفي عنهم الحقيقة، لأن كل خطوة يخطونها في طريق المعرفة تُدنيهم من هذه الحقيقة الواحدة التي هي : "الموت!"
• إن الفن زينة الحياة وسحرها. والحياة بعد أن خسر سحرها نفوذه في قلبي، كيف أستطيع أن أجعل غيري يرى هذا الساحر فيها؟
• ظل سؤالي الشخصي:"لماذا أعيش وأرغب وأعمل؟" سراً غامضاً لا جواب عليه. وقد عرفت إذ ذاك أن فروع المعرفة هذه لذيذ درسها، شيق التأمل فيها، ولكنها كانت تظهر، بملء الوضوح عجزها الكامل عن المجاوبة على مسائل الحياة.
• ما هي حياة تلك البشرية أو الإنسانية المجهولة منا، التي لا نعرف منها سوى جزء صغير في قسم من الوقت ؟
• لكي يفهم الإنسان حقيقة ذاته يجب عليه والحالة هذه أن يعرف حقيقة الإنسانية السرية، التي تتألف من ملايين الناس الذين يجهلون حقيقة ذواتهم مثله..
• كلما وضحت سماء المعرفة المنبسطة فوقي، وزادت نقاوتها، وتعاظمت سحرها وتعمقت في إدراك أسرارها، والإطلاع على دقائقها، كنت أجدها بعيدة عن قضاء حاجتي، قاصرة عن مجاوبتي على مسائلي..
• الحكيم يُنشِد الموت في كل ساعة من حياته، ولذلك فالموت لا يُرعب الحكماء.
• كل ما في هذا الوجود من الكائنات، والشموس، والمجرات هو لا شيء بعد زوال إرادتنا أو حياتنا: لأن وجوده، أو بالحري شعورنا بوجوده ناشيء عن وجود هذا الشعور فينا، ولذلك فهو زائل بزوال هذا الشعور فينا..
• كان مركزي صعباً مزعجاً. لأن المعرفة التي يقدمها العقل تنكر الحياة، والمعرفة التي يمنحها الإيمان تنكر العقل، وكلا الأمرين صعب عليّ وخصوصاً الثاني منهما.
• ومع أنني ظللت أعتقد أن الإيمان بعيد عن أحكام العقل، فلم أجد بُداً من التسليم بأن الإيمان وحده منح الإنسان جوابات مغرية على مسائل الحياة، ومهد أمامه العقبات الحائلة دون سعادة حياته.
• المعرفة المبنية على العقل أظهرت لي أن الحياة لا معنى لها، فاحتقرت حياتي، وودت أن أقتل نفسي بيدي. بيد أنني كلما نظرت إلى جماهير الناس حولي أرى أنهم يعيشون فرحين بالحياة عارفين معانيها السامية.
• مهما تعددت أنواع الأجوبة التي يقدمها الإيمان للإنسان فإن كل واحد منها يجعل لحياة الإنسان المحدود معنى غير محدود، معنى لا يزول ولا يفنى مهما اجتمع لمحاربته من جيوش الآلام والوحدة والموت.
• بالإيمان نستطيع أن نجد الحياة، وبه نفهم معانيها السامية.
• ماذا فعلت عندما نشدت جواباً على قضيتي بدرس العلوم الطبيعية؟ رغبتي في معرفتي السبب الذي أعيش لأجله، ولذلك درست كل شيء ما خلا نفسي. ولا شك أنني تعلمت أمور كثيرة بهذا الدرس، ولكنني لم أتعلم شيئاً مما كنت في حاجة إليه.
• ماذا فعلت عندما نشدت الجواب في دروس الفلسفة؟ درست أفكار الذين كانوا في نفس الحالة التي كنت فيها، يجهلون الجواب على السؤال "لماذا أعيش؟" وواضح أنه لم يكن لي أتعلم بهذه الطريقة، إلا ما عرفته من قبل، وهو أنه يستحيل أن أعرف شيئاً.
• من أنا ؟ ــــ جزء من غير محدود. بهذه الكلمات سر القضية بكاملها.
• ما برح الإنسان منذ أبعد أزمنة التاريخ يدرس علاقة المحدود بغير المحدود ويوضحها ويفسرها.
• إن المركز الذي إتخذناه أنا وشوبنهور وسليمان، بالرغم من كل حكمتنا، كان جنونياً محضاً، لأننا مع معرفتنا الحياة شر، لا نزال نتمسك بها..
• فهمت أننا بجميع مباحثنا كنا ندور في دائرة واحدة. ندرس، ونبحث، ونفتش، وندقق، وأخيراً تأتي النتيجة ج تساوي ج . فسر الماء بعد الجهد بالماء.
• بدأت أُدرِك أن الأجوبة التي يقدمها الإيمان تحتوي على أنقى ينابيع الحكمة البشرية، وأنه لا يجوز لي أن أرفضها لمجرد تمرد العقل عليها، فهي وحدها الكفيلة بحل قضية الحياة.
• قد فهمت كل هذا، ولكنه لم يساعدني على التخلص من شقائي فقد أصبحت مستعداً أن أقبل أي إيمان كان على شرط أن لا يطلب مني نكراناً ظاهراً لعقلي.
• الإنسانية، لكي تعيش، وتواصل حياتها شاعرة بمعنى هذه الحياة، تحتاج إلى نوع آخر من الإيمان أنقى وأصدق من الإيمان الذي عرفته.
• إن في الوجود إرادة كلية تدير كل ما فيه من الكائنات. وهذه الإرادة الكلية لا عمل لها سوى العناية بحياتنا وبحياة الوجود الذي نعيش فيه.
• كنت أفكر بغير انقطاع في الحياة وما أشكل عليّ من أسرارها. ولكن قلبي كان يتألم. وفي أعماقه شعور مذيب لا أستطيع أن أصفه إلا بأنه عاطفة خفية كانت تدفع بي إلى التفتيش عن الله.
• في بعض المرات كنت أراجع مباحث كانط وشوبنهور في أن البرهان على وجود الله مستحيل، وأقبلها بإقتناع، ثم لا ألبث أن أثور عليها في أوقات أخرى، وأفندها وأُظهِر خطأها وضلالها.
• لا أقول مثنى، وثلاث ورباع، بل عشرات ومئات المرات، كانت تنازعني هذه الأفكار المتناقضة، فتارة اؤمن وأشعر بحلاوة الحياة، وتارة يفارقني إيماني ويحل مكانه الشكوك والشعور بشر الحياة وبطلانها.
• لم أشرع في الإختلاط مع المتعلمين من المؤمنين، أو في مطالعة كتبهم حتى عاودتني شكوكي، ورجع إليّ تمردي واضطرابي فشعرت أنني كلما حادثتهم، أو قرأت مؤلفاتهم، يزداد بُعدي عن الحقيقة ودنوي من هوة اليأس والشقاء.
• البراهين التاريخية التي تُصبغها كل طائفة بصبغتها الرسمية، لا يمكن أن تكون مرجعاً للحكم بين الطوائف.
• ومع أنني لم أعد أجد من الخطأ في إيمان الشعب بمقدار ما في إيمان زعماء الكنيسة فقد رأيت أخيراً أن غير الحقيقي في إيمان الشعب ممتزج بالحقيقي.
• ومما لا شك فيه أن العقائد كانت تحتوي على الكثير مما هو حق، ولكنها كانت أيضاً بدون أقل ريب تحتوي على الكثير مما هو غير حق.
• الحياة الروحية تُعاش لا تُلقَن.
▬ هذا هو حالنا اليوم كما كان من ذي قبل.ــــ فإن تأثير التعليم الديني الذي قبلناه في المدرسة عن طريق الثقة والإيمان البسيط، وحفظته السلطة المطلقة في حياتنا، يضمحل شيئاً فشيئاً تجاه المعرفة التي نستمدها من إختبارات الحياة اليومية التي تُناقض كل مبادئه، ومع أن الفرد منا يعتقد أن إيمانه لا يزال راسخاً في أعماق قلبه فإن هذا الإيمان لا أثر له في حياته العملية. صــ7
▬ لذلك أعترف الآن بأن الإيمان المغروس في أعماقي منذ صبوتي قد زالت آثاره من قلبي كما تزول من قلب كل إنسان، ولكن الفرق بيني وبين الكثيرين هو أنني منذ الخامسة عشرة من عمري شرعت أقرأ كتب الفلاسفة، وأدركت في أعماقي عدم إيماني. فقد انقطعت عن الصلاة وأنا في السادسة عشرة من العمر، وتحولت عن حضور الإحتفالات الكنسية، والمحافظة على صيامات الكنيسة بملء إرداتي وقناعتي. قد طرحت عني الإيمان الذي تعلمته في صباي وما برحت أؤمن بشيء، ولكنني لم أقدر أن أوضح ماهيته. قد آمنت بإله، أو بالأحرى لم أنكر وجود إله، ولكن لم أقدر أن أوضح شيئاً عن هذا الإله الذي لم أنكر وجوده. إنني لم أنكر المسيح ولم أجحد تعاليمه، ولكن الحقيقة التي تدور عليها هذه التعاليم لم أعرف عنها شيئاً. صــ9
▬ قد قتلت الكثيرين في الحرب، وبارزت الكثيرين لأفقدهم حياتهم، وخسرت أموالاً كثيرة بالمقامرة، وأنفقت الأموال الكثيرة التي وصلت إليّ بأعراق الفلاحين، وكنت قاسياً عاتياً في معاملة خدامي، ولم أترك سبيلاً من سبل الفسق والدعارة مع العواهر إلا سلكته، ولم تفتني طريقة من طرق الخداع والمراوغة: كذب وسرقة، وزنا، وسكر وتمرد وقتل.. كل هذا جزء من حياتي في تلك الأيام. فليس في قاموس الجرائم جريمة واحدة لم أرتكبها، ولكنني كنت مع كل ذلك مكرماً محترماً من أبناء عشيرتي كرجل أديب فاضل. صــ12
▬ وقد مر العام الأول وأنا أشتغل في كل دقيقة من يومي بالتحكيم، والتعليم في المدارس، وتحرير جريدتي، حتى شعرت أنني أكاد أرزح تحت أثقال الواجبات الكثيرة التي أُلقيت على كاهلي. وظل الحال هكذا حتى صرت أنظر إلى كل أعمالي في القضاء، والمدرسة، والجريدة، نظرتي إلى ألد أعدائي. فوقعت أخيراً في مرض عقلي، أكثر مما هو جسدي، وتركت أعمالي، وسرت إلى البرية، حيث أصبحت أستنشق نسيم الطبيعة النقي، وأعيش بين الحيوانات البريئة المعيشة الطبيعية الحقة. صــ22
▬ وقد أصابني نفس ما يصيب كل مريض في بداءة مرضه، تعرض له بعض الأيام بسيطة، فلا يعبأ لها، وهي لا تلبث أن تزيد وتتجمع حتى يتألف من مجموعها داء عياء، يقضي على راحته ويسلبه سعادته، فيعمد المريض المسكين إلى مُلاقاه الخطر، ولكنه يرى نفسه قاصراً أمام عدوه، ويدرك أن المسئلة، التي بدت له لأول وهلة تافهة لا أهمية لها، قد أصبحت قضية في الوجود يسعى إلى حلها، ولا يهتدي إلى ما ينقذه منها، وهي قضية موته. صــ24
▬ كانت فكرة الإنتحار تخطر لي في كل يوم، بل كل ساعة كما كانت فكرة الجهاد في سبيل كمال الحياة، رفيقة لأحلام شبابي. وقد لزمني هذا الفكر، وكان يبدو لي جميلاً جذاباً، بهذا المقدار حتى اضطررت أخيراً أن الجأ إلى وسائل عديدة للحؤول دون تنفيذه بسرعة ولم يحملني إلى التردد في الإنتحار سوى رغبتي في إستعمال كل قوى حياتي في تنظيف أفكاري من أقذار الأوهام العالقة بها ولو لم يتم لي هذا لكنت أقتل نفسي في الحال. صــ28
▬ شعرت في فجر شبابي بميل كلي إلى الدروس المجردة، ولكن الرياضيات والعلوم الطبيعية أغوتني بسحرها في فجر رجولتي. وقد كنت قبل أن خطر لي هذا السؤال عن معنى الحياة - السؤال الذي نشأ في أعماقي ونما نمواً عجيباً في فكري وهو يطلب الجواب عليه بفارغ الصبر - راضيا بالأجوبة التقليدية المصطنعة التي كانت تقدمها البشرية لفكري. صــ38
▬ على هذا المنوال ضلت بي السبيل في المعرفة البشرية، فلم أجد لي ملجأ، لا في نور العلوم الرياضياتية والطبيعية، التي كانت سبلها مفتوحة أمامي، ولا في ظلمة الفلسفة، التي كانت تقودني كل خطوة فيها من السيء إلى الأسوأ، ومن المظلم إلى الأكثر ظلاماً ـــــ إلى أن ثبت لدي أخيراً أنه لم يكن، ولن يكن في الوجود شيء مما أفتش عنه؛ لأنني عندما تبعت نور العلم، الذي يتوهم الناس قدرته على حل قضايا الحياة، كنت أجد نفسي أبعد كثيراً عن الحقيقة التي أُنشدها. وكلما وضحت سماء المعرفة المنبسطة فوقي، وزادت نقاوتها، وتعاظمت سحرها وتعمقت في إدراك أسرارها، والإطلاع على دقائقها، كنت أجدها بعيدة عن قضاء حاجتي، قاصرة عن مجاوبتي على مسائلي. صــ46
▬ قال سُقراط وهو يستعد للموت: "نحن ندنو من الحق كلما بعدنا عن الحياة." فلماذا نحن الذين نحب الحق نسعى وراء الموت؟ لكي نتحرر من الجسد والأوجاع التي ترافق الحياة فيه. فإذا كان الحال هكذا، فكيف يجوز لنا أن نخاف من دنو الموت؟ الحكيم يُنشد الموت في كل ساعة من حياته، ولذلك فالموت لا يرعب الحكماء. وهذا نفس ما عبر عنه شوبنهور بقوله: "إن المبدأ الأساسي لكل ما في الوجود هو الإرداة [...] إذا أنكرنا هذه الإرادة، وقضينا على وجودها، فإن كل مظاهر الوجود تزول في الحال بزولها [...] الوجود بأسره ما هو عند التحقيق إلا هذه الرغبة التي في أعماقنا - الرغبة في الحياة التي تحملنا إلى الخوف من المصير إلى عدم... صــ50
▬ وهكذا فإن سياحتي في حقول المعرفة البشرية لم تقتصر على الفشل في شفائي من يأسي بل زادتني يأسياً وشكاً. فالفرع الواحد من المعرفة يقف صامتاً تجاه السؤال عن معنى الحياة. والفرع الثاني أجابني جواباً صريحاً ثبت يأسي، وأراني أن الحالة التي أنا فيها لم تكن نتيجة لضلالي أو ضعفاً طرأ على دماغي، بل إنما كانت على العكس من هذا تؤكد لي أنني إنما أفكر بدقة، وأن آرائي متفقة مع النتائج الكبرى التي إنتهى إليها أقدر مفكري الإنسانية. صــ57
▬ يحدثني عقلي أن الحياة مناقضة للعقل. فإن لم يكن في الوجود شيء أعلى من العقل، والحقيقة أنه ليس في الوجود أسمى من العقل أو بالحري ليس لنا برهان على مثل هذا، فالعقل إذن هو الذي خلق لي الحياة. فكيف يستطيع هذا العقل، والحالة هذه ، أن ينكر وجود الحياة التي هو أوجدها ؟ وإذا نظرنا إلى الموضوع من الجهة الثانية نقول : لو لم تكن لي حياة لما كان لي عقل، ولذلك فإن العقل بحكم الطبع هو ابن الحياة. فالحياة هي كل شيء. العقل هو ثمرة الحياة، وهذا العقل نفسه ينكر الحياة التي أثمرته شجرتها. صــ63
▬ كان مركزي صعباً مزعجاً. لأن المعرفة التي يقدمها العقل تنكر الحياة، والمعرفة التي يمنحها الإيمان تنكر العقل، وكلا الأمرين صعب عليّ وخصوصاً الثاني منهما. فالمعرفة المبنية على العقل قد برهنت أن الحياة شر، وأن الناس يعرفون هذا وفي منالهم أن يقتلوا أنفسهم ويستريحوا من شر الحياة متى شاؤوا، ولكنهم ما برحوا يعيشون في العالم وينفرون من الإنتحار، وأنا فرد منهم قد عشت طويلاً عالماً أن الحياة شر وحماقة لا معنى لها. ولو عشت بالإيمان لقُضي عليّ أن أهمل عقلي وأعرض عن تطلباته قبل أن أستطيع إدارك معنى الحياة، ولكن عقلي هو القوة الوحيدة فيّ التي تطلب إدارك معنى الحياة، فكيف يمكن أن أفهم الحياة بدونه ؟ صــ71
▬ في جميع مباحثي الفكرية مع نفسي كنت أقابل مضطراً، المحدود بالمحدود، وغير المحدود بغير المحدود، ولذلك كانت النتيجة التي لا بد منها كما يأتي: "القوة هي القوة، والمادة هي المادة، والإرادة هي الإرادة، وغير المحدود هو غير المحدود، ولا شيء هو لا شيء" لا أكثر ولا أقل. فقد حدث لي كما يحدث في الرياضيات، عندما نريد أن نحل معادلة يجب أن نحصل على أعداد متشابهة. فمع أن طريقة الحل صحيحة فإن الجواب يأتي هكذا. ب تساوي ب . ج تساوي ج ، ل تساوي ل . هذا هو نفس ما حدث لي في تفتيشي عن معنى الحياة. فقد تشابهت عندي جميع الأجوبة التي قدمها العلماء على إختلاف طبقاتهم. صــ73
▬ عندما بلغت هذه النتيجة أدركت أنه من العبث السعي وراء جواب على سؤالي في المعرفة المبنية على العقل، ووثقت بأن الجواب الذي تقدمه مثل هذه المعرفة ليس إلا دليلاً واضحاً على أن الجواب مستحيل ما لم يوضع السؤال بطريقة أخرى تجعله شاملاً للعلاقة بين المحدود وغير المحود. وأدركت أيضاً أن الأجوبة التي يقدمها الإيمان مهما خالفت أحكام العقل وتمردت على شرائعه، فهي تمتاز بأنها تقدم لكل سؤال العلاقة بين المحدود وغير المحدود، وبدون هذه العلاقة لا يمكنا الحصول على جواب ما. فكيف وضعت السؤال: ("كيف يجب أن أعيش؟) فالجواب عليه واحد:ــ "بشريعة الله." س: "وهل بعد حياتي شيء حقيقي ثابت؟ وما هو؟ ج:"عذاب أبدي أو بركة أبدية" س: "وهل في حياتي معنى لا يستطيع الموت أن يذهب به؟" ج:"نعم، وهو الوحدة مع إله غير محدود في الفردوس." على هذا المنوال وجدت نفسي محمولاً إلى التسليم بأن وراء المعرفة العقلية، التي كنت أعتقد أنها المعرفة الوحيدة، وجد ويوجد في كل إنسان نوع آخر من المعرفة لا سلطان للعقل عليها. وهو الإيمان الذي يساعد الناس على الغبطة في الحياة. ومع أنني ظللت أعتقد أن الإيمان بعيد عن أحكام العقل، فلم أجد بُداً من التسليم بأن الإيمان وحده منح الإنسان جوابات مغرية على مسائل الحياة، ومهد أمامه العقبات الحائلة دون سعادة حياته. فالمعرفة المبنية على العقل أظهرت لي أن الحياة لا معنى لها، فاحتقرت حياتي، وودت أن أقتل نفسي بيدي. بيد أنني كلما نظرت إلى جماهير الناس حولي أرى أنهم يعيشون فرحين بالحياة عارفين معانيها السامية؛ لأن الإيمان قد منحهم كما منحني قوة على إدراك معنى الحياة وحمل أثقالها بفرح وصبر. صــ 74 : 75
▬ ليس الإيمان بإعلان غير المنظورات فقط، ولا هو بالوحي الذي ينزل على قلوبنا فقط، لأن مثل هذا التحديد يظهر لنا شكلاً واحداً من أشكال الإيمان المتعددة، كلا ولا هو علاقة الإنسان بالله فقط، (لأن الإيمان يجب أن يتحدد أولاً ثم الله) ولا هو الإذعان لما أخبر به الإنسان فقط، كما يعتقد الكثير من الناس، وإنما الإيمان الحقيقي الكامل هو معرفة معاني الحياة الإنسانية معرفة حقاً تحمل الإنسان على محبة الحياة والمحافظة عليها. الإيمان هو وحده قوة الحياة. فالرجل الحي يؤمن بشيء، وبغير الإيمان لا يستطيع بشر أن يعيش في العالم. لأن الذي لا يؤمن بأن في الوجود غاية يعيش لأجلها هو ميت بالحقيقة. فإذا لم ير ولم يفهم بطلان المحدود فهو يؤمن بغير المحدود. وإذا رأى بطلان المحدود وزواله فهو مضطر إلى الإيمان بغير المحدود في كل حال. فالحياة بغير الإيمان مستحيلة. صــ76
▬ قد فهمت كل هذا، ولكنه لم يساعدني على التخلص من شقائي فقد أصبحت مستعداً أن أقبل أي إيمان كان على شرط أن لا يطلب مني نكراناً ظاهراً لعقلي، لأن مثل هذا العمل يعرضني للكذب. فدرست البوذية والإسلامية بكتبهما الأصلية، ودرست المسيحية بعناية خاصة، بكل ما كتب فيها وبحياة اساتذتها الذين كانوا حولي. فوقف فكري وانتباهي أولاً على درس المؤمنين من أبناء بلادي المقربين منى، علماء الأرثوذكسية وعظماء المفكرين من رجال الدين والرهبان الشيوخ المؤمنين بأن الخلاص يتوقف على الإيمان بالفادي. فكنت أسعى إلى هؤلاء المؤمنين وأسألهم عن إيمانهم وعن عقائدهم في الحياة والغاية منها. ومع أنني كنت أبذل كل جهدي لتجنب المناظرات والمجادلات معهم فإنني لم أستطع أن أعتنق إيمانهم. فقد رأيت أن الذي كانوا يطلقون عليه إسم الإيمان، لم يوضح لي معنى الحياة، بل عمل بالأحرى على زيادة ظلمتها [...] لم أستفد شيئاً بل رجعت إلى هاوية يأسي الأول، أوفر شقاء وأكثر تعساً. فكنت كلما بالغوا في بسط دقائق عقائدهم أمامي أشعر بملء الوضوح أنهم على ضلال، وأن عقائدهم كلها لا تستطيع أن توضح لي معنى الحياة [...] أدركت أن إيمان هؤلاء ليس بالإيمان الذي نشدته، بل هو شكل من الأشكال التي يلجأون إليها ذوو الشهوات في الحياة لتبرير ذواتهم تجاه الحياة [...] الإنسانية، لكي تعيش، وتواصل حياتها شاعرة بمعنى هذه الحياة، تحتاج إلى نوع آخر من الإيمان أنقى وأصدق من الإيمان الذي عرفته. صــ 80 : 83
▬ ما رأيته في عامة الشعب مناقضاً على خط مستقيم لما رأيته بين الخاصة من أبناء الأشراف والأغنياء، الذين كانت حياتهم بدون الإيمان سهلة جداً عليهم، ولم يكن بين كل ألف منهم مؤمن واحد: في حين أن الفقراء والعامة لم يكن بين الألف منهم رجل واحد غير مؤمن... صــ84
▬ إن حياة طبقتنا الغنية والمتعلمة أصبحت مكرهة في عيني، ولم يبق لها أقل معنى في عقيدتي. فجميع أعمالنا، وأفكارنا وعلومنا ، وفنوننا، ظهرت لي بأشكال جديدة وصور جديدة. فأدركت أنها كلها لعبة صبي صغير لا معنى لها. وثبت لدي أن حياة العمال، وجميع أبناء الإنسانية المشتغلين بالإنتاج، والعاملين على البناء والتعمير، هي وحدها الحياة الحقيقية التي يجدر بي وبكل عاقل أن يسعى إليها. أجل، فقد أدركت جيداً أن هذه هي الحياة الحقيقية، وأن المعنى الذي يجده أبناؤها فيها هو المعنى الحقيقي للحياة ولذلك قبلته بفرح عظيم. صــ86