لما التقيتها
قالت: قد تبلغ مبلغا يقال لك أصحبناك السلامة ، وأسقطنا عنك الملامة ، فلا
تسطيع فعل شيئ أكثر مما فعلت وقدر لك ·
(1)
وكأنني كنت
أسير وحدي في طريق واسع ·· تتعامد نهايته مع طريق آخر يوازيه النهر ··
وجهه أطل علي وهو يبتسم ابتسمته المعهودة " أنا وصلت لكل ما أبغي في حياتي
رغم صغر سني نسبيا ·· اتسعت ابتسامته حتي أصبحت ضحكة مشاغبة وهو يرمقني
وأنا أنظر إلي صلعته وإلي شعره الابيض ، الذي لم يعد فيه مكان لأي سواد ··
وقال أنا لست صغيرا في العمر مثلك أيها المراهق أنا تجاوزت الاربعين ربما
بخمسة أعوام أو ستة أو سبعة لا أدري بالضبط ·· وماذا يهم أن أدري ؟ علي أي
حال مثلك لا يفهم فلسفتي في الحياة ، بنيت المستشفي التي كنت احلم بها
وتغربت من أجلها عشر سنوات في الخليج ، لكني ضقت ذرعا بالمرضي وشكل
المشارط والمقصات وغرف العمليات ومنظر الدم ·
- لكنك جراح
ناجح ·
- وليكن ··
أشعر أني لم أخلق لأكون جراحا ، لدي رغبة أن أكون عازفا ، أو مطربا ،
لذلك اشتريت هذا الفندق ، وأسسته كما أهوي في الهواء الرحب ، لا تبصر
أمامك إلا مساحات شاسعة من الخضرة والورود ولا تشم إلا رائحة الورد ·· أنظر
هذا التمثال أهداه لي مثال سكن في الفندق فترة ·· ألا تري التمثال يشبهني
وهو فاتح ذراعية للدنيا ·
وهو يتحدث
معي ونحن نعبر شارع الازهر متجهين الي إحدي المقاهي ·· مد يده في جيبه
وأخرج ورقة مالية كبيرة وأعطاها للشحاذ الذي قال وهو يدعو له وقال في ختام
دعوته "أدمن الشرب بكأسنا مع السكر والصحو ، كلما أفقت أو تيقظت شربت ، حتي
يكون سكرك وصحوك به ، وحتي تغبب فؤادك عن الشراب والكأس " ·
ضحك وقال :
عندما أعطي أحدا أشعر أني غني حقا ، لأن الآخر في حاجة إلي ··
قلت له : هل
فهمت ما قاله الشحاذ ؟
- إذا فهمت
لغتهم ستتعب كثيرا ·
- وربما
أستريح ·
صمت ··
بادرته ·· ولماذا لم تعد تذهب للفندق كثيرا لتمارس هويتك بالاستماع
للعازفين ·· ومشاهدة الراقصة " روزانا " التي تحب رقصها ؟!
قال : مللت
من كل شيئ ·· لا أدري لماذا ؟
غاب عني وجهه
وأنا أسير ·· صوت سيارة مجنونة تجلد عجلاتها أسفلت الشارع بعنف ·· وصوت
صرخة الفرامل يصم أذني : ما الذي يفعله هذا السائق المجنون ·· لما تطلعت
للسيارة وهي تمرق بسرعة ، كان وجهها يتطاير من الزجاج " يالها من مجنونة "
·· عادت السيارة ودارت عند تقاطعها مع طريق النهر إلي الشارع الذي أسير فيه
·· وقفت أتطلع إليها ، وهي تعود مرة أخري وتمرق من جانبي وسائقتها
ترمقني بنظرة حادة ·· أردت أستعطافها ورجائها أن لا تفعل ذلك مرة أخري ··
ضاعفت سرعة سيارتها الرعناء ، وكأنها تندفع نحو التهر ، يبدو أنها سائقة
ماهرة ولن تسقط ، لكن حدث المحظور طارت السيارة إلي النهر ·· اندفعت
مهرولا قطعت الشارع المؤدي للنهر ، لأبصر بضع أفراد من المارة واقفين علي
حافة النهر ·· يثرثرون ·· ويجادلون ولا أحد يفعل شيئا ·· وفجأة انقطع
التيار الكهربائي من كل مكان ·
------
من أراد
العز فليدخل في مذهبنا ، وأرح بدنك ثم كن كيف شئت ، فإننا لن نتركك وحدك
،لكن لا تنظر إلي الامور بعين الدهشة ، ولا تصحبك الرهبة ، ولا تعلق قلبك
بالظفر دائما ، فإنك لا تدري أتصل إليه أم لا ؟ وإن وصلت إليه فلست تدري
ألك هو أم لغيرك ؟
( 2)
أخذت أهرول
في الطريق ·· أبحث عن رقم هاتف أطلب منه النجدة لهذه المسكينة التي وقعت
بسيارتها في النهر ، خابظني لم أجد هاتفا ·· سألت أحد المارة ·· أشار إلي
دكان صغير في أقصي الشارع الذي جئت منه ، ربما أجد فيه هاتفا أطلب منه
النجدة ·· هرولت أكثر ، وجدت زحاما كثيفا أمام الدكان ، اخترقت الزحام ،
أخبرتهم بما رأيت وما صار ·· ابتسمت وجوههم الباهتة ، بلا مبالاة ، وأنا
أدير قرص الهاتف أطلب الشرطة أو النجدة ·· طالعت فتاة سمراء وهي مشغولة
بالبيع للزبناء ·· أستاذ : ماذا تفعل بالهاتف إنه معطل منذ فترة كبيرة ؟!
تعجبت من
نفسي ومن اضطرابي ·· الذي نبهني إليه ضحكة صارخة من امرأة عارية الصدر
ملتصقة بجسدي ، وهي تطلب من الفتاة علبة سجائر من مارك مالبوروا ·· رمقتني
بنظرة وهي تقول :
- إية يا
أستاذ أنت شارب حاجة ولا إية الهاتف جثة هامدة ·
سألتها :
ماذا أفعل لأساعد هذه المسكينة التي سقطت في التهر ·
دوت ضحكتها
الماجنة ، وهي تقول : أتركها للسمك يأكلها ·
لم أعرها أي
اهتمام ·· عاودت لسؤال الفتاة ومناكب الزبناء تزاحمني ·· هل لي أن اشتري
منك كشافا - مصباحا بالبطارية - ردت علي أنه لا يوجد لديها سوي شموع ·
قلت لها
أعطني شمعة ·· بل اعطني كل الشموع " سأوزعها علي الواقفين علي حافة النهر
ربما يلفت ذلك الانظار ، فيأتي من ينجدها ، إن كانت علي قيد الحياة " ·
--------
هل الامر
فيه خير لك أم شر ؟ أهو لك أم لغيرك ؟ هل هو لحبيبك أم لعدوك ؟ كيف يسكن
القلب إلي موهوم تتصور فيه هذه الوجوه كلها فاطلبه وأنت متعلق وناظر إليه ،
اعلم أننا لم نمنعك عن بخل وإنما منعناك لأمر فيه مصلحة لك ، إذن فقد
أعطيناك ·
(3)
أطل وجهه علي
من ظلمة الطريق الذي أنا أسير فيه وفي يدي الشموع المشتعلة ، كلما أطفأت
واحدة أضأت أخري ·· قال : ماذا تفعل أيها المجنون ؟
قلت له وأنا
أنظر إلي صلعته التي تلمع وسط الظلام : أحاول انقاذ المرأة التي بالسيارة
، تعالي معي أنت طبيب ربما سنحتاجك ··
ضحك وقال :
الطبيب في حاجة إلي طبيب ·· آلالم المعدة تداهمني الآن ربما أكثرت من
الشراب البارحة ·
قلت : أخشي
أن تكون ماتت·
قال : وما
الموت ؟ ·· ربما استراحت ·
قلت : اهذا
وقت ستخف به مني !
قال : لا
والله ·· الموت أسهل مما تتخيل ·· إنها إغماضة جفن لا أكثر ·
--------
لا تفقد
العطاء ، فمن فقد العطاء مات قلبه ·· ادنو منا فربما يتسع النظر ، فتتكشف
لك الامور ، فيدخل النور قلبك ويصلح ما كدره الهوي ·
(4)
وقفت علي
حافة النهر وحدي ·· ولم أجد أحدا بجواري ، تطلعت إلي النهر ، فلم أجد
أثرا للسيارة ولا لسائقتها ، عاد وربت علي ظهري وقال : تعالي نسهر سهرة
حلوة ننسي بها كآبة ليلتك ··
لم أذهب ،
لكنه ذهب وحده ·· كنت كدرا حزينا ، حزنا لم أعرف مثله في حياتي ·· واصلت
السير وحدي ، وأنا أشعل شمعة كلما انطفأت أخري·
8/9/2002