أصر الطفل عصام ذو الخمس
سنوات ابن الأستاذ الجامعي د. عبد الكريم مفتاح أصر على مصاحبة أبيه الذي
تعود الذهاب إلى الشاطئ مع مجموعة رفاقه (شلة التخزينة) .
في البدء رفض الأب أن يصطحب الابن متحجّجاً بأنه قد يفسد عليه متعة الجلسة
مع بقية رفاقه وهي الجلسة الأسبوعية التي حرص على عقدها بصورة شبه منتظمة
مع بقية أعضاء الشلة.
ـ يا شيخ خذه معك على الأقل خليه يشوف البحر. . . . .(قالت له زوجته هيفاء
المعلمة في المرحلة الثانوية).
ـ ولماذا لا يبقى معك في البيت؟
ـ أنا معزومة على القات عند صديقاتي، وأنت عارف أننا نخزن في مكان مغلق،
وهواء البحر أفضل له. .(ثم مداعبةً). . أليس كذلك يا زوجي الحبيب؟
ولما كان عصام هو ابنهما الوحيد والمدلَّل الذي لا يُرفَض له طلب فقد أذعن
الأب لطلبه خاصةً بعد أن رأى عدم ممانعة رفاقه.
ـ وماذا سيضرنا فيما لو أتى معنا؟ قال الأستاذ هاشم الموظف في إدارة
البريد.
ـ أنت تعرف أنه لن يقاسمك القات فهو لا يخزن إلا من المطول. قال عبد الرؤوف
سائق سيارة الأجرة مازحاً.
واشترط الأب على عصام أن يلعب مع الأطفال بعيداً عن الشلّة حتى لا يعكر
عليهم الجلسة ومن أجل التعرُّف على أصدقاء جدد من الأطفال.
ـ تمام يا حبيبي؟! تساءل الأب بحنان.
ووافق الطفل على شروط أبيه دونما مناقشة.
وهكذا قررت الشلّة أن تصطحب معها الطفل عصام.
حمل الأب حقيبة النارجيلة وترمس الماء والمدكاة ووضع كل هذا في مؤخرة
السيارة، بينما جلب كل من الآخرين ما يلزمه من لوازم الجلسة كثلاجة القهوة
والأكواب والماء المبخر واجتمع الأفراد العشرة لا ينقصهم إلا المهندس جواد
العامل في مصلحة المساحة والذي خرج منذ يومين في مأمورية خارج المحافظة.
كان الشاطئ مزدحماً بالمتنزِّهين وكان معظم (إن لم يكن كل الذين يسبحون) في
مياهه من الأطفال أما الكبار من الرجال والنساء فقد اكتفوا أما بالتفرُّج
ومراقبة الأطفال أو بممارسة بعض اللعب ككرة القدم أو بتشكيل حلقات متباعدة
يمضغ أفرادها القات ويدخنون السجائر أو النارجيلة والبعض القليل، ومعظمهم
من الأجانب، كانوا يمارسون رياضة المشي على الشاطئ.
انخرط الطفل عصام في مجموعة من الأطفال بعد أن طلب أبوه من كبيرهم أن ينتبه
لعصام وراح يركض هنا وهناك متخذاً ومجموعته من الماء الضحل مساحة للعبهم
وسباحتهم.
انغمست الشلة في خدر التخزينة وساد عبق الماء المبخر والدخان المتصاعد من
السجائر والنارجيلات ذات النكهات المختلفة ( التفاح، التوت، البرتقال. . .
الخ).
حلقات الأطفال المتعددة والمتقاربة حيناً والمتباعدة حينا آخر غطّت معظم
مساحة الشاطئ، وفي أجواء الصراخ واللعب والضجيج لا يستطيع الإنسان أن يميز
ما يجرى.
بدأ التدافع باتجاه إحدى الحلقات عندما سمع صراخ بعض أفرادها:
ـ إنه يغرق. . .إنه يغرق!
لم يعلم أحد من هذا الذي يغرق، وكان معظم التساؤلات يتجه نحو محاولة معرفة
هوية الغارق بينما كان الماء يلف الجسد البشري الذي يطفو حيناً ويغطس حينا
آخر، والدوامة تدور وسط الشاطئ مبتعدةً باتجاه الأعماق وتنادت أصوات هنا
وهناك:
ـ يا جماعة أسرعوا لإنقاذ الغريق؟
ـ يا ناس هل سنظلّ نتفرج هكذا؟
ـ ما هذه السلبية التي سيطرت على عباد الله؟
ومن المؤخرة صاحت إحدى النسوة:
ـ يا ناس ماذا أصابكم؟ كيف تتفرجون على هذه الحادثة دون أن تهتزّ لكم شعرة؟
وعلى مقربة منها علق رجل كهل ذو نظارات طبية:
ـ لو حدث هذا في إحدى الدول الأوروبية لتدافع الناس لإنقاذ الغريق؟
ـ تلك أوروبا الناس عندهم ضمير حي . . هل تريد بلاد العجائب أن تكون مثل
أوروبا؟ (علق أحد الشباب وكان ما يزال محدّقًا في مسابقة الكلمات المتقاطعة
على صفحات إحدى الصحف اليومية).
ـ والله أنه أمر عجيب! . .طيب وأين أهل الغريق؟
ـ لا أحد يعرف من هم أهله؟
كانت الدوامة تخفُّ حينًا وتقوى حيناً آخر واتّضح أن الغريق ما يزال حياً
حيث كان بين الحين والآخر يرفع يديه في محاولة للتمسك بأي شيء.
ـ يا جماعة هذا طفل صغير.
ـ يبدو أنه شاب وإلاّ كيف سيغامر للسباحة على هذه المسافة لو أنه كان
طفلاً؟
ـ هو كان يسبح بجانبنا ولكن الرياح هي التي دفعته إلى هذا العمق؟ . . (صاح
أحد الأطفال).
ـ وهل تعرفه؟ . .(تساءل أحد المحتشدين وكان التوتر بادياً على ملامحه).
ـ لقد نسيت اسمه لكن أباه كان قد أتى به قبل حوالي ساعة وطلب منا الانتباه
له.
ـ وأين أبوه؟ . .( تساءلت المرأة التي كانت أكثر الناس توتراً وقلقا).
ـ لا أدري. .(أجاب الطفل) .. لقد كان يأكل القات عندما أتى به إلى هنا.
ـ يا جماعة عيب عليكم أنقذوا الولد؟
ـ والله حرام عليكم سيموت وأنتم تتفرجون؟
ـ والله لو كنا في دولة أجنبية كان الولد قد أنقذ؟
ـ يا أخي الناس هناك عندهم ضمائر؟ ويتصرفون بكامل المسئولية والأخلاق؟
كان حشد المتفرجين يزداد عندما تدافع الناس من عدة أماكن ومع ازدياد العدد
يزداد السخط والنقد اللاذعين في المطالبة بضرورة التدخل لإنقاذ الغريق،
ولكن دون أن يبادر أحد لعمل شيءٍ ما.
ما إن بدأت علائم الغروب تطل بأشعتها الصفراء المتسللة من بين السحب
الرابضة على الأفق حتى جمع كل من الدكتور مفتاح ورفاقه لوازم القعدة ونقل
كل منهم حاجياته إلى سيارته وكانوا في قمة النشوة نتيجة للذة القات وحلاوة
القعدة ومتعة الحديث والضحك وما استنشقوه من هواء البحر ودخان النارجيلات
والسجائر.
عندما وصل الدكتور عبد الكريم إلى المنزل بادرته زوجته.
ـ أين عصام؟
ـ لقد نسيته في الشاطئ.
عاد على أعقابه ترافقه الأم هيفاء التي كانت في غاية القلق والاضطراب
وعندما بلغ الشاطئ رأى حشداً من الرجال والنساء والأطفال يتوسطهم بعض رجال
الإنقاذ الذين أحاطوا بجثة الطفل الغريق بعد أن كان قد فارق الحياة وفجأة
يقفز من بين الحشد أحد الأطفال صارخا مشيراً باتجاه الدكتور عبد الكريم:
ـ هذا أبوه . . .هذا أبوه! !
ـ البقية في حياتك يا دكتور . . . (صاح أحدهم بعد أن تعرف على الدكتور عبد
الكريم وزوجته الأستاذة هيفاء)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ