الربيع العربياعداد : عبد الرحمن أيمن – تمهيدي دكتوراه – قسم الفلسفة- كلية الآداب- جامعة الأسكندرية
[size]
* ملخص الدراسة:
توضح الدراسة أبرز المبادئ و الأفكار الأساسية المتعلقة بعلاقة القوة و السلطة بالمجتمع، فنناقش أهم مبررات وجود السلطة و أبعاد الخضوع و التمرد، و أن الدولة الحقيقية هي التي تقوم على سيادة القانون و على الشرعية المؤسسة لا على سيادة القبيلة أو شخص أو تنظيم ما، و جوهر الأزمات التي تواجهها السلطة بشكل مجرد، فبما أن سلطة الحكومة لابد أن تُفرض أو يتقبلها المجتمع، فإن ما يحدد قوة الانضباط هو قدرة المجتمع على تنشئة أفراده على احترام العلاقات بداخله، و قدرة النظام الاجتماعي على أن يكون محركاً يقود عملية تحديث قدرات أفراده و يمكنهم من الارتقاء الاجتماعي و التطور و كذلك يكون بالمرونة التي تمكن المجتمع من حماية أفراده من الأزمات التي لايمكن للفرد مواجهتها بعيداً عن المجتمع، و عجز الدولة بالعالم العربي يبدوفي استيعاب القوى الاجتماعية الجديدة، و عجز النظام الاجتماعي بالمنطقة العربية على تبني عملية إصلاح و تحديث بهدف تطوير كل جوانب المجتمع لا بهدف الحفاظ على وضع النخب الممسكة بالسلطة أو التي لا تسمح بمشاركتها.
* Abstract:
The study illustrates the most prominent principles and ideas related to the power relation and the authority within society. Thus, the debate is about the justifications of power existence and the dimensions of subjection and rebellion. And the genuine state should beestablished on the authority of law and structural legitimacy not in the tribal affiliations, personal characters or any other organizations.
In addition, the essence of crises which the authority may abstractlyconfront, that is, the governmental power must be imposed on society’s acceptance. Though, the society’s capacity in socialization makes the discipline power determining the system abilities to be the steering power which could lead the development process of its individuals. Hence, it enablesthem to progress and acquire the required resilience to protect people from massive crises, which, they couldn’t face alone.
In conclusion, the state’s deficiency in the Arab region relates not only to the incorporation of new social groups but also, incapability of social system in these states to adapt a reform and modernity processes to develop all community’s aspects not onlytosustain its power and authority.
*مقدمة:
” قد تسبب القوة الغالبة قيام عصابة من اللصوص، ولكنها لا تسبب قيام الدولة”
[1]، وقد عني “جان بودان” بهذه الكلمات الدولة المنظمة، حيث لا تشكل فيها القوة المبرر الوحيد للسيادة لكن قبل ذلك الاعتراف بسلطة لها سيادة أي الشرعية، و بحيث يقبل المجتمع سلطة الدولة في اخضاع أفراده، فتعتمد الدولة في سبيل الدفاع عن نفوذ سلطانها على قوة الانضباط بدلاً من استخدام القوة العمياء ضد المقاومة التي تلقاها في إطار آليات و مظاهر القوة التي تحكم المجتمعات و الأفراد أو ما أسماه “ميشيل فوكو” (Michel Foucault) استراتيجيات لعبة القوة
[2] (The game of power strategy).
و إذ يعاني واقع السلطة في العالم العربي عموماً مما أسماه “كراسنر” (Krasner) “نفاق السيادة”
[3]، فسلطة الدولة شكلية و شبه مؤقتة لعدم وجود آلية لاستقرار مستدام فتعاني معظم الدول في العالم العربي من غياب السلطة ذات الشرعية المؤسسة متمثلاً في قصور فاعلية مؤسسات الدولة و هشاشة حكم القانون، و ضعف التأييد الشعبي، و ذلك في مقابل تحديات التدخل الخارجي، و تآكل سلطة الدول المركزية في مقابل سلطة الكانتونات الأصغر، لذا فدراستنا و من خلال الانطلاق من عرض لأبرز الأفكار و النظريات المرتبطة بالقوة و السلطة و الحد الفاصل الذي تشكله الشرعية حيت تدخل على أحد المفهومين،و الشكل الذي تأخذه أزمات مفهوم القوة داخل المجتمع، و كيف أن آليات و مظاهر و ممارسات القوة جزء من الفعل الاجتماعي و الفردي، فتهدف الدراسة إلى محاولة فك اللغز المرتبط بهشاشة و اهتزاز سلطة الدولة في العالم العربي، كيف أن هذا التحدي يمثل أزمة مستدامة بفعل تبني السلطة لعملية تحديث منتقصة بهدف بقاء السلطة لا إصلاح المجتمع، حيث تشعر النخب الممسكة بالسلطة بخطر إجراء تحديث حقيقي، كونه قد يقود إلى خروجها من السلطة.
* إشكالية الدراسة:
[/size]
- “ما هي أساسيات و مبادئ نظرية القوة و السلطة و كيف تكشف واقع الحكم في العالم العربي؟”
[size]
* منهج الدراسة:
استخدمت الدراسة المنهج التحليلي النقدي، حيث استعرضت أبرز المقولات المتعلقة بنظرية القوة و السلطة و الشرعية، و أبرز تعريفاتها و الاشكاليات المتعلقة بالمقاومة التي تتلقاها دوائر القوة التي تمارس بالمجتمع، و حجم و شكل هذه المقاومة تبعاً لشكل القوة الموجودة داخل النظام الاجتماعي، كما أننا نتعرض بالنقد لشكل السلطة التي نشأت بالمنطقة العربية، و كيف كانت الاتجاهات الاصلاحية و التحديث المتبع، مجرده من محتواها و مكرسة من جانب السلطة يذهب أثرها بذهابها، حيث لم تكن عملية تلمس كل جوانب المجتمع، بل فقط بهدف الحفاظ على استمرارية سلطة الدولة التي ظلت تواجه بفعل هذا الوضع تحديات مستمرة تتعلق ببقاء الدولة الهشة و حماية النظام الاجتماعي من التفكك و من تحديات التدخل و مواجهة الأزمات المتعددة.
أولاً: القوة المتسلطة في مقابل السلطة الشرعية (Structural legitmacy)
يتحدد خطاً فاصلاً بين مصطلحات القوة و السلطة و الشرعية، فيعرف “ويبر” (Max Weber) القوة أنها “إمكانية أن يكون فاعل ما داخل شبكة العلاقات الاجتماعية في وضع يسمح له بتحقيق رغباته بغض النظر عن المقاومة المحتملة و دون اعتبار للقواعد التي يرتكن إليها هذه الامكانية.”
[4]، فالقوة حسب (Giddens) مفهوم أساسي في العلوم الاجتماعية، فكل فرد عبارة عن فعل اجتماعي، و من هنا تكمن القوة في إحداث فارق على الساحة الاجتماعية الموجود فيها الفرد، أو كما يسميها (Giddens) (Transformative power)
[5]، و الغاية من هذا الفعل الاجتماعي (القوة) هي المسئولة عن إحداث هذا الفارق، لكن نتائج هذه الأفعال الاجتماعية قد تتعارض بإختلاف مصالح و غايات الأفراد، في حين أن العامل الحاسم حينها يكون مقدار القوة طبقاً للموارد و الامكانات التي يستحوذ عليها الأفراد، و التي قسمها (Giddens) إلى إمكانيات تخصيصية و تعني أدوات الإخضاع المادي مثل: المال أو السلاح و غيرها، و الإمكانيات السلطوية و تعني الاستحواذ على نشاطات الأفراد كأن يكون الفرد على قمة تنظيم ما أو موظف عام يملك القرار
[6]، و هذا يعني أن هدف القوة هو تحقيق الهيمنة حيث تبرز العلاقة السبببية- التي اقترحتها أفكار هوبز عن الرشادة و عقلانية تعريف القوة و طورها بعد ذلك ويبر في أفكار تنظيمية عن البيروقراطية- فلكي يكون لدى الفرد القدرة على جعل الآخرين يقومون بأشياء حتى لو كانوا لا يريدون القيام بها، فلابد أن يستند منطق القوة في تلك الحالة على أسس و أسباب تقبلهم لهذا القدرة أو القوة، سواءً كان يتعلق هذا السبب بالإقناع أو القمع
[7]، و كما يرى (Lacewing)، فإن منطق القوة في السياق السياسي قد يتضمن حوافز لحث الناس على التعاون أو تتضمن استخداماً للتهديد و العقوبات و القوة المادية، و في الحالتين يتكون إخضاع أو ما يعرف باسم “السلطة”، و الدولة بهذا المعنى تملك القوة و السلطة و قوتها تنطوي على علاقة حقيقية (Factual realation) متمثلة في قدرتها على سن القوانين و تطبيقها
[8]، بينما السلطة تنطوي على خضوع المجتمع لهيمنة الجولة متمثلة في حفظ النظام العام، و احترام المواطنين للقانون، سواء كان ذلك نابعاً من قمع و إجبار الدولة أو الاحساس العام النابع من كون هذه السلطة مبررة أي أن سلطة الدولة تصبح شرعية، و السلطة الشرعية كما يرى (Lacewing) هي التي تفرض واجبات على مواطنيها ليس فقط بإستخدام القوة لكن بوضعهم في موقع بحيث يكون عليهم إلتزام القيام بهذه الواجبات- طاعة القانون في هذه الحالة- أي أن تستند على ممارسة القوة بناءً على مبرر أخلاقي يتعلق بأن هذا الإلتزام ليس تجاه الدولة التي هي قوة فوقية بل تجاه المواطنين الآخرين الذين بإتفاقهم نشأت الدولة أو الحكومة لكي يستفيد الأفراد من اجتماعهم لا الدولة التي المعنى تخضع للمجتمع كما هي تخضعه، لكن ما هي آليات إخضاع الأفراد و المجتمع و كيف تمر هذه الممارسة.
[9]ثانياً: إخضاع الأفراد في مقابل مقاومتهم:
يتواجد الأفراد داخل شبكة من العلاقات الاجتماعية، و التي تحتم الخضوع بشكل دائم لمحاولات ممارسة القوة عليه، بحيث يجب أن نستسلم كما يرى (Lacewing) لرؤى المجتمع عن كيفية التصرف كشرط للعيش المشترك. لكن المعضلة تكمن هنا في أن المجتمع يجد صعوبات في تنظيم نفسه دون وجود إجراءات حكومية سلطوية، و هو ما يثير اشكالية تتعلق بأن الأفراد سيقابلون قوة التأثير التي تسعى إليها السلطة بمقاومة تسمى قوة الإستقلال مدفوعة برغبتهم في تحقيق الذات، كما أكد (Jevis) في نظريته سيكولوجية
[10]، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار الطبيعة التنافسية للمجتمعات الليبرالية بشكل عام، و إذا ما عجزت قوانين السلطة في منع إلحاق الضرر لبعضهم البعض نتيجة لعدم احترام السلطة إلى الحد الأدنى لأكبر نسبة من مصالح الإفراد، و إلا يسقط مبرر وجود السلطة من الأساس كما يرى “ميل”.
و توجد ثلاثة أبعاد أساسية يقوم عليها تحليل الخضوع و التمرد، هذه الأبعاد طورتها نظرية (Gavinta) كالآتي
[11]:
[/size]
- البعد العلني لعلاقات القوة:
[size]
و يبدو هذا البعد بتتبع سلوك القوة، من يشارك، من يفوز و من يخسر، و من يعبر عن نفسه في عملية صنع القرار، و يقوم هذا البعد على افتراض أن:
[/size]
- الأفراد دائماً ما يحاولون المقاومة و التصرف لرد الظلم.
- هذه الممارسات في علاقات القوة تحدث بشكل علني و واضح في ساحة إتخاذ القرار.
- هذه الساحات السياسية مفتوحة لأي مجموعة منظمة.
- القيادات ليست نخب لها مصالحها، على العكس هي تمثل مصالح الجميع و تتحدث بإسمهم.
[size]
بالتالي هذا يقود إلى أبرز سمات هذا البعد بحسب (Gavinta) وهو أن الأفراد حين يحددون تصرف ما مع مشكلة ضمن نظام مفتوح (Open system) لحلها، يتم ذلك إما بمشاركتهم مباشرة أو من خلال تمثيل قيادتهم، بالتالي قصور المشاركة أو الصمت السلبي ليست مشكلة في آليات المشاركة المجتمعة بقدر ما هي قرار فردي شخصي بعدم المشاركة.
[/size]
- البعد الخفي لعلاقات القوة:
[size]
و هذا البعد من أكثر الأبعاد ذات العلاقة بوضع آلية لها القدرة على مناورة إمتدادات الصراعات المفتوحة و نتائجها من خلال فاعلية أكثر لآليات القوة الموجودة و قدرتها على إشاعة الهدوء في مجال إتخاذ القرار و منع الصراع فيه، فأحد أهم جوانب القوة في تفاعلات صنع القرار، هو تحديد أجندات هذا التفاعل مقدماً، بحيث يتحدد ما إذا كان سيتم طرح قضايا ما للتفاوض. فمن يملك القوة سيقوم بتعبئة قواعد اللعبة لتكون في صالحه على حساب الآخرين، فـ(Gavinta) يرى في نظريته أنه بالإضافة للأبعاد العلنية للقوة داخل مجال صنع القرار سواء بالتهديد بالعقوبات، ممارسة القمع يوجد أيضاً التحيز التعبوي (Mobilization of power) الذي يولد حالة سلبية تجاه موضوع ما، و يعني دعم و تأكيد القيم و المعتقدات و أنماط و إجراءات إتخاذ القرار التي تقود إلى تقديم تعريف محدد لمسألة أو مشكلة ما، و بالتالي تتكون حدود و رموز معرفية جديدة تهدف لإفشال أي تفاعل لتوسيع مجال الصراع خارج الإطار المرسوم له.
ثم يتحدث (Gavinta) عن آلية أخرى بهذا البعد و هي اللافاعلية المؤسسية التي تؤدي إلى ما يسميه قرارات اللاقرار (Decisionless decision)، و التي بتراكمها تؤدي للتحكم في أطر و تكوين صنع القرار كنتيجة غير ملحوظة.
ج- البعد الكامن للقوة:
و يتعلق بتكوين نفوذ على الوعي و الإدراك، بحيث تستخدم الموروثات الاجتماعية و الرموز اللغوية و المعرفية لتطوير شرعية اجتماعية حول المجموعات المهيمنة، فتصبغ الوعي السياسي للأفراد من خلال التأثير على معتقداتهم و أدوارهم، و هذا البعد مرتبط بذلك الصراع على المصالح بين الفاعلين بعلاقات القوة و ما أسماه (Gavinta) المصالح الحقيقية (True interests) لهؤلاء المستبعدين من ساحة هذه التفاعلات، فعلى عكس البعد الأول الذي يستمر فيه الفاعلين مهاراتهم و إمكاناتهم للحصول على ميزة في تلك التفاعلات سواء كخبرة سياسية، فاعلية شخصية أو قوة تنظيمية، أو أصوات انتخابية، بالتالي قد تفيد مراقبة و تحليل سلوك الأفراد كأداة لفهم علاقات القوة بعكس هذا الوضع الذي يمنع فيه النظام إدعاءات أو إحباطات الأفراد من التحول إلى قضايا سياسية، و هنا يتطلب الوضع دراسة للعوامل التاريخية و الاجتماعية التي شكلت من الأساس سلوك الأفراد و توقعاتهم و كيفية تكوين وعي الأفراد بشان مشاكلهم.
ثالثاً: الحكومات و أزمات علاقات القوة:
” الحكومة هي ذلك التكوين المعقد من القوة التي يكون هدفها هو الشعب، و الاقتصاد السياسي أبرز صور معرفتها، و الأجهزة الأمنية أدواتها الفنية الأساسية”
[12]، عندما قال “ميشيل فوكو” هذه الكلمات كان قد حدد مرحلتين أساسيتين لتطور منطق إدارة القوة لدى الحكومات، و هما:
[/size]
- المرحلة الأولى: و التي تستخدم فيها الحكومات تقنيات الانضباط (Technology of discipline) في سعيها لضبط المجتمع و إخضاعه إلى أقصى مدى.
- المرحلة الثانية: و تتعلق باتجاه الجكومات لتبني منطق جديد ابتداءً من القرن الـ18 للحرية السياسية (Political liberalism)، كرد فعل لفشل إضطلاع الحكومات بمهمة تنظيم كل تفاعلات الأفراد و المجتمع، و التسليم بفكرة أن المجتمع لابد أن ينظم نفسه بشكل طبيعي و تلقائي، بحيث يصبح استخدام قوة القمع المباشرة فقط في الحالات القصوى.
[size]
و بحسب “فوكو” فإن الانضباط ينشأ من التكوين و الفهم الذاتي للأفراد أنفسهم، فكل تفاعلات الأفراد تكون ضمن مجال مقارنة دائم مع مجموعة من المعايير التي تسهم تطورات المجتمع التكنولوجية في تكوينها مثل: الأفكار عن العرق و الجنس و الصحة و الرفاهه و غيرها، وة هي تشكل ما يعرف بقوة المعايير (Power of norm) و التي تشكل ضغوطاً على الأفراد، و معايير للانضباط بحيث يعتبر الفرد نفسه عضواً بشكل شرعي في مجموعة متجانسة هي المجتمع
[13]، إذاً فإن فإن نقص الشرعية جزء منه مرتبط بخلل في التجانس الاجتماعي (Social integrity).
[/size]
[size]
يسميها “Clegg” دائرة القوة الاجتماعية و التي تتجدد فيها القواعد التي تتحكم في العلاقات ذات المعنى الاجتماعي و في كل الحياة الاجتماعية، و بحيث تنشأ و تتكون الانتماءات و العضوية الاجتماعية، و قد شبهها بلعبة الشطرنج حيث تأخذ الملكية أهمية أكبر من الفارس طبقاً للقوة التي ترتبها قواعد اللعبة بحيث تحدد قدرة كل منهما، و الخطوات التي يأخذها كل منهما. و يطلق “Clegg” على مثابل تلك القوة الاجتماعية قوة التقدير (dispositional power)، التي رأى أنها تسمح للبعض ليس فقط بمساحة مناورة اجتماعية أكبر، بل أيضاً سلطة لإعادة تعريف هذه القواعد، كون أن هذه القواعد نفسها تعطيهم من القوة ما يمكنهم من إمتلاك حرية استخدام هذه القواعد حسب ما يتراءى لهم، أكثر من رموز المجتمع و طبقاته الأخرى التي يسمح لها بالتحرك ضمن إطار محدد سلفاُ فيما يعرف بعملية التنشئة الاجتماعية.
[14]و يترتب ضمنياً بناءً على هذه الحالة عدة استراتيجيات متاحة لمقاومة دوائر القوة الاجتماعية، و هذا جوهر أزمة التكافل الاجتماعي، و التي تتعلق برفض قواعد القوة الاجتماعية كلية، أو معارضة المعنى و الأهمية التي يعطيها الآخرون لهذه القواعد أو ما يترتب عليها.
و قد أدرك “Jurgen Habermas” أن أزمة الشرعية لا تتعلق بالسلطة السياسية بقدر ما تتعلق بشكل النظام الاجتماعي الذي يتواجد فيه، هذا النظام الاجتماعي يتواجد داخل بيئة تحتم عليه العمل و القيام بوظيفة الانتاج، من أجل إشباع رغبات أعضائه و احتياجاتهم، و بناءً عليه تستمر عملية تحديد التنشئة الاجتماعية، للطريقة المناسبة للتصرف و الاعتقاد داخله، فيصبح الأفراد أكثر انتباهاً للطرق التي يراها هذا النظام الاجتماعي مناسبة للتعامل مع بعضهم البعض، إلا أن كل هذا مشروطاً بعدم وجود أزمة فيما يسمى بتكامل النظام (System integrity).
[/size]
[size]
يتواجد النظام الاجتماعي ضمن إطار أو بيئة، هذه البيئة تتكون من ثلاثة أجزاء مختلفة وفقاً لـ”Hebermas”، الجزء الأول هو الإطار البيئي الخارجي (Outer nature)، و تختص بالموارد الطبيعية المتاحة، و التي بالسيطرة عليها تتشكل قوة النظام الاجتماعي.
الجزء الثاني و هو الإطار الداخلي (Inner nature)، و يختص بتطوير المعايير و الطرق الأخرى المتفق عليها للتفاعل و التعامل بين الأفراد و التي حددت سلفاً من خلال عملية التنشئة الاجتماعية (Socialization)، و هذا يتضمن طرف تربية الآباء لأطفالهم، و الطرق التي تؤثر بها وسائل الإعلام على أفكار الأفراد و معتقداتهم بشأن طبيعة هذا المجتمع الذي يعيشون فيه و طريقة عمله.
أما الجزء الثالث فيضم الأنظمة الاجتماعية المقابلة للنظام الاجتماعي الحالي، و التي تمثل له إما تهديداً أو فرص الاستفادة، و تكون الاستفادة في العلاقات التجارية مثلاً، أما التهديد فيمكن أن يكون إمكانية قيام عمل عسكري.
و تتحدد وظيفة تكامل النظام في القدرة على تأمين الحماية للأفراد من البيئة غير المستقرة – المعادية أحياناً- فهو كما يصفه (Hebermas) محرك الأداء “Steering performance” للنظام الاجتماعي، و أن تكامل النظام الاجتماعي السائد يضمن قدرته على الحفاظ على هياكله و حدود قدراته.
[15]و يشير (Hebermas) إلى أن القدرة على التوجيه تتمثل في العناصر التنظيمية الموجودة في المجتمع و التي تختص بالتخطيط لتوقع ما يمكن حدوثه من أزمات بالتحديد، هذه العناصر التنظيمية هي الإطار المؤسسي الحاكم للمجتمع الذي يحافظ على الهوية من خلال تحديد طريقة تعلم و تطور المجتمع ككل داخل حدود قدراته، مما يمنح الأفراد اليقة بالنظام الاجتماعي الموجود، لكن هذا الإطار نفسه قد يولد داخل النظام الاجتماعي، في حالة تخطي القضايا و المشاكل الناشئة حدود قدراته، مثل نسب التضخم المرتفعة و أزمة البورصة، أو نسب البطالة المرتفعة.
[16]بالتالي إذا إنهار كل من التكامل الاجتماعي و تكامل النظام الذي يقوده، فإن هذا لن يقود فقط إلى فقدان الشرعية بل أيضاً من المحتمل إنهياره، حيث سيفقد الناس القدرة على التفاعل بشكل سلمي و مدني، و سيلجأون للدفاع عن الأنا الثقافية و المصلحية بشكل عنيف يقود إلى تمزيق الدولة، و هو الوضع الذي تعاني منه النظم الاجتماعية بالعالم العربي، حيث برز في العقود الأخيرة أن الأزمات المختلفة و أبرزها أزمات الشرعية التي تعاني منها الدول العربية، لا تقتصر على ضعف سلطة الحاكم، بل تمتد إلى خلل المجتمع. فالدولة لم تسقط في العالم العربي، لكن المجتمع هو من إنهار أو في طريقه، و هو ما سنوضحه فيما بعد.
رابعاً: العلاقة بين الدولة و المجتمع في المنطقة العربية
تشكل الأجهزة الأمنية -بالتحديد الجيش- النواة الصلبة للدولة و النظام الاجتماعي في العالم العربي، و يرجع ذلك في جزء كبير منه إلى أن هذه الأجهزة الأمنية هي من تمكن من إنتزاع الأستقلال، بعدما فشلت القوى الاجتماعية الأخرى سواءً كانت النخب المدنية و الطائفية أو الأحزاب السياسية، لكن بحسب “فاوست” (Louise Fawcett) فإن تكوين الدولة بالشرق الأوسط عموماً و بالعالم العربي تحديداً، خضع لرؤية القوى الغربية المهيمنة و حلفائهم، فكانت النتيجة أن أعاق الاستعمار و هيمنة الدول الغربية من نشأة دول قوية و حديثة في هذه المنطقة، بحيث أطلق “فاوست” على دول ما بعد الاستعمار مصطلح “نصف دولة” (Quasi state)
[17].
تبرز في تلك الدول- دول الشرق الأوسط- سيادة شكلية للقانون، و شرعية ظاهرية لاتعتمد عل التأييد الواسع من الشعب، بل على عكس ذلك، ترسخت مفاهيم الدولة و سيادتها في المنطقة بشكل مصطنع و ظاهري عن طريق النخب التي أوجدتها مصالح قوى خارجية أو فرضت كقوة سلطوية، بعيداً عن عقد اجتماعي تنشأ بموجبة الدولة. مما انعكس على فاعلية المؤسسات، و تكامل الإقليم، و احترام مبدأ عدم التدخل، بل إن ما نشأ بحسب “فاوست” هو عقد سلطوي بنيت بموجبه السيادة،مما يعني أن النظام الاجتماعي الذي شكلته سلطة الدولة كان نظاماً غيرشرعياً، و لكي يبدو هذا النظام الاجتماعي قوياً كان يقوم بالدفاع عن حدود قدراته من خلال التهميش و الاستبعاد غالباً للمعارضة، لكن هذا لم يخفي الضعف في مواجهة حالة التحول الدائم من الهشاشة المستمرة التي تعاني منها الدولة بالمنطقة العربية، خاصة في مواجهة أزمات تفوقُ قدرات هذا النظام الذي يقود المجتمع، على سبيل المثال؛ في حالة الأزمات الاقتصادية و الحرمان المعيشي و عدم المساواة و الفساد المؤسسي، فتصبح الدولة حسب “فاوست” مجرد هيكل رسمي (State shell)
[18]، حيث استمر الصراع الداخلي على السلطة و السيادة مما أصابها بالتشظي، و ذلك نتيجة لأزمة الشرعية التي تعاني منها أنظمة الحكم الممسكة بالسلطة بالمنظقة العربية.
خامساً: التحديث و بقاء الدولة بالمنطقة العربية
يرى “فاوست” أن تقويض الدولة السلطة المركزية ممثلة في الحكم المطلق بالعالم العربي، و العودة في بعض الأحيان إلى نموذج ما قبل الدولة (Pre-state model)، حيث انقسمت السلطة بين شتى الفئات العشائرية و العرقية و المجموعات الدينية بدعم من قوى خارجية، إنما كان في جوهرها سعياً لايجاد نظام اجتماعي أكثر شرعيةً و إنشاء نظام حوكمة مؤسسي قادر على مواجهة الفساد و هشاشة الدولة. و قد قامت الشرعية بالعالم العربي على عدة أسس شخصية و أيديولوجية أو تقليدية أو مادية، و هو ما يعني أن شرعية النظام الحاكمة في المنطقة العربية ظلت تواجه أزمة أدت إلى قلة الدوافع العامة (Generalized motivations)
[19]، و التي تدفع الأفراد و القوى الاجتماعية للتصرف و التفكير بطريقة داعمة للنظام الاجتماعي، فتوسع باستمرار حدود قدراته في مواجهة الأزمات الاقتصادية و السياسية المختلفة.
أي أن أنظمة الحكم في العالم العربي و دول الشرق الأوسط وقعت في أزمة أعمق نتيجة الافتقاد للشرعية، و هي أزمة الدوافع (motivational crisis)، فدافع الأفراد للتصرف و التفاعل يصبح في خالة اختلال وظيفي بالنسبة للدولة.
لذا و لكي تواجه الدولة هذه الضغوط لجأت إلى إطلاق عنان عملية التحديث لاستيعاب قوى المجتمع المدني و النخب الاجتماعية إلى أقصى حد، لكن مع ذلك استمرت حالة من الانتقائية و التلاعب و التحكم في هذه المجموعات الاجتماعية، و في استيعاب مصالح هذه الأطراف بحيث يستمر النظام في التأثير و الهيمنة بما لا يسمح بحالة المشاركة السياسية بأي شكل من أن تقلص قوته السياسية، بل على النقيض يتمكن من تحصيل شكلاً من أشكال الشرعية المؤسسية.
و يرى “رمجين” (Bram Romjin)، أن عملية التحديث تنشأ وعياً سياسياً معارضاً للهياكل التقليدية، فالتحديث أنشأ وعياً لدى الأفراد ينمو بوتيرة أسرع من تطور المؤسسات السياسية الضرورية لإدماج القوى المجتمعية، و أدى إلى تقويض شرعية و استقرار الحكومة السياسي، و لكي تستعيد هذا الاستقرار اتجهت الدول إلى الممارسات الشكلية الليبرالية (انتخابات بدون منافسة- أحزاب كرتونية- برلمان و معارضة تتبع السلطة) و وضعت القيود، كما أن هذا قد جعل عملية لإصلاح نابعة من القادة السياسين لا المواطنين، أي الاعتماد على النخب و القوى التقليدية القربة من النظام مثل: العشائر و القبائل أو رجال الدين و رجال الأعمال أو الرئيس أو الملك، و الأجهزة الأمنية و الجيش، مما يعني أن استدامة هذه الإصلاحات مرتبطة باستمرار سلطة النظام الموجود، و أي تغيير يعني البدء بعملية الإصلاح و التحديث من لا شيء.
[20]و مع ذلك تظل الاشكالية هي أن عملية التحديث نفسها و إن قامت بها النخب التقليدية قد تقود إلى تهديد النظام نفسه، حيث ستظل الرغبة في الحصول على تأثير سياسي مطلب لكثير من الفئات، أي أن نظام الحكم في العالم العربي يهيئ دائماً الظروف بحسب “رمجين” لنشأة نظام معاضة مضاد، يتغذى على الممارسات القمعية داخل شبكة العلاقات الرعوية (Patronage network) التي تتولى قيادتها أجهزة الأمن و الجيش في البلدان العربية، و بناءً عليه تستمر هذه الحكومات في مواجهة تحدي الفوضى و عدم الاستقرار، حيث يرى “رمجين” أن هذا التحديث الجزئي و المقيد من جانب السلطة للمؤسسات السياسية تحديداً سيؤدي إلى نقص في الشرعية يقود دائماً إلى حالة من الاحباط و الانقلابات و الاغتيالات و القمع، و التي تتولد بشكل دائم حتى مع تغيير الأنظمة و تغيير شكل السلطة من ملكي لجمهوري.
[21]كما أن المجتمعات العربية ستظل تخضع إلى تحديين مرتبطين هما: أسلمة المجتمع المدني و التي تتجلى في بروز الروابط الاجتماعية الاسلامية و تحسين أوضاعها و شعبيتها مقابل نظيرها العلماني، حتى و لو كانت السلطة في صفه، و خطورة هذا الوضع أنه في حالة ضعف الدولة أو حتى تفعيل ممارسة الديموقراطية الليبرالية، ستكون هذه الأطراف أول من يصل إلى السلطة، ليفرض معايير مختلفة تهدد الديموقراطية بإبراز التصور الأبوي النخبوي المتجذر في المجتمعات الشرق أوسطية عموماً؛ فالأب هو المتحكم في الأسرة، وشيخ القبيلة هو المتحكم في عشيرته و السلطان مطلق اليد في رعاياه، و قوة كل اسرة أو قبيلة تختلف، و ستكون سلطة الحاكم مقيدة بمصلحة هؤلاء أصحاب النفوذ و القوة في النظام الاجتماعي لا مصلحة كل رعاياه، الشق الثاني يتعلق بتشظي الدولة بفعل هذا الصراع الذي لا يحسمه إلا دخول الأجهزة الأمنية بالمواجهة، لتعود السلطة إلى ذات المؤسسات التقليدية التي تبنت عملية تحديث قاصرة لم تصل إلا إلى بعض النخب و الفئات ولم تصيب قواعد المجتمع الأوسع، فتقود الوضع الجديد إلى سابقيه.
التحدي الآخر و يتعلق بما أسماه (Habermas) النظرة العالمية التي تشكل جزءً من وعي الأفراد و قيمهم، و التي تمثل نظام إخضاع خارجي للأفراد ٍStructures of inter-subjectivity))
[22] و تتعلق بتبادل الأفكار و الثقافات التي تحتم على مستويات النظام التطور الذي يتطلب الانفتاح المؤسسي للسماح للأفراد باكتساب المعرفة التي تغير من شكل النظام الاجتماعي، و تجعل نظام الحكم في حاجة للتظور الدائم أو تسليم السلطة بشكل سلمي و مؤسسي للنخب الأجدر على القيادة.
* أبرزالاستنتاجات:
و توجد عدة استنتاجات رئيسية:
-جوهر علاقات القوة هي رغبة الجماعة أو الفرد في الجاذبية الاجتماعية أو الرغبة المتأصلة في التأثير على الآخر، و تقوم على عنصرين متشابكين هما:المعرفة و التنظيم، و التنظيم لأي فئة اجتماعية و حتى السلطة يقوم على المعرفة، فيرى (Mann) أن المعرفة ضرورية للوقوف على حدود قدرات أي تنظيم و مدى قدرته على مواجهة التنظيمات الأخرى أو السلطة أم من الأفضل الاستسلام للسلطة و التنظيم الذي يتحكم فيها
[23]، و قد حرصت السلطة في العالم العربي على إضعاف التنظيمات الأخرى، حتى و لو تطلب ذلك كبح تطور المجتمع أو تطوره في اتجاه يخدم بقاء السلطة دون غيره من الاتجاهات الأخرى، خشية من ضياع السلطة من النخب و المؤسسات التقليدية التي ظلت تحتكرها بالعالم العربي.
– لكي تتطور المؤسسات التقليدية و تتجه نحو التحديث عليها أن تجعل الجهاز الإداري و مؤسساتالدولة قادراً على تبني إقتراح و تطبيق الاصلاحات، و خصوصاً التي تتعلق بتعزيز رشادة علاقات القوة بين أطراف المجتمع و علمنة الحياة العامة.
– لابد أن يدمج النظام السياسي القوى الاجتماعية و الفاعلون الجدد التي تنشأ في المجتمع خاصة خلال عملية التحديث الاقتصادية بالتحديد، مثل: ظهور طبقات اجتماعية جديدة بالمدن الحضرية نتيجة انتقال العمالة و ظهور أنشطة اقتصادية جديدة.
– إدماج القوى الاجتماعية في النظام السياسي يعتمد على قابلية النخب السلطوية على إقناع القوى الاجتماعية الجديدة بالمشاركة و التوافق، لكن هذا يتطلب أن تكون النخبة السلطوية مرنة في تعديل قيمها و إدعاءاتها، وهو ما قد يكون صعباً في حالة النخب التقليدية التي لها تاريخ في الاستحواذ على القوة مثل: الملوك و رجال الدين.[/size]