- اقتباس :
" في الخطابة، الحجج خاضعة لتصديق السامع"[1]
لم يفقد النموذج الخطابي القديم الموروث عن الإغريق والعرب قدرته التوجيهية للأقوال الراهنة سواء في المجال التربوي أو المجال السياسي أو المجال القضائي أو المجال الأدبي أو المجال الأخلاقي والتاريخي.
لقد استفاد كل من فن المحاماة والإشهار وصناعة الأفلام على سبيل المثال من القدرات الخلاقة والمحاسن التي منحها القدامى لفن الخطابة دون ركوب المخاطر وتخليف الضحايا وتضمن مجموعة من المساوئ.
من هذا المنطلق تضمن فن الخطابة تاريخا عريقا تراوح بين حسن الكلام وإجادة المغالطة وفن الإفهام وتفضيل الإصغاء وتفادي الثرثرة والتركيز على توفير شروط الإقناع وخلق ظروف التصديق والتوكيد.
المشكل الفلسفي الذي وقع التطرق إليه منذ البداية هو التالي: هل تؤدي الخطابة من جهة ماهيتها وظيفة نفسية اجتماعية في علاقة بالتأثير على المستمعين أم أنها تخلو من كل غاية وذات خاصية أدبية منطقية؟
تكمن أهمية المنطق بالنسبة إلى النظام المعرفي الذي يعمل العقل البشري على تشييده بمكافحة العثرات والانتباه إلى الأباطيل وتجنب الوقوع في الزلل وتفادي التفكير الخاطئ والحيلولة دون الزيغ والأوهام.
لذا يدرس المنطق مجموعة الأسس والقواعد المرتبطة بشكل الاستدلال الصحيح، ويعمل على تحليل القضايا لكي تكون المقدمات بديهية والنتائج المستخلصة سليمة وبصورة ضرورية، وفي المقابل يتناول المنطق التطبيقي جملة من المهارات والفنون تتكون من البرهان والجدل والسفسطة والخطابة والشعر.
إذا كان البرهان هو قياس يتكون من مقدمات يقينية وأوليات واضحة ونتائج ضرورية واستتباعات معقولة وإذا كان الجدل هو إقامة الدليل على أمر مرغوب فيه واثبات تلك الدعوى باستخدام مسلمات مقبولة فإن الشعر هو استدلال خيالي يؤثر في تغير مشاعر المخاطب وحالاته النفسية والعاطفية عبر القافية والوزن.
فما المقصود بالخطابة؟ ماهي منزلتها المنطقية؟ بأي معنى اكتسبت مجموعة من الوظائف الجديدة؟ كيف تحولت الخطابة من مجرد الكشف عن المغالطات إلى السعي نحو الإقناع وتأييد الأفكار المستحدثة؟
يبدو أن لفظ الخطابةrhétorique انحدر من الخطيب rhétor-orateur ويتنزل ضمن المباحث اللغوية والمنطقية ثم انتقل سريعا إلى الدعاية والإعلام في المجالين السياسي والاقتصادي في الفترة المعاصرة.
يمثل كل من أفلاطون في محاورة الغورجياس وأرسطو في كتاب الخطابة النموذج القديم لهذا الفن الكلامي، فإذا كانت الخطابة عند أفلاطون أفادت فن إجادة الكلام وحسن القول والصناعة اللغوية التي تحسن إيجاد الوسائل التعبيرية واستثمارها في الإقناع وعرفها بالاشتغال على نجاعة الخطاب بغض النظر عن الاشتغال بالحقيقة2[2] فإن أرسطو رأى أنها ممكنة الاستخدام في المرافعات أمام القضاء وصارت تعني فن الحجاج في الخلافات القانونية والمحاكم وتبرير موقف في الاجتماعية السياسية وأصبحت تعني فن الدفاع عن أطروحة أو بلورة رأي معين بتقديم أسباب وجيهة وإيجاد حجج معقولة ومبررات واقعية. بهذا المعنى حازت الخطابة على تثمين كبير وتم الاشتغال عليها في المجالات التطبيقية للجدل المنطقي[3]. بعد ذلك وقع استخدامها في الفترة المعاصرة بشكل ملتبس وتم توظيفها في مشاحنات إيديولوجية غير مقنعة[4].
إذا كانت الخطابة هي استدلال يهدف فقط إلى إيجاد قناعة قلبية لدى المخاطب وإثارة مشاعره حول رأي أو عمل معين وتتنزل ضمن مبحث التصديقات فإن المغالطة هي كل خلل أو منزلق يقع فيه الفكر لما يعمد إلى استعمال قياس ذي ظاهر معتبر وسليم يصاغ بقصد إحقاق دعوى باطلة أو إبطال عقيدة صحيحة.
إن التغليط يمكن أن يكون في إصدار البيانات الكاذبة واستخدام العبارات الغامضة من جهة الدلالة والمبنى والألفاظ المشتركة والتراكيب الغامضة وذلك بتفصيل المركب وتركيب المفصل ووضع الكلمات في غير موضوعها النحوي المطلوب وعدم الالتزام بقواعد التنقيط والتباس في العلاقة بين الصفة والمضاف إليه.
علاوة على ذلك تشمل المغالطات الصور والرسوم البيانية والعلاقة بين الذات والصفات وبين الجوهر والأحوال والتزييف في الاقتباس والإحصاء وذكر النسب والتضخيم والتحجيم وتعميم النظرة أحادية البعد وتخصيص النظرة الشاملة والتعريف الدوري والكذب واالتورية والتحريف والتفسير المنقوص والتوكيد بالكلام وإقامة الدعوى بلا دليل والإيقاع بالفخ وصد الاستدلال واللجوء إلى الجهل واستبعاد الفرض الأخرى ومطالبة المعارضين بتقديم الحجة واللجوء إلى الأرقام والتكرار والتباهي والإغراء والتهديد والمفردات المشحونة وإثارة الشفقة والاستعاضة بالتمني والآمال والتشبه والاستناد إلى مصادر زائفة [5]. إلى أي حد تقدر الخطابة على تغيير أساليب التأثير على المتلقين؟