بوصفي متابعاً مهتماً لمادة
الرياضيات، ومن المدرسين الذين يشهد لهم بالتفوق في هذه المادة، فإن متعة
كبيرة كانت ترافقني في تحضير الدروس، لدرجة أن شرح هذه المادة، يذيب الفارق
بيني وبين الفارس المغوار، فتُستفز ملكاتي ضد هذا الخصم الذكيّ، العنيد،
وأقبل على التسايف معه بسلاح العقل دون كلل أو ملل، حتى أغلبه.
وكان شعوري بنشوة التفوق، ينسحب على أهل بيتي، وأنقل إليهم عدواها
فأدغدغ الصغير، لأستمتع بصهيل مهري البريء، وألعب مع الأكبر منه لعبة "
الشقلبة". لا أنكر أن جزءاً من تلك الفرحة تصيبني ليلاً، لأمارس حياتي
الخاصة بكثير من التفاؤل. كنت أسخر من أصحابي الذين تتلبس وجوههم الهموم.
نعم هكذا هو الأمر بالنسبة لي وحق الله.
لوثة أخرى كانت تنخر عظامي، إنها متابعة المقالات المنشورة في الصحف،
والمجلات، وإذا ما شحَّ المال فستراني أقرأها من الأكشاك الصغيرة، غير آبه
بالنظرات المستهجنة لصاحبها، وكنت قد ازددت قناعة بعد قراءة ما يكتب، بأن:
الأمور الصغيرة والكبيرة لا تنفصل عن بعضها، وأن الجزء هو عملية تفاعل
بينه وبين الكل، وكل ظاهرة هي نتيجة حتمية لتفاعل أجزاء مع أخرى.
كان هذا ما يسعدني تماماً، ويزيد من تقديري واحترامي لمادة الرياضيات،
فالحياة أيضاً مترابطة ترابط تلك العلاقات الرياضية، التي كنت أتحدث عنها
في الصف، أمام تلاميذي. لا أترك فرصة تفوتني كي أشرح وأزيد في الشرح.
عشر سنوات مرّت على هذه الحال، وفي أحد الأيام وصلتني رسالة من أيمن،
الذي كان تلميذي المفضل، وكان شديد الإعجاب بترجمتي للحياة ووقائعها، عن
طريق الرياضيات، سأورد لكم ما جاء فيها. يقول أيمن:
أستاذي العزيز:
صرت من رواد القصة القصيرة… لا بدَ أنك سمعت أو قرأت شيئاً عني.
في كل إنتاج جديد، كنت أمعن في ربط رؤيتي الفلسفية للحياة بالمرأة
وجسدها.
لم أتهم يوماً بأني غيّرت مسار الأدب، ولم يكن لأحد أن يغزو صومعتي، أو
يقول إنني لم أتقن فن المعادلات الرياضية!.
بحثت يوماً في أوراقي القديمة، ودفاتري المنسية، ووجدت دفتري العتيق،
الذي قذفته ذات درس في وجهي من وسط المقاعد، لأني لم أعرف حل مسألة بسيطة
حسب قولك، ولم أعرف ربط الفرضية بالنتيجة.
بعد أن تأملت قصصي، وجدتها متواضعة، وليست سوى جمل مركّبة عن العشق،
والشفاه، والقبل، وصرير الأسرَّة، و كان يتولَّد لديَ حافز لإتباع إحدى
المعادلات الرياضية الحقيقية.
كتبت قصة، بعنوان "أسطوانة الغاز". تحدثت فيها عن صعوبة الحصول عليها،
والشتائم التي وجدت نفسي مضطراً لتبادلها مع موزع الاسطوانات، والنتيجة
كانت: "أن سلوكنا الهمجي، تنتجه ظروف همجية".
في قصة أخرى تحدثت عن "المشمش والكرز"وهما نوعان محددان من الفاكهة..
كان أولادي يحبون المشمش، أما أنا فأفضل الكرز، لكني انصعت إلى رغبتهم،
وكانت النتيجة: أننا نحن الآباء، نفقد التواصل الحقيقي مع أنفسنا، لأننا
ننصاع دائماً لبطون أولادنا، وما تشتهيه، ولأنه في النهاية إما المشمش وإما
الكرز.
نزلت إلى السوق، لكن بائع الفاكهة بالغ في رفع الأسعار، و كانت حجته أن
أسعار النقل والتوزيع عالية، وكانت حجتي أننا في بلد زراعي. وكانت النتيجة
في هذه المعادلة: أن سوء التخطيط يؤدي إلى فقر الجيوب.
قصة ثالثة استعرضت فيها مشاعر الحقد والحسد، وبأنها مشاعر ولّدها،
اكتشاف آبار النفط وذهبت عائداتها إلى جيوب القلة.
أنا لن أنكر أني من الحاقدين، على موزع جرار الغاز، وعلى الخضري، وعلى
سائق التاكسي، الذي تشاجرت معه هو الآخر. وعلى مدن الألعاب، المتوفرة في
المدينة، لكنها ليست لي، ولا لأولادي.
و قد تجلى حقدي واضحاً مثل عين الشمس حين ُرتبت الأمور أمامي على درج
مكتب الضابط المهذب!
وكنت أحاول إقناعه، بأني كتبت بنفس الطريقة، التي تلقيت فيها منهاج
الرياضيات: "الفرضية. سير المعادلة. النتيجة"
وكنت أتفلسف يا أستاذ: "أن مواجهة العدو، تتطلب أن أكون بخير، وبطون
أولادي شبعانة، وأن الحقد والكره إذا ما وجّها إلى الغول، فسنكون أناساً
لطفاء مع اليمام".
وكنت أزيد في فذلكتي: "نحن سنستمتع، بالمهرجانات السينمائية، وسيكون
لدينا وفرة لريادة آثار بلدنا، ولأننا بالملايين ستستغنون عن السياح
الأجانب!
لكن لنعد إلى الأمر المهم يا أستاذ: لقد قمت بربط السرقات الصغيرة
بالكبيرة، ألم تلقني درساً في هذا الأمر؟ لكن عبقريتك في الرياضيات لم
تلهمك الغوص أبعد من ذلك..
هل ستسألني: لماذا؟
لأنك لم تتحدث عن مسألة المجاهرة بالرأي، فهي أصعب معادلة يمكن لمعجب
بمادة الرياضيات أن يحلها!
لأن الآذان التي بقيت صماء عن أمسياتي السابقة، تفتحت فجأة، والعيون
المغمضة اتسعت، والأجساد الهامدة، والمسترخية تحركت. بدوت للعيان تافها
يريد أن يشبع بطنه، بينما العالم يعاني الفقر وقلة الموارد. وأني أناني،
يبتغي تدمير الروح الوطنية.