كثيرة هي الجوانب التي يمكن أن نتناول من خلالها موضوع النافذة (الشبّاك) من حيث الدلالات الرمزية أو الواقعية. لعل من تلك الجوانب الحضور البارز للنافذة أو(الشبّاك) في عدد لا بأس به من الأغاني العربية المعروفة، سواء من حيث كون الشبّاك هو موضوع الأغنية الرئيسي أو من حيث مروره كعنصر أساسي ضمن المفردات التي تنبني عليها معاني الأغنية.
نذكرمن تلك الأغاني التي يكون موضوعها الشبّاك أو يتضمنه عنوان الأغنية، تمثيلاً لا حصراً:
"عصفور طل من الشباك" التي غنتها الرائعة أميمة الخليل، وهي من أجمل ما غنته ولا نبالغ إذا اعتبرناها أيقونة غنائية للحرية ورفض قهر الأسر والسجون، حيث يمثل الشبّاك الممر الذي سيخرج من خلاله العصفور إلى فضاءات الحرية والجمال "شاف الغابة عم بتحلق على جوانح الحرية". ورغم بساطة اللحن والكلمات وأنها سجلت ضمن ألبوم موجه للأطفال تحولت بعد ذلك إلى علامة مميزة لأعمال مرسيل خليفة وأميمة الخليل. يرددها جيل بعد آخر الكبار قبل الصغار إلى أيامنا هذه.
وللراحل الكبير نصري شمس الدين حكايته مع (الشبابيك). يروى أن الفنان نصري شمس الدين كان في إحدى مراحل حياته عاشقاً لواحدة من صبايا مدينة طرطوس البحرية الجميلات، ويقال أنه قد أبدع من وحي ذلك الحب أغنيته الشهيرة "وقفلي خليني بوس شبابيك الحلوة بطرطوس". تحكي الأغنية عن رحلة يقوم بها العاشق ويمر طريق الرحلة بمدينة طرطوس فيطلب العاشق من شخص آخر أن يتوقف في المدينة ليتيح له تقبيل شبابيك منزل حبيبته، ذاك المنزل المحفوظ في عينيه وقلبه "يا بيتا المضوي عالبحر بقلبي وعينيّ محروس". يتحول الشبّاك في تلك الأغنية إلى رمز للحب ولذكرى الحبيبة فيكون تقديره نابعاً من عميق حنينه.
ومن أغاني الحب والهوى "شباك حبيبي" للموسيقار ملحم بركات، حيث تعتبر الأغنية أن نافذة المحبوب (شبّاكه) مبعثٌ للحب وسبب له "شباك حبيبي جلاّب الهوى.. هوى حبيبي يا أول هوى" حيث نفهم أن الحب ولد لدى رؤية العاشق للمحبوب من شبّاكه مما جعل الشبّاك "جلاّباً" للحب الأول.
ومن تلك الأغاني العاطفية التي يلعب الشبّاك دوراً محورياً فيها أغنية راغب علامة "لو شبّاكك ع شباكي"، حيث يشكو فيها العاشق من بعد المسافة بينه وبين حبيبته إضافة لعدم إطلالة شبّاك حبيبته وشبّاكه على بعضهما، الأمر الذي يجعل تعبيره عن مشاعره لها أكثر صعوبة "لو شبّاكك ع شبّاكي كنت بقلّك كيف بهواكي لكن ويني وأنتِ وينك.. في مسافة بيني وبينك.. لا عيني عم تلمح عينك ولا بحرك بتطالو شباكي. . ."، نجد أن غياب القدرة على التواصل، والتي يحققها الشبّاك بشكل ما بين الحبيبين، سبب تذمر الحبيب وحسرته في هذه الأغنية.
أما تلك الأغاني التي تضمنت في سياقها ذكر (الشباك) فهي كثيرة:
هناك مثلاً الأغنية الشهيرة من التراث الدمشقي "آه يا حلو يا مسليني" حيث يريد العاشق في أحد مقاطع الأغنية أن يلقي بنفسه من الشبّاك ليصل إلى الحبيب، حيث تتكرر عبارة "ومن الشبّاك لرميلك حالي" وصولاً إلى اقترانها بسبب تلك الرمية وهو السهاد والأرق الذي سببه الشوق للقيا الحبيب "من كتر شوقي عليك ما بنام". يصبح الشبّاك هنا سبيلاً للخلاص من ألم الشوق ووسيلة للوصول إلى الحبيب.
ولا يمكن للحديث عن النافذة (الشبّاك) في الأغنية العربية أن يكتمل دون أن نعرج على إبداعات الأخوين رحباني وفيروز. لقد كان فن الرحابنة من التنوع والشمول بحيث يندر أن تجد موضوعاً أو تفصيلاً في حياتنا إلا وكان له من أغانيهم نصيب. من ذلك النافذة (الشبّاك)، حيث يمر ذكره في مواضع عدة سنذكر بعضها:
في إحدى المحاورات التي تدور بين وديع الصافي وفيروز في بداية "سهرة حب" يتنصّل وديع من حبه لوردة فتلومه فيروز على موقفه مذكرةً إياه بذلك الحب الكبير الذي كان وبحبّ وردة له، فتقول "يا أسف الليل مضي وقت السهر.. وتبقى وردة تنام ع شبّاك السهر.. أنت الي كنت تقول وردة الورد.." ويبدو أنه الدور القديم الجديد الذي لم يتوقف الشبّاك عن لعبه في حياة العشاق: السهر وتأمل الليل والتفكير بالحب وهمومه.
كذلك في "سهرة حب" لكن في محاورة أخرى بين فيروز ووديع يسألها "أنتِ من وين" فتجيبه فيروز "أنا من بلد الشبابيك المجروحة من الحب المفتوحة عالصدفة" رغم أن الحب جرح تلك الشبابيك أو أصحابها لكنها مصرة أن تبقى مفتوحة لكل الاحتمالات. وما هي الصدفة إن لم تكن احتمالات مفتوحة.
وفي أغنية فيروز المؤثرة "بكوخنا يا بني" تناجي الأم ابنها الغائب، وحيدةً في تلك الليلة الشتائية القاسية محاولةً استدرار حنينه لذلك الكوخ الفقير وأشيائه البسيطة التي تحدثه عنها وعن تلك العصافير التي اشتاقته أيضاً ولا تفارق شبّاكه "وقفوا ع شبّاكك يدقوا العصافير بجوانحن يا جوانحن المتشرنين. ."
وأخيراً وليس آخراً كم من المرّات تعلّمنا على أغاني الرحابنة طرائق جميلة للتعبير عن الحب، كأن نرمي لحبيباتنا الورود من الشبّاك مقلدين العاشق المفترض في أغنية "مشوار"، والتي تكذّب فيها فيروز حديث الناس عن حبه لها "وقالوا شلحلي ورد ع تختي وشبّاكنا بيعلاه وشو عرّفوا أيّا تختي انا وأيّا تخت أختي؟!" .
كانت تلك بعض الأغنيات التي اخترنا أن نشير من خلالها إلى حضور النافذة في الأغنية العربية. ذلك الحضورالذي إن دلّ على شيء فهو التأكيد على أهمية معنى النوافذ، من حيث هي مداخل لا غنى عنها للضوء والحب والأمل .. والحرية.
في التحليل الأخير ليس الفن ـ ومن ضمنه الغناءـ سوى مرآة تعكس ثقافة الشعوب وواحداً من المفاتيح الرئيسية لفهم مخيالها الجمعي وسماتها الاجتماعية. وإنّ شعباً يتغنى بالنافذة، أو لنقل إن حضورها ضمن السياق الشعري التعبيري لأغانيه حضور عفوي ومبدع في آن، لهوَ شعبٌ منفتح على الجديد كاره للظلمات والعزلة، محبٌ للتواصل وللحب أيضاً، وليس كما يصوّره بل ويريد له البعض أن يكون، منغلقاً متعصباً ظلامياً وعدميّاً.
افتحوا نوافذكم للشمس تفتح الحياة أذرعها للحب، فيزهر اللوز وتضحك أغنية.