يحكى أنّ ميشيل فوكو عندما قدّم أطروحته الضخمة عن “تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي” إلى أستاذه المشرف جورج كانغيلم قال له، وهو يتلعثم، يرتجف، كأنّه يعتذر: إنّي أبيع هذه الأطروحة ببيتين من شعر هولدرلين! فردّ عليه الأستاذ المشرف وقد ارتسم على وجهه شبح ابتسامة خفيفة: ولكنّك شاعر يا صديقي، ولكنّك شاعر… وبالفعل فإنّ كتاب “تاريخ الجنون” مُخْتَرق بالشحنات الشعرية من أوّله إلى آخره. إنّه كتاب ذو نَفَس شعريّ، قويّ، وثّاب، كتاب جنونيّ إذا صحّ التعبير شكلا ومضمونا. أقصد أنّه كتاب عبقريّ. في ضربة واحدة استطاع ميشيل فوكو أن يجمع بين عبقرية الشعر وعبقرية الفكر. إنّه بالتأكيد أجمل كتاب عن تاريخ الجنون في اللغة الفرنسية وربّما في كلّ اللغات. إنّه كتاب يحلّق عالياً، أو ينخفض أحياناً إلى أسفل سافلين لكي يعانق الأعماق الخفيّة والدهاليز السرّية للروح البشرية. فميشيل فوكو، الذي عاش اللحظات الحدّية شخصيا بل وأشرف على حافّة الهاوية، كان مؤهلا أكثر من غيره لأن يعرف قيمة هولدرلين وما الذي يمثّله في تاريخ الشعر الأوروبيّ. فمن هو هولدرلين هذا؟ وكيف أمضى نصف عمره في الصحو، والنصف الآخر في غياهب الجنون؟ وكيف يمكن لشخص جنّ في عزّ الشباب وبقي مجنوناً طيلة خمسة وثلاثين عاماً، أي حتى مات، أن يصبح أكبر شاعر في تاريخ ألمانيا كلّها؟ أقول ذلك مع الاعتذار لغوته وريلكه وبعض الآخرين..
ولد هولدرلين عام 1770 في منطقة ساحرة من مناطق ألمانيا تقع على نهر “نيكار”: هناك حيث السماء دائماً صاحية وروحية في فصل الربيع أو الصيف، وحيث الينابيع تجري متسلّلة بين السفوح المغطّاة بالغابات، وحيث مزارع الكرمة والعنب تنتشر على مدّ النظر.. وسوف يكون لهذه الطبيعة الخلابة تأثير واضح على شعره فيما بعد. هناك أيضا حيث معظم الناس إمّا مزارعون وإمّا كهنة ورجال دين، وإما شعراء، وإمّا جميع ذلك دفعة واحدة! فأبوه كان مسؤولاً عن إدارة الأوقاف الدينية، وأمّه كانت ابنة رجل دين. وهو كان موجَّهاً منذ صغره لكي يصبح رجل دين يصلّي بالفلاحين في منطقته ويرشدهم إلى الطريق المستقيم. ولكنّ القدر شاء له مصيراً آخر، أو قل إنّه لم يقبل في أيّ يوم أن يصبح رجل دين. كان يريد أن يكون شاعراً، وشاعراً فقط. لقد أراد أن يكرّس حياته لشيء واحد هو: تحويل العالم إلى شعر، أن يسكن العالم شعريا. هل هو كلاسيكيّ؟ هل هو رومانطيقي؟ لا معنى لهذه التسميات بالنسبة لهولدرلين. إنّها ضيقة عليه. إنّه شاعر وكفى. شاعر يعلو على كلّ التسميات. وربما لم يعرف تاريخ الغرب شاعراً في حجمه ومستواه. ولكن رغم ذلك فإنّ عائلته أجبرته على إكمال دراساته اللاهوتية في جامعة توبنجين الشهيرة. هناك حيث التقى بزميلين سيكون لهما كبير الشأن فيما بعد هما: هيغل وشيلينغ. وهكذا اجتمع في غرفة واحدة ثلاثة شباب سوف يصبحون لاحقا عباقرة ألمانيا شعرا وفكرا. وسوف يدشّنون أكبر حركة روحية- فلسفية في تاريخ أوروبا: الفلسفة المثالية الألمانية. وبقي في هذه الكلية خمس سنوات من عام 1788 إلى عام 1793. كان هولدرلين، بحسب شهادة بعض زملائه الذين عرفوه في الجامعة، شابّاً جميلاً جداً. كان إذا مرَّ في أيّ مكان يلفت الانتباه وإذا دخل الغرفة يضيئها… وكان لطيفاً وحساساً إلى أبعد الحدود. ولكن لم يكن أحد يعرف أنه سيجنّ بعد أقل من عشر سنوات من ذلك التاريخ. كانت الموسيقى تسكن روحه. وكان يعزف على الناي، والعود، ثمّ البيانو فيما بعد. ومنذ البداية راح الهمّ الشعريّ يطغى عليه مثلما راح الهمّ الفلسفي يطغى على زميله هيغل. وهكذا راح ينظم أناشيده من أجل الصداقة، أو الجمال، أو الحبّ. ثم من أجل الطبيعة الساحرة، والقدر، والوطن. وأخيراً من أجل الإنسانية، ولكن قبل كلّ شيء من أجل الحرية. وقرّر أن يكرّس نفسه لقضية الشعر المقدّسة. واعتبر أنّ أيّ اهتمام آخر يلهيه عن قضية الشعر هو بمثابة الخيانة. يذكَّرنا هولدرلين في مجال الشعر، بموزار في مجال الموسيقى، موزار الذي سبقه إلى الوجود بأربعة عشر عاماً فقط والذي كان قريبه ربّما. فهناك صفاء مطلق في كلتا الحالتين ووفاء مطلق لقضية الشعر أو الموسيقى: أي لقضية الفنّ والنزعة الإنسانية العميقة.
عندما ترك هولدرلين الجامعة كان عمره ثلاثة وعشرين عاماً. وكان قد أصبح شاعراً معروفاً وربما معترفاً به. ولكنّ الشعر لا يطعم خبزاً. وهولدرلين لا يريد أن يصبح كاهناً أو رجل دين. فما العمل؟ لقد ساعده شيلر الذي كان شاعراً مشهوراً آنذاك واستقبله في مجلّته حيث نشر له مقاطع من روايته الشعرية “هيبيريون” التي ستصبح إحدى روائع الأدب الألماني والعالمي. ثمّ عثر له على وظيفة مربّي أطفال في إحدى العائلات الغنيّة. ولكنّ هولدرلين كان يمرّ بحالات مختلفة: فأحياناً يهدأ ويتوازن، وأحياناً تستفزّ أعصابه ويدخل في نوع من الاكتئاب النفسيّ العميق الذي لا تفسير له. ولذا ترك وظيفته فجأة وسافر إلى مدينة “يينا” لكي يحضر دروس الفيلسوف “فيخته” في جامعتها الشهيرة. كان فيخته آنذاك هو فيلسوف ألمانيا بعد رحيل كانط. كان يلهب الشبيبة الألمانية بفكره القويّ وخطاباته القومية الجرمانية التي تجلجل أصداؤها في شتى أرجاء الجامعة وما وراء الجامعة. ولكن سرعان ما عاد الاكتئاب النفسيّ لكي يخيّم على روح هولدرلين من جديد فترك فيخته وفلسفته وذهب لكي يلتجئ عند أمّه في قريته بالقرب من نهر “نيكار”. وقد لعبت أمّه دوراً كبيراً في حياته لأنّ أباه مات وهو صغير. ويبدو أنّها كانت قويّة، وصبورة على المصائب والمحن. ولكنّ أمّه كانت متقشّفة وقاسية معه لأنّه لا يستطيع أن يجد وظيفة بمرتّب ثابت ويتزوّج ويبني عائلة مثل كلّ الناس ويعيش.. ولكن المشكلة أنّه لم يكن مثل كلّ الناس ولا يستطيع أن يكون. لم تكن تفهم أنّ للشاعر وضعه الخاصّ وجنونه الخاصّ.. كانت تريد لابنها أن “ينجح” في الحياة كبقية الأمهات، وهذا شيء مفهوم، ولكن ابنها كان عاجزاً عن النجاح في الحياة… بعد أن استعاد شيئاً من توازنه وجد له بعض الأصدقاء وظيفة مربّي أطفال لدى عائلة كبيرة من عائلات مدينة فرانكفورت. وهناك سوف تحصل أكبر قصّة في حياته. فقد وقع في حبّ سيّدة البيت: سوزان غونتار. ويبدو أنّها كانت رائعة الجمال. وكان حبّاً جارفاً، عنيفاً، لا يعرف الحدود. ولكنّه كان حبّاً عذرياً أيضا لا أثر للماديات فيه. ويذكّرنا هولدرلين هنا بشعرائنا العذريين من أمثال مجنون ليلى، أو جميل بثينة، أو كثيّر عزّة، الخ… فعنده نفس الصفاء، ونفس العذاب، ونفس الانغماس في الحبّ إلى درجة الوله. فالمحبوبة لم تعد مطلوبة جسدياً، وإنّما أصبحت مقدّسة لا تمسّ. يكفي أن نحبّها من بعيد..لقد أصبحت الشغل الشاغل الذي يملأ على الشاعر أقطار نفسه. وقد قال عنها هذه العبارة: “حسّي الفنّي لن يضلّ الطريق بعد اليوم. سوف يظلّ يحوم حول هذه الرأس الفاتنة. إنّها إغريقية الجمال!”. ولكنّ الزوج المغفّل سرعان ما شعر بالأمر فانتفض وثار، وزمجر ودمدم. والجيران تدخّلوا وشمتوا، والعذّال حسدوا وغاروا. وكانت النميمة والوشايات وكلّ ما يحصل عادة مع قصص الحبّ الكبرى. واضطرّ هولدرلين إلى مغادرة البيت بطريقة مذلّة شبه مهينة بعد أن انكشفت قصّته. بعدئذ استطاع أن يراها بضع مرات فقط عندما كان يمرّ تحت نافذة بيتها في ساعة محدّدة تماماً سواء عرفت أم لم تعرف. أو قد يحصل ذلك عندما كانت تتجرّأ على أن تحدّد له موعداً حيث يراها عن مسافة دون أن يكلّمها…كان يكفيه أن يشعر بحضورها، أن يراها ولو من بعيد. كانت الدنيا تشتعل بوجودها، ويتوقّف الزمن. وكتبت له سوزان غونتار بعضاً من أجمل رسائل الحبّ في تاريخ الأدب الألماني وتفجّعت عليه بشكل يكسر القلب. وحفظ لنا التاريخ رسائلها، ولكنّ معظم رسائله هو إليها ضاعت فلم تصلنا. ولو اتّسع لي المكان هنا لترجمت بعضاً من رسائلها، ولكنه لا يتّسع.
بعد هذه الحادثة التي حطّمت هولدرلين عاطفياً شعر بآلام نفسية مبرحة فلجأ إلى أحد أصدقائه الخلّص واسمه إسحاق فون سانكلير. فاحتضنه وأسكنه في بيته وواساه. وأحسّ هولدرلين عندئذ بأنّه يمتلك كلّ طاقاته الشعرية. فكتب أجمل قصائده والقلب ينزف وذكرى سوزان غونتار تشعل عبقريته كالنار. ثم كتب روايته الشهيرة “هيبيريون” وأعطى لسوزان فيها اسماً مستعاراً هو: ديوتيما. فهو مضطرّ للمحافظة على سمعتها لأنّها متزوجة وأمّ أولاد.. ولمّا شعر بأنّه فشل على كلا المستويين العامّ والخاصّ راح ينعكف على نفسه ويعتزل في وحدة كثيفة مناسبة لكتابة الشعر. وصبَّ على الورق كلّ ما يعتمل في صدره. وصفّى حساباته مع نفسه ومع القدر. والكتابة في نهاية المطاف ما هي إلا تصفية حسابات.
ولكنه قبل بعدئذ أن يمارس وظيفة تعليم الأطفال مرّتين. المرّة الأولى في سويسرا، والمرّة الثانية والأخيرة في بوردو بفرنسا. وفجأة يترك بوردو بعد أن سمع بموت سوزان غونتار ويعود إلى ألمانيا سيراً على الأقدام. تخيّلوا المسافة! شيء جنونيّ. وعندما وصل وتأكّد من الخبر شعر وكأنّه مسؤول عن موتها لأنّ فراقه هدّها. وعندئذ ابتدأت أمارات الجنون تظهر على وجهه. ابتدأ يظهر ذلك التناقض الحادّ والقاتل الذي لا يستطيع تصريف نفسه بشكل طبيعي فيلقي بالإنسان في حالة هذيانية أو هستيرية شديدة الخطورة. وهكذا انتهت تلك القصة: هو قتلها، وهي جنَّنته. برافو! هكذا تكون قصص الحب، أو فلا..
فبعد أن شعرت بأنّه سافر إلى فرنسا ظنّت أنه قد لا يعود أبداً. ولم تستطع أن تتحمّل ذلك. في تلك الأيام كانت فرنسا آخر الدنيا.. لم تكن هناك ثورة معلوماتية ولا هاتف نقّال ولا انترنيت..كان يكفيها منه أن تراه من بعيد أو حتى أن تعرف أنّه موجود في مكان ما بألمانيا داخل الوطن. أمّا أن يسافر إلى الخارج والبلاد الأجنبية فذلك يعني أنّه قد مات.. وأثّر ذلك على معنوياتها كثيرا. وساهم في تدهور صحتها وعجل بموتها وهي في عزّ الشباب: الثلاثين آو أكثر قليلا.. والواقع أنّ السؤال يطرح نفسه هنا: كيف يمكن أن توفّق بين زوج “تافه” رئيس بنك يلعب بالفلوس لعبا، وبين حبيب شاعر نصف مجنون؟ عقلها في جهة وقلبها في الجهة الأخرى. هنا أيضا يوجد تناقض يصعب حلّه. فجاء الموت كعلاج أو كحلّ أخير. وفي بعض الحالات يكون الموت هو الحلّ الوحيد. وما أعذب الموت في بعض الحالات. صحيح أنّها لم تخن زوجها جسديا ولكنّها خانته روحيا وعاطفيا وهي أخطر أنواع الخيانة. الخيانة ليس أن تنام مع امرأة أخرى غير زوجتك. الخيانة هي أن تحبّ امرأة أخرى غير زوجتك، أن تعشقها، أن تهيم بها. فيوميا كانت ترى هولدرلين وهو يربّي أطفالها ويعلّمهم. يوميا كانت تغازله ويغازلها لأنه ينام في نفس البيت! وذلك بحسب العادات الألمانية السائدة آنذاك بالنسبة لمربّي أطفال العائلات الغنيّة. كانت له غرفة خاصة في مكان ما. هذا في حين الزوج المخدوع كان طيلة النهار في الخارج يشرف على إدارة البنك..
وكتب لها عندئذ قصائد تفجّع قلّ نظيرها في تاريخ الشعر الأوروبي. وهكذا انطفأ هولدرلين نفسياً، ولكنه ظل حياًّ جسدياً مدّة خمسة وثلاثين عاماً أخرى. سوزان غونتار ماتت عام 1802 أمّا هو فلم يمت إلا بعد عمر طويل عام 1843. ولكن كم من الشرشحة والبهدلة أثناء كلّ تلك السنوات الجنونية! يا ليته مات فورا، لكان أفضل. وحتى في الفترة الأولى من جنونه كان لا يزال قادراً على كتابة بعض الأبيات الجميلة والمؤثّرة فعلا. انظر “قصائد الجنون لهولدرلين” التي ترجمها إلى الفرنسية وجمعها لدى غاليمار الشاعر بيير جان جوف عام1963. ثم أصبحت الكتابة مجرّد خربشات على الورق، خربشات متفكّكة تشبه الألغاز والأحاجي التي تستعصي على كلّ قراءة. هكذا راح هولدرلين يقذف على الورق بآخر ما عنده قبل أن ينهار عقله كلياً ويغطس رويداً، رويداً، في بحر الجنون.
الشيء الذي يؤخذ على هيغل هو أنّه لم يقل كلمة واحدة عن هولدرلين بعد أن سمع بجنونه. نقول ذلك رغم الصداقة الحميمة التي كانت تربط بينهما لسنوات عديدة. فهل كان فيلسوف العقل الجبار عاجزا عن فهم الجنون الجبار أيضا؟ ألم يستطع هيغل أن يستوعب في فلسفته الجدلية كل تناقضات العالم؟ فلماذا لم يستطع إذن أن يستوعب تلك الغَيريّة المرعبة: جنون هولدرلين؟
كان ينبغي أن ننتظر ظهور فيلسوف آخر، هو ميشيل فوكو، لكي يصبح الجنون موضوعا محترما يستحق أن يهتمّ به الفكر الفلسفي ويوليه العناية القصوى. أليس الجنون هو السفح الآخر للعقل؟ ألا يحيط به من كلّ الجهات مثلما يحيط المرض بالصحة من كلّ الجهات كما يقول ذلك المجنون العبقري الكبير الآخر لودفيغ فتغنشتاين؟ أيّا يكن من أمر فإنّ جنون هولدرلين مثل جنون نيتشه أو جيرار دو نيرفال أو فيرجينيا وولف أو انطونين آرتو أو غويا أو فان غوخ أو عشرات المبدعين الآخرين يطرح مشكلة كبرى ومحيّرة. وكنت قد ناقشتها مطوّلا في نصّ بعنوان: بين العبقرية والجنون. وهو منتشر على الانترنيت في مواقع عديدة. ويا ليته لم ينشر ولم ينتشر لأنّه مليء بالأخطاء المطبعية، ولذلك فلا أنصح أحدا بقراءته إلا على موقع واحد هو: جماليا.
إنّ انهيار عقول هؤلاء العباقرة يثبت صحّة كلمة ميشيل فوكو في أطروحته الشهيرة المذكورة في بداية هذا الحديث، والتي يقول فيها إنّ الجنون ليس أن تكون متأزّماً نفسياً أو متوتّراً إلى أقصى الحدود. هذه ليست حالة جنونية وإنّما إبداعية. أو قل إنّها جنونية وإبداعية في ذات الوقت. الجنون هو ألا تكون قادراً بعد الآن على إنجاز أيّ عمل كتابيّ بشكل منتظم ومتماسك. الجنون هو الهذيان الكامل أو الصمت المطبق. الجنون هو نهاية العمل الإبداعي أو انقطاعه فجأة أو انعدامه كليا. بدءا من اللحظة التي انهار فيها عقل نيتشه صبيحة ذلك اليوم المشهود 3 يناير1889 وراح يصرخ بأعلى صوته: أنا المسيح، أنا ديونيسوس، أنا يوليوس قيصر..انتهى كلّ شيء. هذا هو الجنون. عندما يصل كاتب ما إلى مرحلة العجز الكامل عن مواصلة الكتابة، إلى استحالة ممارسة الكتابة المتماسكة، عندما يصبح كلامه مجرّد هذيانات متفكّكة أو خربشات على الورق كيفما اتّفق، فإنّه يصبح عندئذ مجنوناً بالفعل. عندئذ ينتصر الجنون على الإبداع لديه ويقتله كليا بعد أن كان وقوده الأساسي طيلة سنوات وسنوات.
لكنّ جنون هولدرلين سواء أكان ناتجا عن الموت المبكّر لسوزان غونتار أم لا، يثبت صحّة النظرية التي تقول إنّ المثال الأعلى، المثال الرائع، لا يمكن أن يتحقّق على هذه الأرض. أو قل إذا ما تحقّق لا يمكن أن يعيش طويلا. إنّه أجمل من أن يعيش. كلّ ما هو جميل جدّا، أو أكثر من اللزوم، ممنوع. كلّ ما هو أثيريّ، لازورديّ، شفّاف، محال أو مستحيل. ينبغي أن يظلّ كأفق ومثال أعلى فقط. لا ينبغي أن يتلوّث بالواقع الأرضيّ. هولدرلين كان نقيّا أكثر ممّا ينبغي، كان صافيا لا يستطيع المساومة، وبالتالي فلم يكن أمامه إلا حلان لا ثالث لهما: إمّا الجنون وإما الانتحار. لهذا السبب احترق في عزّ الشباب. لنستمع إليه وهو يتفجّع على المرأة الوحيدة التي أحبّها في حياته، على سوزان غونتار الملقّبة هنا بديوتيما:
{{ديوتيما}}
ديوتيما، آه طوبى لك أيتها السعيدة!
يا روح سماوية، عن طريقها قلبي
عولج من قلق الحياة
وراح يعد نفسه بالشباب الأبديّ للآلهة!
سوف تدوم سماؤنا يا ديوتيما!
مرتبطتان بأعماقهما السحيقة،
روحي وروحك،
حتى قبل أن نلتقي
كنا قد التقينا..