«كيف استنبط المحدّثون والفقهاء حدّ الزّنا في الإسلام»(*)
جاء في حديثٍ مُسندٍ إلى أبي هريرة، أكثر الصحابة رواية للحديث(1)، خبرٌ
مَفادُه : «أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم رجم يهوديا ويهودية».[ابن
حنبل، مسند، II، 279-280].
من هنا، ومن بين أمثلة أخرى عن الرجم الذي نُفّذ بقرار من محمّد، ليس فقط
على يهودٍ بل أيضا على مسلمين، أُثيرت مسألة الحدّ الذي أُعِدَّ للمحصنين
الزناة.
بالإضافة إلى الخبر المقتضب للواقعة، تتكرّر أيضا في كتب الحديث عدّة
أخبار لنفس الحدث تختلف فيما بينها إيجازا وإطنابا، وزيادة ونقصانا
وتنوّعا. هذه الأخبار، فيما عدا واحد منها، مهما تعدّدت مصادرها تُسند
دائما إلى الصحابة الذين يمثلون لرجال الحديث أكبر المصادر أهمية وبالخصوص
منهم أبو هريرة وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس. خبر يُضاف إلى آخر،
وكلّها غالبا ما تتكرّر مرّات عدّة في نفس الكتاب في مواضع مختلفة وأحيانا
حسب طبيعة الموضوع المطروق. نجد هذه الأخبار تحت أشكال مختلفة في موطّأ
مالك [ت 179 ﻫ/796 م]، وفي سيرة ابن إسحاق [ت حوالي 150 ﻫ/767 م]، وفي
مصنّف عبد الرزّاق [ت 211 ﻫ/827 م]، الذي يعتمد هو نفسه على مؤلَّف سابق له
هو جامع مَعمَر [ت 150 ﻫ/771 م]، وفي مسند ابن حنبل [ت 241 ﻫ/855 م]، وفي
صحيح البخاري [ت 256 ﻫ/870 م]، وفي صحيح مسلم [ت 261 ﻫ/875 م]، وفي سنن أبي
داود [ت 275 ﻫ/889 م]، وفي جامع الترمذي [ت 279 ﻫ/892 م]، وباختصار في كلّ
كتب الحديث للقرنين 2 و3 ﻫ/8 و9 م. كما نجدها أيضا في كتب التفاسير مثل
تفسير الطبري [ت 310 ﻫ/923 م]، أو تفسير القرطبي [ت 671 ﻫ/1273 م].
ولأنّها تتكرّر هكذا بصبر وجلد من طرف الجميع وتحت أشكال مختلفة يُمكننا
أن نفترض بصورة مقبولة أنّ ما يُرْوى لنا هنا، على الأقلّ فيما يتعلّق
بالحدث الخام، هو شيء قد وقع في زمنِ تركيز أسس الإسلام بصفته أُمّة قائمة
بذاتها.
ولكن الذي يهمّنا، فيما وراء السرد المقتضب، هي الأخبار. ودون أن أُهمل
الروايات الأخرى، فإنّني سأركّز دراستي على القصّة الواردة في سيرة ابن
إسحاق حسب رواية ابن هشام. وهكذا، الشيء الذي يبدو لي ذا أهميّة بارزة في
طريقة تأليفها هو الاستنتاج الذي وقع التوصل إليه، من هذه الموادّ التي
تبدو متناثرة في الظاهر، بواسطة لمسات متعاقبة وتحت غطاء أحاديث من مصادر
مختلفة.
مع ذلك، وقبل أن نقّدم هذا الحديث ونحلّله، يحسن بنا أن نعرف واحدة من
الروايات القصيرة للخبر حول رجم الزاني والزانية اليهوديين. من بين الكمّ
الهائل من الروايات اخترتُ تلك التي وردت في موطّأ مالك، مُعاصر ابن إسحاق
ومنافسه في المدينة(2). هذه الرواية القصيرة تمثّل فعلا نوعا من المخطّط
لما كان يُروى في هذا الموضوع في بدايات رواية الحديث. وهذا لا يعني
بالضرورة أنّها أوّل رواية من حيث القِدم : من الممكن أن تكون قد وُجدت
خطوط رئيسيّة لروايات أخرى سابقة لها. ولكن نظرا لاستحالة تحديد ما هي أوّل
رواية ظهرت في هذا الموضوع، فإنّ معرفة هذه الرواية تسمح لنا على الأقلّ
بتحليلٍ أفضل للرّواية، متعدّدة الأشكال، التي توفّرها لنا السيرة في
المرحلة النهائية من الصياغة التي أعطاها لها ابن هشام.
للتّسهيل أكثر، ميّزتُ ورقَّمت العناصر الأساسية لهذه الرواية التي نجدها،
مع فوارق طفيفة، في كلّ النسخ من هذا الطراز وكما في السيرة نفسها(3).
النصوص:
الرواية القصيرة في الموطأ [ج 2، ص 819]
حدثنا مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنّه قال :
1 - جاءت اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أنّ رجلا
منهم وامرأة زنيا.
2 - فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما تجدون في التوراة في شأن
الرجم؟» فقالوا : «نفضحهم ويُجْلدون» فقال عبد الله بن سلام : «كذبتم! إنّ
فيها الرجم» فأتوا بالتوراة فنشروها. فوضع أحدهم يده على آية الرجم، ثم
قرأ ما قبلها وما بعدها. فقال له عبد الله بن سَلام : «ارفع يدك!» فرفع
يده، فإذا فيها آية الرجم. فقالوا : «صَدَق يا محمد، فيها آية الرجم».
3 - فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما. فقال عبد الله بن عمر :
«فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة».
الرواية متعدّدة الأشكال في سيرة ابن هشام [II، 193-196]
قال ابن إسحاق: وحدّثني ابنُ شهاب الزهري أنه سمع رجلا من مُزَيْنة، من
أهل العلم، يحدِّث سعيدَ بن المسيَّب، أنّ أبا هريرة حدَّثهم :
1 - أن أحبار يهود اجتمعوا في بيت المِدْراس(4)، حين قدم رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - المدينةَ، وقد زنى رجلٌ منهم بعد إحصانه بامرأة من يهودَ
قد أحصنت، فقالوا: «ابعثوا بهذا الرجلِ وهذه المرأة إلى محمد، فَسَلوه كيف
الحكم فيهما، ووَلُّوهُ الحكم عليهما. فإن عمل فيهما بعملكم من التجبية –
والتجبية : الجلد بحبل من ليف مَطْليّ بقارٍ، ثم تُسَوَّد وجوههما، ثم
يُحملان على حِمَاريْن وتُجعل وجوههما من قِبلِ أدبار الحمارين -
فاتَّبِعوه، فإنما هو مَلِك، وصدِّقوه. وإن هو حكم فيهما بالرجم فإنه نبيّ،
فاحذروه على ما في أيديكم أن يَسْلبَكُموه!». فأتوه، فقالوا : «يا محمد!
هذا رجل قد زنى بعد إحصانه بامرأة قد أحصنت. فاحكم فيهما، فقد وَلّيْناك
الحكم فيهما!».2.1 - فمشى رسولُ الله، صلى الله عليه وسلم، حتى أتى
أحبارَهم في بيت المِدْرَاس، فقال: «يا معشر يهود، أَخْرِجوا إليَّ
علماءَكم!». فأُخْرِج له عبد الله بن صوريا.
قال ابن إسحاق :
- 2.2 وقد حدثني بعضُ بني قُرَيْظة : أنهم قد أخرجوا إليه يومئذ، مع ابن
صُوريا، أبا ياسر بن أخْطَب، ووهب بن يَهُوذا، فقالوا: هؤلاء علماؤنا.
فسألهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى حَصَّل أمرَهم، إلى أن قالوا
لعبد الله بن صوريا : هذا أعلم من بقيَ بالتوراة.
قال ابن هشام : من قوله : «وحدثني بعض بني قريظة»، إلى : «أعلم من بقي
بالتوراة» من قول ابن إسحاق، وما بعده من الحديث الذي قبله.
2.3 - فخلا به رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان غلامًا شابًّا من أحدثهم
سِنًّا، فألَظَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألة، يقول له: يا
ابن صُوريا، أنْشُدك الله وأذكِّرك بأيامِهِ عند بني إسرائيلَ، هل تعلم أن
الله حكم فيمن زنَى بعد إحصانهِ بالرجم في التوراة؟ قال : اللّهم نعم، أما
والله يا أبا القاسم إنهم ليعرفون أنك لنبيّ مُرْسَل ولكنهم يحسدونك. قال :
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بهما فرُجما عند باب مسجده في بني
غَنْمِ بن مالك بن النجار، ثم كفر بعد ذلك ابن صُوريا، وجحد نبوّة رسول
الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق :
2.4 - فأنزل الله تعالى فيهم : ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ
الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا
بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ﴾ أي :
الذين بعثوا منهم من بعثوا وتخلفوا، وأمروهم به من تحريف الحكم عن مواضعه،
ثم قال : ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ
إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ﴾، أي : الرجم،
فَاحْذَرُوا [المائدة: 41] إلى آخر القصة.
قال ابن إسحاق : وحدثني محمدُ بن طلحة بن يزيد بن رَكَانة عن إسماعيل عن
إبراهيم، عن ابن عباس، قال :
3.1 - أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما، فرُجما بباب مسجده، فلما
وجدَ اليهوديُّ مَسَّ الحِجارة قام إلى صاحبته فجنأ عَليْها، يقيها مَسَّ
الحجارةِ، حتى قُتلا جميعًا. قال : وكان ذلك مما صنع الله لرسوله صلى الله
عليه وسلم في تحقيق الزنا منهما.
قال ابن إسحاق : وحدثني صالح بن كَيْسان، عن نافع مولى عبد الله بن عُمر
عن عبد الله بن عمر، قال :
2.5 – ما حكَّموا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما، دعاهم بالتوراة(5)
وجلس حَبْرٌ منهم يتلوها، وقد وضع يده على آية الرجم، قال : فضرب عبدُ الله
بن سَلام يد الحَبْر ثم قال : «هذه يا نبيّ الله آية الرجم، يأبى أن
يتلوَها عليك». فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ويحكم يا معشر
يهود، ما دعاكم إلى ترك حُكم الله وهو بأيديكم؟» قال : فقالوا : «أما والله
إنه قد كان فينا يُعمل به، حتى زنا رجل منا بعد إحصانه، من بيوت الملوك
وأهل الشرف، فمنعه الملك من الرجم(6)، ثم زنا رجل بعده، فأراد أن يرجمه،
فقالوا : لا والله، حتى ترجم فلانًا، فلما قالوا له ذلك اجتمعوا فأصلحوا
أمرهم على التجبية، وأماتوا ذكر الرجم والعمل به». قال : فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: «فأنا أول من أحيا أمرَ الله وكتابه وعمل به».
3.2 - ثم أمر بهما فرُجما عندَ باب مسجده. وقال عبد الله بن عمر : فكنت
فيمن رجمهما.
قال ابن إسحاق :
2.6 - وحدثني داودُ بن الحُصَيْن عن عكْرمة، عن ابن عباس : أن الآيات من
المائدة التي قال الله فيها : ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ
عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ
حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُقْسِطِينَ﴾ [المائدة : 42] إنما نزلت في الدية بين بني النضير وبين
بني قُريظة، وذلك أن قتلى بني النضير، وكان لهم شرف، يؤدون الديةَ كاملة،
وأن بني قريظة كانوا يؤدون نصفَ الدية، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم فأنزل الله ذلك فيهم، فحملهم رسولُ الله - صلى الله عليه
وسلم - على الحقِّ في ذلك، فجعل الديةَ سواء. قال ابن إسحاق : فالله أعلم
أي ذلك كان.
من كتاب إلى آخر:
إنّ تعداد كلّ الروايات المتوازية والمتعلقة بنفس الحدث سيكون مرهقا
مُملاّ. وقد يذهب بنا الاعتقاد لأوّل وهلة أنّه عمل لا طائل من ورائه
بالإضافة إلى أنّ الأخبار تبدو وكأنها تتكرر؛ غير أن الحال ليس هكذا دائما
وبالخصوص إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الإطار العام للمؤلفات التي وُضعت فيه
هذه الروايات المختلفة.
إنّ طريقة تصنيف الأحاديث في موطأ مالك [2 ﻫ/8 م] ومصنَّف عبد الرزاق [2-3
ﻫ/8-9 م] تعتمد الترتيب على الموضوعات والأبواب الفقهية. ففي المُصنَّف
[VII، 315 وما بعدها، الأحاديث من رقم 13.329 إلى رقم 13.369]، في كتاب
الطلاق، يورد المؤلِّف 40 حديثا في «باب الرجم والإحصان«. نجد فيها آراء
القدماء وأخبار اليهوديين الزانيين بجانب أخبار أخرى تهمّ عدّة حالات زنا
تخصّ مسلمين كانت العقوبة التي سلّطها فيها محمّد أو أحد الصحابة الرجم أو
فقط، بحسب الظروف، الجلد والنفي. إذن، لدينا هنا كُتيِّب فِقْهي حول مسألة
الرجم يتّضح منه أن هذه القضية كانت في نهاية القرن 2 ﻫ/8 م، موضوع نقاش
بين الفقهاء المسلمين الذين كان شغلهم الشاغل بدون شك تحديد موقع التشريع
الإسلامي مقابل شريعة موسى. جاء خبر رجم اليهوديين الزانيين في ثلاثة
أحاديث ]من 13.330 إلى 13.332]. الأول منسوب لأبي هريرة يُطابق، مع تغيّرات
ملحوظة، ما نجده في السيرة بنفس النَسب وبنفس إسناد الزُهري(7)، ولكن عن
طريق مَعمر(8)؛ والحديثان الآخران المنسوبان إلى ابن عُمر يُطابقان، دائما
مع تغيّرات، رواية الموطّأ القصيرة، التي صدّرنا بها هذا المقال، ودائما عن
طريق نافع(9). ولا نجد هنا ذِكرًا لابن عبّاس كمصدر للرواية.
غير أنّه ليست لدينا هنا مجرّد مجموعة من الأحاديث المتجاورة : فالأخبار
هي جزء من كلٍّ وحْدتُه متكوّنة ليس من ترجمة الباب فقط. فالباب مؤلف تبعا
لفكرة أساسية(10) : رَجْمُ الزاني والزانية حدٌّ مصدره القرآن وسنّة النبّي
وخلفائه الأوائل. وبالفعل، فإن مجموع هذه الأحاديث جاءت مؤطَّرة، في بداية
الباب وفي نهايته، بمقتطفين من خطاب الخليفة عمر يؤكّد وجود آية الرجم
التي نجد نصّها في الحديث قبل الأخير المرفوع لأُبيِّ بن كعب.
نجد طريقة التبويب حسب المواضيع والأحكام الفقهية ربّما ببروز أكبر في
كتاب متأخّر وهو صحيح البخاري [3 ﻫ/9 م]. ففيه تُشكِّل أحكام الرجم جزءا من
«كتاب الحدود» و «كتاب المحاربين من أهل الكفر والردّة». ونحن هنا أيضا
إزاء مجموعة من الأقوال والحالات المتعلقة بهذه المسألة يُوافق الكثير منها
ما نجده عند عبد الرزاق، مع التغيّرات المعتادة، سواء فيما يتعلّق بالمتون
أو بالأسانيد. فالخبر حول اليهودييْن الزانيين، المنسوب لابن عمر، يَرِدُ
فيه مرّتين : مرّة أولى في «باب الرجم في البلاط»؛ ومرة ثانية، مع تغييرات،
في «باب أحكام أهل الذمّة وإحصانهم إذا زنوا ورُفعوا إلى الإمام» [وهذه هي
نفس رواية الموطّأ المذكورة أعلاه]. إلا أننا نجد من جديد نفس الخبر في
مواضع أخرى من صحيح البخاري وفي كلّ مرة للاستدلال به على ما يُترجم من
المسائل المختلفة كما نجده أيضا في القسم المخصّص لتفسير القرآن [سورة 3،
آية 93].حيث يُقدّم الخبر على أنّه «سبب نزول» الآية.
نفس طريقة ترتيب الحديث هذه نجدها في صحيح مسلم المتزامن مع صحيح البخاري.
فالأحاديث عن اليهوديين الزانيين ترد ضمن أحاديث أخرى في «كتاب الحدود» في
«باب حدّ الزنا». واحدٌ من هذه الأخبار يأتي في شكل خاصّ [لا يوجد من
الجانِيَيْن إلاّ الرجل، ومحمّد يتدخّل دون أن يُطلب منه ذلك]. وسلسلة
الإسناد هي نفسها شاذّة. وستتسنّى لنا الفرصة للعودة لهذا الخبر لاحقا لما
له من خصوصيات.
أمّا مسند ابن حنبل [ق 9 م] فطريقة تصنيفه مختلفة تماما، فالأحاديث مجموعة
فيه ليس بحسب الأبواب، فقهية كانت أم لا، ولكن مُرتّبة على أسماء الصحابة
والسلف الذين تُروى عنهم تلك الأحاديث. وهكذا نجد فيه مسندًا لكلّ من
الخلفاء الراشدين، ومسندًا لأبي هريرة ومسندًا لعبد الله بن عمر، الخ.
طريقة التصنيف هذه شاقة وعسيرة للوقوف على الأحكام الشرعية ولكنّها تمثّل
لنا فائدة كبيرة من حيث أنها تُيسِّر غالبا جمع الكثير من الوثائق القديمة
والأخبار الشفوية التي يقدّمها هذا أو ذاك من الرواة السابقين.
يبدو أن ابن حنبل، في الأحاديث التي جمعها في مسند أبي هريرة، لم يحتفظ من
بين تلك التي وردت عنه في موضوع الرجم إلاّ بالحديث القصير الذي قدّمناه
في بداية هذا المقال. تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن سلسلة الإسناد هي
نفسها التي في الخبر الوارد تِباعا في المُصنّف والسيرة. هذا بالرغم من أن
جزءًا مهمّا من مجموعة أحاديث عبد الرزاق الصَّنْعاني، شيخُ ابن حنبل،
الصادرة عن مَعمر بن راشد، منقولٌ في أحاديث هذا المسند. ولكن لا يوجد فيها
أي خبر أساسي نوعا ما عن الحادثة التي تهمّنا يُطابق ما نجده في هذا
الموضوع في المصنّف وبرواية أبي هريرة. وهو يورد أيضا [II، 450]، عن أبي
هريرة خبرا آخر عن الرجم أُخرج بغزارة في مجموعة أستاذه اليمني (الصنعاني)
من طرق شتّى.
بالمقابل، فإن ابن حنبل قد اختار مسند عبد الله بن عمر لكي يُورد فيه خبر
رجم اليهودييْن. وهو يفعل ذلك مرّات عدّة : في بداية الأمر بصورة متكرّرة
في مواضع متعدّدة حسب الأسانيد [II، 7، 63، 76، 126]، وبواسطة إيحاء بسيط
للحادثة؛ ومرّتين أخريين بروايتين قصيرتين جدّا [II، 17، 151]، وفي النهاية
في خبر كامل نسبيّا ولكنه قصير [II، 5]. يُقدِّم هذا الخبر تنوّعا ملحوظا
فيما يتعلّق بـ «قارئ» التوراة الذي يضع كفّه على «آية الرجم» لكي يخفيها :
هذا القارئ يُدعى ابن صوريا وهو أعور. وبالمقابل، فإنّ عبد الله بن سلام
لا يَظهر هنا : فالفعل مبنيّ للمجهول [«فقيل له : ارفَعْ يدك»].
أمّا الطبري [3-4 ﻫ/9-10 م] فهو يعود إلى نفس الخبر خمس مرّات، كمفّسر
للقرآن، بخصوص سورة المائدة في الآيتين 41-42، مُتسائلا بالأساس بأَيٍّ من
الآيتين يليق أن نُلحق الحدث. يرد الخبر هنا كاملا مرّتين برواية أبي
هريرة. باستثناء بعض التغيّرات فإن الطبري ينقل إجمالا ما رُوي في مصنّف
عبد الرزاق عن طريق مَعمر عن الزُهري. وبالمناسبة، لا يظهر ابن إسحاق في
هذا الإسناد. ولذلك فإنّ الطبري لا يشير إلى سيرة ابن إسحاق كمرجع له. وهو،
بالإضافة إلى هذا، يُورد ثلاث روايات أخرى مختلفة بصورة ملموسة واحدة
منها، عن ابن زيد، تُثير لدى المفسّرين، من خلال أسباب النزول، إشكالا
فقهيّا : هل فعلا نُسخت آية الرجم؟
نستطيع أيضا أن نُضيف لهذه القائمة مجموعة الأحاديث الصغيرة التي ساقها
القرطبي [ت 671 ﻫ/1272 م]، المفسّر الأندلسي، في تفسيره لسورة المائدة [آية
41]. يستند القرطبي أساسا على الكتب الحديثيّة الكلاسيكية. الحديث الذي
استقاه من سنن أبي داود [ت 275 ﻫ/889 م] همّه بالخصوص تحديد الشرط الرئيسي
الذي توجِبُه التوراة، حسب الحَبْرين الأخويْن ابن صوريا اللّذين استجوبهما
محمّد، حتّى تُقبل تهمة الزنا، أي شهادة أربعة شهود عيان رأوا الجانِيَيْن
وقد التَحَم الخِتان بالختان : «يُغَيّب ذلك منه في ذلك منها كما يُغيّب
المرود في المكحلة والرشاء في البئر» [الجامع، VI 176-178]، وهذا في
المحصّلة تدقيق ربّينيٌّ جدًّا(11).
في مقدورنا مواصلة البحث هكذا في مختلف المُؤلّفات. ولكن هذه النخبة من
الأخبار، المحدودة قصدًا، تكفي لكي نلاحظ الطابع المتغيّر جدّا للأحاديث
المسندة لنفس السلف والمَرويّة، في النهاية ومع اختلافات طفيفة، عن طريق
نفس الرجال. بعض التغييرات في هذه الأحاديث تكون أحيانا ضئيلة؛ وفي أحيان
أخرى تكون أكثر أهمّية، وستكون لنا فرصة لإبراز أن التغيّرات اللفظية
يمكنها أن لا تكون أحيانا محايدة تماما. انطلاقا من نفس الحدث تكون
الأحاديث متغيّرة وذلك ليس لأنّها قد تكون فقط شفهية (إذ كانت هناك نصوص
مكتوبة حتى ولو على الأقل في حالة بدائية، عن طريق الإملاء)، ولكن لأن
الرجال الذين يروون هذه الأخبار لهم أيضا أهدافهم الخاصة بهم، ويحرّرون
داخل إطار أدبيّ معيّن تبعا لظرف معيّن.
ملاحظة ثانية، ملازمة للسّابقة، هي أنّ الإطار الشامل للأحاديث محلّ
الدرس، الواردة في كلّ من المُؤلّفات التي ذكرناها للمقارنة، ليس هو نفس
الإطار الذي حدّده ابن إسحاق. في الحقيقة، فإنّ الخبر المتعلّق باليهوديين
الزانيين والرجم، الذي جاء في السيرة، ليس غايته الأولى مناقشة مسألة فقهية
ولا الظهور في مُسند هذا الصحابي أو ذاك ولا حتّى استحضار «أسباب النزول»،
وذلك بالرغم من أنّ هذه الشواغل حاضرة أيضا عند ابن إسحاق كما هي حاضرة
عند الآخرين. ولكن قبل أن نتناول هذه النقطة، يتوجّب علينا أن نتعرّض
لمسألة حدّ الزنا نفسه كما تظهر في كلّ هذه المُؤلّفات.
رجم الزاني والزانية:
نحن نعرف أن المصحف العثماني الذي بين أيدينا اليوم لا يشتمل على أي آية
تنصّ صراحة على أن الرجم هو الحدّ الذي يجب أن يُطبّق على الزنا. العقوبة
الوحيدة الموجودة في النص القرآني الحالي، في أسوء الحالات، ليست سوى الجلد
مئة جلدة [النور، آية 2، وأيضا النساء، الآيات 15-18]. بالإضافة إلى أنّ
الأمر يتعلّق هنا بعقوبة تُسلّط على من أتى «الفاحشة» (في سورة النساء)
و«الزانية والزاني» (في سورة النور)، وذلك دون تحديد ما إذا كان الأمر
يتعلّق هنا بالمحصنين منهم أم الثيب [ضدّ البِكر (م)]. أن تقوم أحاديث
تُقرّها السنّة بتأكيد أن محمّد والخلفاء الأربعة رجموا أكثر من مرّة
وترتكز على ذلك لكي تحدّد الأساس الفقهي في هذا المضمار، فإنّ هذا التضارب
إذن، على ما يبدو، ليس من أقلّ التضاربات. وكذلك يبدو من أول نظرة أنّه من
المفارقة أن يَجْعلَ كتابُ سيرة منتشرٍ شديد الانتشار كسيرة ابن إسحاق/ابن
هشام من رجم الزاني والزانية حجر المحكّ في إعادة إحياء محمّد لشريعة موسى.
بالفعل، التشريع اليهودي ينصّ على الرجم [انظر سفر اللاويين 20، 10-21؛
سفر التثنية 22، 22-28]. وبناءً على ذلك فإنّنا منقادون للتّساؤل عمّا كان
الأمر عليه في الواقع في الممارسات وحتّى في بعض قراءات القرآن المختلفة.
هذه المسألة ليست غريبة عن الموضوع المباشر لدراستنا هذه.
أوّل شيء يمكننا قوله، هو أنّ النقاش حول هذا الموضوع يبدو شديد الحضور في
بدايات الإسلام سواء كان فقط نظريّا أو حِجاجيّا أو كان مطابقا لمشاكل
حقيقية. الفِقه الذي نتلمس صداه في بداية القرن 3 ﻫ/9 م في مصنّف عبد
الرزاق يتحدّث بإسهاب عن هذا الموضوع، كما نجده من جديد في كتب الحديث
الرسمية في القرنين 3-4 ﻫ/9-10 م. ومن أجل ذلك يستند رُواة الحديث على
السيرة التي سلكها مؤسّس الإسلام والخلفاء الراشدون في مرّات متكرّرة.
فهناك أخبار تذكر لنا، أحيانا بدقّة، وقائع رجم أخرى، بخلاف تلك التي
تتعلّق باليهوديين الزانيين، نُفِّذت بأمر من محمّد أو أحد الخلفاء الأربعة
وبالأخص منهم عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب. إذا لم نُصدّق كلّ الأخبار
في دقائق جزئياتها ولكن نُصدّق على الأقل الأحداث الخام التي تؤكّدها، يبدو
لنا على الأرجح أنّ هذه القضية، داخل الأمّة الناشئة، لم تكن فقط قضيّة
نظرّية مهما كانت أسباب وظروف هذه الممارسة.
والأكثر من ذلك أن المعطيات التراثية تتحدّث عن الخُطبة شديدة اللّهجة أو
آخر ما تفوَّهَ به عمر بن الخطاب قبل مقتله بقليل، إذ قال : «إِنَّ اللَّهَ
بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ،
وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ
الرَّجْمِ، فَقَرَأْنَاهَا، وَعَقَلْنَاهَا، وَوَعَيْنَاهَا، رَجَمَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ».
هذا الإثبات المنسوب لعمر، والذي يرد في ظرف هو هنا أيضا عرضة لتغيّرات
شتّى حسب الأخبار، حاضر هنا وهناك في مختلف كتب الحديث والتاريخ : سيرة ابن
إسحاق/ابن هشام [IV، 337]، موطّأ مالك [II، 884]، مصنّف عبد الرزاق [VII،
رقم 13.364]، مسند ابن حنبل (وهو مكرّر فيه سبع مرّات مع تنوّعات مختلفة)
[مسند، I، 23-55]، في الصحيحين، في طبقات ابن سعد وفي تاريخ الطبري [III،
204] … الخ(12).
بدون شكّ، ليس من الغريب أن يَتُمّ تقديم الخليفة عمر في هذه النصوص
كمناصر شرس للرّجم، الركن الأساس لنقاوة شريعة الله وقد أحياها محمّد في
وجه اليهود الكافرين : عدّة أخبار تُبرِز حزم عمر وحتّى عنف شخصيّته. ولكن،
في نفس الوقت فإن طبعه الحادّ يُمكن أن يُفسَّر أيضا وبالخصوص بواقع أنه
كان فاتح الشام وفلسطين، أمصارٌ كان على الإسلام الناشئ أن يحدّد فيها
أيديولوجيته تجاه اليهود والنصارى وعلى مستوى الشريعة. وهكذا من ممارسة
قديمة، والتي هي في نهاية المطاف محدودة نسبيّا، وقع الانتقال آنذاك إلى
التشريع بدون أن تظلّ مع ذلك هذه الممارسة قائمة. وقد يُفسِّر هذا سقوط
«آية الرجم من القرآن»، تَطابُقًا في ذلك مع التخلّي عن ممارسة بدائية،
ولكن مُتماشيا بالتوازي مع التّشدّد المُعلن في المبدأ : ألم يكن محمّد
المحيي للشريعة؟
أمّا بخصوص «آية الرجم» التي يؤكّد خِطاب عمر وجودها في القرآن، فإنّنا
نجد أوّل نصّ لها في موطّأ مالك [مرجع ذكر سابقا] كما نجده مرّتين في مصنّف
عبد الرزاق. يرد في هذا الأخير بإسناد أبيّ بن كعب، الصحابي وكاتب الوحي
للنّبي في المدينة : «إذا زنيا الشيخ والشيخة، فارجموهما البتّة نكالا من
الله، والله عزيز حكيم» [VII، رقم 13.363؛ III، رقم 5990] [قارن في القرآن
سورة 5، 38]. [يتعلّق الأمر هنا بأشخاص في عمر الكهولة. 50 سنة فما فوق، هو
السنّ الذي يُحدّد terminus a quo تقليديّا في العربية بداية الشيخوخة].
نجد من جديد جزءًا من هذا النص [إلى «البتّة»] في تفسير الطبري في رواية
خبر اليهوديين الزانيين المسندة إلى ابن زيد. السياق الذي ذُكر فيه هذا
الخبر لا يسمح قبل كلّ شيء بالتمييز لمعرفة ما إذا كان الأمر يتعلّق بآية
من التوراة [في الواقع، في الكتاب المقدس لا يبدو أنّ قانون الرجم حُدّد
خصّيصا للّذين بلغوا سنّ النضج، ولكن بدون شكّ نحن أمام تطوير لِلهَلَخاه
Halakhah(13) أو تفسير معياري للكتاب المقدس]، أو بآية من القرآن موجّهة
لليهود : الخبر ذكره الحَبْر على اعتباره من شريعة موسى. ولكن يبدو بعد ذلك
أن المفسّر اعتبره مشتملا على قانون يُلزم اليهود. وفعلا، يَعقب هذا الخبر
نقاش لمعرفة ما إذا كانت «هذه الآية» ثابتة اليوم تاركا للقضاة المسلمين،
إذا ما احتُكموا في ذلك، الاختيار في تطبيقها على اليهود أم لا، أو
اعتبارها أنّها آية «منسوخة». بعد أن أورد الطبري الحجج المتضاربة التي
قيلت في هذا الموضوع يعتبر من ناحيته أن هذه الآية تبقى صالحة إلى اليوم،
وأنها لم تُنسخ فيما يخصّ اليهود وأنّ السلطة القضائية الإسلامية في زمانه –
إذا طُلب منها أن تحكم في الأمر – تجد نفسها في ذات الظرف الذي وُجد فيه
محمّد، وعليه فلها الخيار : سواء خيارُ الرجم أو ترك الحكم لليهود أنفسهم.
إلاّ أنّنا نجد نصّا ثانيّا لآية قرآنية تتعلّق بالرجم. وهي آية أكثر
وضوحا بكثير وترد عدة مرّات، مثلا في مسند ابن حنبل بإسْناد صحابيٍّ آخر هو
عبادة بن الصامت. وهذا الحديث يخصّ الثيّب من النساء والرجال : «كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل الوحي عليه كرب لذلك، وتربّد وجهه. فأوحى
إليه ذات يوم فلقي ذلك، فلما سُرّي عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
خذوا عني، قد جعل الله لهنّ سبيلا : الثيّب بالثيّب والبكر بالبكر. الثيّب
جلد مائة ثمّ رجم بالحجارة؛ والبكر بالبكر جلد مائة ثمّ نفي سنة» [مسند،
V، 317 وما بعدها، قارن مع سورة 4، 15-16].
في مصنّف عبد الرزاق، يأتي هذا الحديث عن الحَسن [VII، رقم 13.308]،
ويُكرّره مسلم ثلاث مرّات في صحيحه كترجمة لباب «حدّ الزنا» [XI، 188].
والطبري يُورده مرّات عديدة أثناء تفسيره للآية «أَوْ يَجْعلَ اللهُ
لَهُنَّ سَبيلاً» [4، آية 15]، وهو إذ يعتبر أنّ هذا الحكم آتٍ من عند
الله، فهو يرى بناء على ذلك وُجوب رَجم الثّيّبيْن الزانييْن.
ليس هنا مجال للتّعمق أكثر في مسألة الرجم نفسها كقضيّة من قضايا قانون
الجنايات وكما تظهر في هذه النصوص داخل نقاشات رجال الحديث والفقه الإسلامي
في ذلك العصر ولا في امتداداتها المحتمَلة في الشريعة.
ما هو أكثر أهميّة لبحثنا هو الطريقة التي كُتبت وصيغت بها تدريجيّا
النصوص (السنّة والقرآن) التي كان عليها أن تصبح المراجع الأساسية للأمّة
الإسلامية في مواجهة الفِرق والطوائف الدينية الأخرى. فالتأرجح الواضح
للأحاديث، إلى حقبة متأخرة من الزمن، بخصوص ما يجب اعتباره «وحيا منزلا» أو
مجرّد «سنّة» النبيّ له دلالته في هذا الصدد. وكذلك هو الحال أيضا فيما
تذكره المأثورات مثلا حول شخصيّة أُبيّ بن كعب الذي يُنسب له واحد من نصوص
«آية الرجم» : حسب المأثور، كان لهذا المتعلِّم(14) من بني النجّار في
المدينة، قبل الجمع النهائي للقرآن الذي يتكوّن منه المصحف الحالي، مصحفٌ
لم يقبله الخليفة، ويُقال أن أُبيّ قَبِل بسحبه من التداول( 15). احتفظ
المأثور المتأخّر بذكرى هذا المصحف من خلال بعض التغييرات الطفيفة في قراءة
بعض الآيات يذكرها المتخصّصون في «القراءات». بيد أنّنا نعلم عن طريق ابن
النديم أن مُصحف أُبَيّ كان لا يزال متداولا في عصره [4 ﻫ/10 م] – أَحَد
مُخبريه استطاع الإطلاع عليه بالبصرة في قرية يقال لها قرية الأنصار -،
وأنّه كان يشتمل على الأقل على سورتين قصيرتين إضافيتين على المصحف
العثماني، وأنّ ترتيب السور مُختَلِف فيه. [الفهرست، ص 46-47](16).
من جهة أخرى، عدّة أحاديث تصوّر لنا محمّد يتناقش حول القرآن مع أُبيّ،
وقد كان سكرتيره الذي : «كان يكتب الوحي لرسول الله»، كما يقول ابن سعد.
لقد قيل مثلا أن محمّد كان قد قال له يومًا : «أمرني ربّي أن أقرأ عليك
القرآن، فقال أبيّ : وسمّاني لك؟ قال : وسمّاك لي، قال : فبكى أبيّ» كما
تختم القصّة [المصنّف، XI، رقم 20.411؛ الطبقات، III، 499-500]. وتُرْوى
أشياء مماثلة بخصوص عبد الله بن مسعود، صحابي آخر لم يُقبل مصحفه [الطبري،
تفسير سورة 4، آية 41].
مأثورات كثيرة أخرى من هذا القبيل يمكن أن يقع استحضارها تُشير إلى
المشاركة الفاعلة لبعض الأشخاص – من بينهم على الأخص أُبيّ – في كتابة
وكذلك في تدريس ما سيصبح القرآن : هناك حديث يَروي أنّ أبيّ : «كان (…)
يحرق الصحف، إذا اجتمعت عنده، فيها الرسائل وفيها : بسم الله الرحمن
الرحيم» [المصنّف، XI، رقم 20.901](17)؛ وحديث آخر يحكي : «أنّ جُندب بن
عبد الله البَجَلي قال : أتيت المدينة ابتغاء العلم فدخلت مسجد رسول الله
صلعم، فإذا الناس فيه حَلَق يتحدّثون، فجعلت أمضي الحلَق حتّى أتيتُ حلْقة
فيها رجل شاحب عليه ثوبان كأنّما قدم من سفر، قال فسمعته يقول : هلك أصحاب
العُقْدة وربّ الكعبة ولا آسى عليهم، أحْسبُه قال مرارًا. قال فجلست إليه
فتحدّث بما قضي له، ثم قام، قال فسألت عنه بعدما قام، قلت : من هذا ؟ قالوا
: هذا سيّد المسلمين أُبيّ بن كعب. قال فتبعته حتى أتى منزله فإذا هو رثّ
الهيئة، فإذا رجل زاهد منقطع يُشبه أمرُه بعضه بعضا، فسلّمت عليه فردّ
السلام ثمّ سألني : ممّن أنت؟ قلت : من أهل العراق، قال : أكْثرُ شيء
سؤالاً، قال لمّا قال ذلك غضبتُ، قال : فجثوت على ركبتي ورفعت يدي، هكذا
وصف، حِيال وجهه فاستقبلت القبلة، قال قلت : اللّهم نشكوهم إليك إنّا
نُنْفق نفقاتنا ونُنصب أبداننا ونُرحل مطايانا ابتغاء العلم فإذا لقيناهم
تجهّموا لنا وقالوا لنا. قال فبكى أبيّ وجعل يترضّاني ويقول : ويْحك لم
أذهب هناك، لم أذهب هناك. ثم قال : اللّهم إني أُعاهدك لئن أبقيتني إلى يوم
الجمعة لأتكلَّمنَّ بما سمعتُ من رسول الله لا أخاف فيه لَوْمَة لائم. قال
لمّا قال ذلك انصرفتُ عنه وجعلتُ أنتظر الجمعة، فلمّا كان يوم الخميس
خرجْت لبعض حاجتي فإذا السكك غاصّة من الناس لا أجد سكّة إلاّ يلقاني فيها
الناس. قال قلت : ما شأن الناس؟ قالوا : إنّا نحسبُك غريبا، قال قلت :
أجلْ، قالوا : مات سيّد المسلمين أبيّ. قال جُندب : فلقيت أبا موسى بالعراق
فحدّثته حديث أبيّ قال : والَهفاه! لو بقي حتّى تَبْلغنا مقالَتُه». وهكذا
وللأسف الشديد، مات أُبيّ قبل يوم الجمعة حاملا معه أسراره في قبره [ابن
سعد، الطبقات، III، 501-502]. وبالإضافة إلى هذا، فإنّ أُبيّ ليس هو الشخص
الوحيد المُقرّب من محمّد الذي تُروى عنه مثل هذه الأخبار هنا أو هناك في
كتب الحديث : كذلك رُوي عن أبي هريرة في حديث أورده البخاري أنّه قال :
«حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وِعَاءَيْنِ : فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ
فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ هَذَا الْبُلْعُومُ «[أُنظر أيضا ابن سعد،
الطبقات، II، 362].
لا مجال هنا لكي نتقدّم أكثر في مشكلة تكوّن النصّ القرآني، وفي التمييز
الذي وقع بين القرآن بما هو وحيٌ، «كتاب الله»، والمصحف باعتباره مُدوّنة،
وفي المسائل المختلفة المطروحة، سواء على مستوى الفقه أو التفسير أو في
ميدان تاريخ النصوص، من خلال موضوع رجم الزناة(18).
ومهما يكن من أمر، فإنّ الأخبار المذكورة بِعُجالة أعلاه تُوضّح جيّدا،
بأسلوب قصصي، المشكل الذي كان مطروحا منذ نهاية القرن الأول الهجري/السابع
ميلادي، ألا وهو نشوء النصوص الإسلامية الأساسية وتحريرها – ومن ضمنها
تدوين القرآن –، والطابع الجماعي لهذا التأسيس المتدرّج، الذي من الواضح
أنّه كان يتمّ في وسطٍ نسبيّا مغلق وغير خال من كثير من الجدل، والاحتياجات
التي كان يريد أن يلبّيها عند العرب المسلمين، وقد أصبحوا بسرعة كبيرة
أسيادًا لإمبراطورية. نجد صدى لكلّ هذا مُجتمعا في تأليف ابن إسحاق حول رجم
الزناة.
سيرة ابن إسحاق:
حسب ما هو متعارف عليه، ألّف ابن إسحاق كتابه في المغازي والسير بطلب من
الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور لولي العهد الأمير المهدي. يقدّم الكتاب
بأسلوب سردي الملحمة التأسيسية للإسلام. كوَّنت نواتَها البدائية مغازي
النبيّ، وهي عبارة عن نوع من الحماسة لم يكن ابن إسحاق أوّل من دشّن
الكتابة فيها. إلاّ أنّه زاد فيها زيادة ملحوظة من خلال حقبة تمتدّ منذ بدء
الخليقة إلى الخلفاء الراشدين. وبالفعل، فإنّ كُتّاب التراجم والفهارس
يذكرون له كتابا بعنوان «المبتدأ» [أو «المبدأ»]، الذي عُثر على قطعة منه
وطُبعت [N. Abbott, 1957](19 )، وهو يصف الأحداث منذ خلق العالم إلى مَبعث
محمّد، ومن رسالته إلى الهجرة؛ والمغازي، ومن الهجرة إلى غاية وفاة محمّد؛
ثم الخلفاء.
نجد التسلسل : المبتدأ والمبعث والمغازي، في كتاب المغازي والسير لابن
إسحاق كما رواه ابن هشام [ت 218/833]، نقْلاً عن زياد البَكّائي(20)، تحت
عنوان «سيرة رسول الله». يقول مؤلّفو التراجم والطبقات أنّ ابن هشام «هذّب»
كتاب ابن إسحاق مختصِرا في ذلك شديد الاختصار وبالخصوص القسم الأول منه،
وذلك بحذفه كلّ ما كان من الأشعار التي قيل أنّ معظمها «غير معروف عند أهل
العلم بالشعر»(21).
ولكن جوهر النصوص، فيما يخصّ حياة محمّد وبدايات لإسلام، باقٍ في رواية
ابن هشام. لدينا بالفعل، ومن جهة أخرى، مقاطع واسعة من مؤلَّف ابن إسحاق
اقتبسها بالخصوص الطبري. فهذا الأخير ينقل غالبا عن ابن إسحاق حرفيّا سواء
في تاريخه أو في تفسيره حسب رواية مختلفة لِسَلَمه بن الفضل. كلّ واحد من
هذه المقاطع، مأخوذ على حدة وخارج سياقه الأصلي، يتطابق في الغالب الأعمّ
مع رواية ابن هشام.
لدينا أيضا رواية ثالثة للسّيرة، وهي رواية العُطاردي [3 ﻫ/9 م]، ولكنّها
ناقصة جدّا إذ أنّها لا تُغطّي، في صيغتها الحالية، إلاّ الفترة المكيّة من
حياة محمّد وبعض عناصر نادرة من الفترة المدنيّة [طبعة حميد الله 1976،
وطبعة زَكّار 1978](22)
الإطار الأدبي للخبر:
إنّ نوع التلخيص الذي قام به ابن إسحاق بخصوص رجم اليهوديين الزانيين لا
يندرج في عداد المرحلة البدائية للمغازي. بالرغم من أنّ الخبر الإطار،
المنسوب لأبي هريرة، يوضّح بدقّة أن القصّة وقعت : «حين قدم رسول الله صلى
الله عليه وسلّم المدينة»، فإنّنا هنا وسط تأليف خارج الوقائع وخارج
التسلسل الزمني. زمنيّا، وتماشيا مع منطق السيرة نفسها، لا يمكن قبول أنّه
في مدّة الإثني عشر شهرا هذه، التي تمّ خلالها وضع صحيفة يثرب [= معاهدة]
بين المهاجرين والأنصار والتي كان اليهود طرفا كاملا فيها باسم المجهود
الحربي المشترك، قد حدث نقاش حول شريعة موسى ورجم الزانيين اليهوديين. في
الواقع، هذا التأليف يُمثّل جزءًا من كلِّ وُضع كَرابط بين المواد الأولى
لفترة مَبْعَث محمّد ومرحلة المغازي نفسها. هذا الكُلّ، وهو حِجاجيّ أكثر
ممّا هو تاريخي، وُضع هنا قبل أن يقع تحديد تاريخ الهجرة، وحالما يقع ذْكر
هذا التاريخ، تبدأ المغازي : [«ثمّ خرج (رسول الله) غازيا في صفر على رأس
اثنيْ عشر شهرا من مقدمه المدينة». السيرة، II، 223].
قصّة اليهوديين الزانيين هي عنصر من عناصر ما يشبه اللّوحة الجدارية التي
من خلالها يضع المُؤلِّف وجها لوجه نبوّة محمّد وأصحابه مع مجموعات دينيّة
أخرى. يتّخذ اليهود فيها مكانا كبيرا وعديدُ الأخبار تخصّهم ومن بينها
نصّنا هذا. وكذلك هو الشأن بالنسبة للنّصارى الذين سيأتي دورهم لاحقا :
فالأخبار حول وَفْد نصارى نجران، ومحاجّتهم النبي وملاعنته [المباهلة] بما
يعتقدونه في المسيح هي جزء من نفس الكُلّ. وكذلك الشأن في ذكر «المنافقين»،
هؤلاء القوم المتردّدون أو الذين يُظهرون ما لا يُبطنون والبعض منهم
يَتصنّع زورًا الانتماء إلى دين إبراهيم النقيّ [الحنيفية]. هؤلاء
«المنافقون» هم في الغالب من اليهود. على كلِّ هذه الفِرق يردُّ النبيّ
الجديد بحُجج مُتناسبة مع طبيعة رفضهم، ويكون هذا عامّة من خلال «نزول»
آيات قرآنية.
إذن، فإنّ غاية المؤلِّف هي تحديد كلّ هذه الفرق إيديولوجيّا من خلال
تصنيفها بالنّسبة للإسلام. تحديدُ هذه الفرق وتصنيفها، ولكن أيضا وبالخصوص
تحديدُ موقع المسلمين بالنّسبة لها. في نفس الفترة، أبدى المُحدّث مَعْمر
بن راشد [تـ 155/771] نفس الاهتمام في ميدانيْ الشريعة والتنظيم الاجتماعي
مستعرضا مختلف الوضعيّات الفقهية التي توجِب تعايش المسلمين مع «أهل
الكتاب» بما فيهم الزرادشتية (السلوك الاجتماعي، الزواج، الإرث، الخ.)
[المصنَّف، VI، رقم 9837 وما بعده].
فالأحداث ليست إذن مرويّة بهدف سرد الوقائع. فالأمر يتعلّق بخطاب رمزي.
ومن ناحية أخرى، فإنّنا لا نجد أثرا لهذه الأحداث في كتاب المغازي للواقدي؛
وإذْ أنّنا نجد خبر اليهوديين الزانيين والمباهلة مع نصارى وفد نجران عند
الطبري ولكن ليس ذلك في كتابه التاريخي ولكن فقط في تفسيره، وكأنّما أراد
بذلك أن يفصِل بين الميدان التاريخي وميدان الاجتهاد الديني. وعليه، يجدر
بنا، في كلّ الحالات، أن نقرأ ونحلّل الاستنتاج الذي قدّمته السيرة بخصوص
الأخبار الثلاثة حول اليهوديين الزانيين، داخل إطار الخطاب الديني
الحِجاجي.
الترتيب الكلّي:
إنّ ترتيب هذا القسم من السيرة النبويّة حول المقصد الشامل لتقريظ الإسلام
يقابله أيضا ترتيب خاصّ للأخبار المتعلّقة برجم اليهوديين الزانيين.
فالاهتمام بترتيب هذه المادّة الأساسية ظاهر للعيان : فقد جاءت فيه مختلف
العناصر متميّزة الواحد عن الآخر بكامل الوضوح، ولكنّها تقدّم لنا نفسها في
اندماجات مُتعاقبة. حتّى وإن كان كلّ واحد من العناصر يُرفع إلى صحابيّ
مختلف، فإنّ الترتيبات في الأسلوب وبعض التكرارات تجعل من الأخبار الثلاثة
كُلاًّ موحّدا. الحلول الحقيقيّة الوحيدة للرّبط التي تَظهر فيه هي تدخّلات
الآيات القرآنية مُقدَّمة على أنهّا تمثّل «أسباب النزول» المتعلّقة
بالحدث المروي.
من ناحية أخرى، المؤلِّف مُدركٌ تماما طابعَها العَرَضي : «فالله أعلم أيّ
ذلك كان»، كما يُلاحظ ابن إسحاق نفسُه، مردِّدًا الجدال حول أسباب نزول
هذه الآية أو تلك من سورة المائدة، وكذلك بدون شكّ حول «الآيات الناسخة
والآيات المنسوخة». أخيرا، إذا كان المؤلِّف، من خلال حديثين بإسنادَيْن
مختلفين، رجع مرّتين إلى الجدل مع أحْبار اليهود، فإنّ ذلك لا يشكّل
انقطاعا. في المرّة الثانية، يتعلّق الأمر بنوع من الفلاش باك يسمح له أن
يَختم موضوع إحياء أمر الله وتطبيقه على الفور.
السرد، الذي وُظِّفَت له الاندماجات المتلاحقة للأخبار الثلاثة الأساسية
والتي تنتهي بنفس اللاّزمة [«فرُجِما عند باب مسجده»]، إذا ما خفّفنا عنه
وزره من التفاسير القرآنية، فإنّه ينتَظم حول العناصر الثلاثة التالية :
1 – الجناية. اجتماع أحبار اليهود في بيت المدْراس؛ الإتيان بالجانييْن
إلى محمّد ومطالبته بإصدار حكم في حقّهما.
2 – الجدل مع الأحبار حول آية الرجم؛ الحُكم.
3 – تنفيذ الحُكم؛ ما فعله الجانيان أثناء الرجم؛ شهادة ابن عمر حول
مشاركته هو بالذّات في الرجم.
هذا هو «الهيكل العظمي» للسّرد الذي تعتمده السيرة والذي هو نفسه في كلّ
الروايات الأخرى، غير أنّ السيرة تَكسوه بطريقة خاصّة.
الهوامش:
(*) العنوان الفرعي من عندنا. [المترجم]
1- تطفح كتب الحديث والتراجم بروايات مختلفة تطعن كلّها في مصداقيّة كلّ
ما رواه أبو هريرة عن النبيّ وتذكر المناسبات العديدة التي أظهر فيها
الخليفة عمر بن الخطاب غضبه عليه وتهديده له بضربه وتأديبه بالدرّة إن هو
لم يكفّ عن ذلك. بالفعل تؤكّد لنا كثير من المصادر، على لسانه هو بالذات،
أنّه كفّ عن رواية الحديث حتّى وفاة عمر. فقد جاء في سير أعلام النبلاء، ج
2، ص 433 : «عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : ما كنّا نستطيع أن
نقول : قال رسول الله حتّى قُبِض عمر، كنّا نخاف السّياط». ويقول ابن قتيبة
في كتابه تأويل مختلف الحديث : «لقد أتى أبو هريرة ما لم يأت بمثله من
جُلّة الصحابة والسابقين الأوّلين. اتّهموه وأنكروا عليه، وقالوا كيف
سَمِعْتَ هذا وحدك ومن سمع معك؟ وكانت عائشة أشدّهم نُكرانا عليه، وكانت
تعارضه لتَطاوُل الأيام بها وبه. وقد تُوفّيت قبله بسنة». والأغرب من هذا
تلك الشتائم اللاّذعة التي تبادلاها بخصوص الرواية عن النبيّ، فقد أورد
الذهبي (نفس المصدر، ص 435) أنّ عائشة كذّبت أبو هريرة وانتقدته بشدّة
فخاطبته : «إنك لتُحدِّث حديثاً ما سمعتُه من النبي، فقال : ما كانت تشغلني
عنه المرآة ولا المكحلة ولا المدهن، قالت : إنما أنتَ الذي شغلك بطنك،
وألهاك نهمك عن رسول الله، حتى كنت تعدو وراء الناس في الطرقات تلتمس منهم
أن يطعموك من جوعك، فينفرون منك ويهربون ثم ينتهي بك الأمر إلى أن تُصرَع
مغشياً عليك من الجوع أمام حجرتي، فيحسب الناس أنك مجنون فيطأون عنقك
بأرجلهم». والمثير للدّهشة حقّا، بعد كلّ هذا، أن نرى كبار مُدوّني الحديث
والسير لم يُثْنهم ذلك عن حشو مُصنّفاتهم بالأحاديث المرويّة عنه. فقد رُوي
عنه 5374 حديثا خرّج منها البخاري ومسلم 1574 حديثا أي ما يعادل أكثر من
تسعة أضعاف الأحاديث الواردة عن الصحابة بما فيهم الخلفاء الأربعة.
(المترجم)
2- ذُكرت أخبار عدّة حول أسباب الخصومة بين مالك وابن إسحاق. فقد جاء
مثلا في كتاب المعارف لابن قتيبة أنّ سبب ذلك هو أنّ ابن إسحاق كان يتمسّك
بمذهب القدر، وجاء في كتاب التهذيب لابن حجر عن أبي زُرْعة أنّ سبب خصومة
مالك لابن إسحاق هو آراؤه في القدر. وقال إنّ ابن إسحاق صرّح بعدم رضاه عن
علم مالك [أي الموطّأ (م)]. وأضاف بأنّ مالكا لم يكن يقدح في ابن إسحاق من
أجل الحديث : «إنّما كان ينكر تَتَبُعه غزوات النبي (ص) من أولاد اليهود
الذين أسلموا وحفظوا قصّة خيبر وغيرها وأن ابن إسحاق يتتبّع هذا منهم من
غير أن يحتجّ بهم، وكان مالك لا يرى الرواية إلاّ عن مُتقن» [التهذيب، ص
45]. ويذكر ياقوت أنّ تلميذ ابن إسحاق، عبد الله بن إدريس، أورد عبارة ابن
إسحاق، التي يَطْعَن فيها في موطّأ مالك بن أنس، وجواب مالك عنها : «كنت
عند مالك بن أنس، فقال له رجل : إنّ محمد بن إسحاق يقول : اعْرِضوا عليَّ
علم مالك بن أنس فإنّي أنا بَيْطارُه. فقال مالك : انظروا إلى دجّالٍ من
الدَّجاجِلة يقول : اعرضوا عليّ علم مالك». مقتبس من كتاب : المغازي الأولى
ومُؤلِّفوها، يوسف هوروفيتس، ترجمة حسين نصّار، راجعه وقدّم له مصطفى
السقا، القاهرة 1949، ص 79. أُعيد طبعه بدار بيبليون، باريس 2005.
(المترجم)
3- يذكر المؤلِّف في هذا الهامش أنّه ترجم بنفسه الأحاديث المختلفة التي
استعملها في سياق دراسته هذه وأنّه، لتخفيف نصوص الحديث، حذف التّصلية
والتسليم والتسبيح والترضية … إلخ ((eulogie الواردة فيها. ويوضّح أن
الإحالات إلى طبعات النصوص التي استعملها مشار إليها في المراجع في نهاية
الهوامش. لقد عوّدنا دو بريمار على ترجمة النصوص التي يستشهد بها من آيات
قرآنية وأحاديث ونصوص أخرى. لا يُستغرب هذا من باحث قدّم سنة 1968 أطروحة
ماجستير باللّغة العربية أمام جامعة الجيزة بمصر، وهو نادر جدّا وربّما
كانت، على حدّ علمنا، سابقة بين المستشرقين. (المترجم)
4- بالعبرية : المدراش جمعها مدراشيم [تأويل، تفسير]. وهو التفسير اليهودي
للتوراة بالعبرية والأرامية. ويوجد صنفان من التفاسير : المدراشيم الهلاخي
والمدراشيم الهجادي. [المترجم]
5- يعطي أبو داود في سننه بعض التفاصيل الإضافيّة للواقعة مُصوّرا مشهد
إجلال النبي لكتاب التوراة : "أتى نفر من يهود، فدعوا رسول الله إلى
القُفِّ [اسم واد من أوديّة المدينة]، فأتاهم في بيت المدراس، فقالوا ك يا
أبا القاسم، إنّ رجلا منّا زنى بامرأة فاحكم بينهم، فوضعوا لرسول الله (ص)
وسادة فجلس عليها، ثم قال بالتوراة فأُتِيَ بها، فنزع الوسادة من تحته،
فوضع التوراة عليها، ثم قال : آمنت بكِ وبمن أنزلكِ، ثم قال : ائتوني
بأعلمكم، فاُتي بفتى شاب[ =ابن صُوريا]، فذكر قصّة الرجم". [سنن، رقم 4449،
أخرجه أبو داود من طريق ابن وهب، حدّثني هشام بن سعد، أن زيد بن اسلم
حدّثهم عن ابن عمر …]. (المترجم)
6- مَنع تطبيق حدّ الرجم في حقّ ذوي النفوذ نجد روايتين بارزتين عنه في
المأثور الإسلامي اللاّحق. والملفت للنّظر أن البطل فيهما كان دائما عمر بن
الخطّاب. الأولى تخصّ خالد بن الوليد : فقد جاء في كنز العمّال للمتّقي
الهندي، المجلد الخامس، الحديث رقم 14091 : «عن ابن أبي عون وغيره، أنّ
خالد بن الوليد ادّعى أنّ مالك بن نويرة ارتدّ بكلام بلغه عنه، فأنكر مالك
ذلك، وقال : "أنا على الإسلام، ما غيّرْتُ ولا بدّلت"؛ وشهد له بذلك أبو
قتادة وعبد الله بن عمر، فقدّمه خالد وأمرَ ضرار بن الأزور الأسدي فضرب
عنقه، وقبض خالد امرأته، فقال لأبي بكر : "إنّه قد زنى، فارجُمْهُ". فقال
أبو بكر : "ما كنْتُ لأرجُمه، تَأَوَّلَ فأخطأ". قال : "فإنّه قد قتل
مُسلِمًا فاقتُلْهُ"، قال : "ما كنت لأقتُله، تأوّل فأخطأ"، قال :
"فاعزله"، قال : "ما كُنت لأشيم (لأَغْمد) سيفًا سلّه الله عليهم أبدًا».
وجاء في البداية والنهاية لابن كثير، ج 6، فصل "في خبر مالك بن نويرة
اليربوعي التَّميمي"، ص 553 : «المقصود أنَّه لم يزل عمر بن الخطَّاب رضي
الله عنه يحرِّض الصِّديق ويذمِّره على عزل خالد عن الإمرة ويقول: إنَّ
في سيفه لرهقاً، حتَّى بعث الصِّديق إلى خالد بن الوليد فقدم علي