** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
الرئيسيةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوع
 

 كاسبر ديفيد فريدريش

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
فدوى
فريق العمـــــل *****
فدوى


التوقيع : كاسبر ديفيد فريدريش I_icon_gender_male

عدد الرسائل : 1539

الموقع : رئيسة ومنسقة القسم الانكليزي
تاريخ التسجيل : 07/12/2010
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 7

كاسبر ديفيد فريدريش Empty
06102018
مُساهمةكاسبر ديفيد فريدريش

كاسبر ديفيد فريدريش Arton15105-750x430

يعتبر الرسام الألماني الكبير كاسبر ديفيد فريدريش (1774 – 1840) من أهم رسامي الفترة الرومانسية في تاريخ الفن الألماني والعالمي في القرن التاسع عشر. ويعد كاسبر ديفيد بصفة خاصة من أبرع رسامي المناظر الطبيعية على الإطلاق، فالمناظر في لوحاته نراها كما لم نرها عند غيره من الفنانين الذين برعوا وتخصصوا في رسم المناظر الطبيعية، إذ يتسم تناوله لها بنزعة استعارية ورمزية لا تخطئها العين، ويغلب عليها سمة التأمل والعمق، ولا تخلو من الجنوح إلى الوحدة والانعزال والكآبة والتشاؤم. كما تتميز لوحاته بوضع الوجود الإنساني في منظور بُعدي صغير وسط مناظر طبيعية شاسعة، والعمل قدر الإمكان على تقليص أو تقزيم الشخصيات المرسومة مقارنة بالطبيعة من حولها. وبالرغم من تركيز أعمال كاسبر على تناول المناظر الطبيعة، الأمر الذي كان شائعًا في تلك الفترة، إلا أن تناوله لها كان مختلفًا تمام الاختلاف، ونستطيع القول بإنه خلق تحولا يكاد يكون جذريًا في تناول المناظر الطبيعية ورسمها، هذا بالطبع إلى جانب أن فنه كان شديد الذاتية والأصالة والابتكار لدرجة تعذّر معها تقديره في حينه.
ظهرت أعمال كاسبر في فترة كانت فيها المجتمعات في جميع أنحاء أوروبا تعاني من خيبة الأمل المتزايدة جراء النزعة المادية التي باتت تحكم المجتمعات والأفراد بصفة عامة، وكان كاسبر مدركًا لهذا تمام الإدراك فراح يسعى في فنه للتعبير عن جمال الخلق الإلهي الماثل في أنحاء الكون، وعن كل ما هو روحي مقابل ما هو مادي، وما هو زائف ومصطنع في الحضارة الإنسانية.
في بدايته المهنية جلبت له أعماله قدرًا لا بأس به من الشهرة، وقد تحدث عن أعماله العديد من الفنانين المعاصرين له ومنهم النحات الفرنسي “ديفيد دي أنجيه” (1788 – 1856) الذي تحدث عنه باعتباره الرجل الذي اكتشف “مأساة المناظر الطبيعية”. وبالرغم من تفاقم النزعة المادية المواكبة لازدياد وتيرة التطور والتمدن والتحديث في أوروبا وألمانيا أواخر القرن التاسع عشر، لم يحد كاسبر عن تصوير ما يجيش في أعماقه وما ترصده بصيرته في الطبيعة وفقًا لرؤيته ومنظوره الشديد الخصوصية، ولذا اعتبرت أعماله وقتها، في أحيان كثيرة، من مخلفات عصر مضى وولى. وبلغ الأمر مرحلة فقدت معها أعماله كل بريق في أعين الناس خلال السنوات الختامية من مرحلته الإبداعية ومساره المهني، لدرجة أنه توفي مغمورًا، وتقريبًا كما يقول أحد المؤرخين: “شبه مجنون”. لكن، مع بدايات القرن العشرين، عاد الاهتمام والتقدير مرة أخرى لأعمال كاسبر، وكانت البداية في عام 1906 مع معرض أقيم في برلين لاثنتين وثلاثين لوحة ومنحوتة من أعماله. وفي عشرينيات القرن الماضي اكتشف التعبيريون لوحاته، وفي الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات استمد السرياليون والوجوديون الكثير من أفكاره في أعمالهم. و سرعان ما أعيد إليه الاعتبار كفنان وطني كبير ورمز للحركة الرومانسية الألمانية، وكعلم متميز من أعلام الفن التشكيلي على مستوى العالم.
حياته ومساره المهني
ولد كاسبر في الخامس من سبتمبر ببلدة “جرايفسفالد” المطلة على بحر البلطيق، وكان ترتيبه السادس بين عشرة أولاد. كان والده، “أدولف جوتليب فريدريش”، الذي رباه على العقيدة اللوثرية الصارمة يعمل بصناعة الشمع والصابون. وتشير بعض المصادر إلى أن الأسرة كانت تعيش حياة مادية جيدة مما أتاح للأطفال تلقي تعليمًا خاصًا، في حين ترجح مصادر أخرى أن الأسرة كانت تعيش في حالة من الفقر النسبي. خبر كاسبر تجربة الموت منذ طفولته المبكرة، فقد توفيت والدته “صوفي دروثيا بيشلي” وهو في السابعة من عمره، وبعدها بعام شقيقته “إليزابيث” في حين ماتت شقيقته الأخرى “ماريا” بعد بضع سنوات بسبب التيفوس، وقبلها بعامين أو ثلاثة توفي شقيقه “يوهان كريستوفر”، وقد تركت تلك الوفاة أكبر أثر مأساوي في حياة كريستوفر، وظل شبحها يلازمه حتى وفاته. كان كاسبر وقتها في الثالثة عشر من عمره، وكان شاهدًا على مصرع شقيقه الأصغر غرقًا بعدما هوى به سطح البحيرة المتجمد. وتشير بعض الروايات الأخرى إلى أن وفاة شقيقه وقعت بينما كان يحاول إنقاذ حياة كاسبر التي كانت معرضة لخطر الغرق أيضًا.
بدأ كاسبر دراسته الأكاديمية للفن في جامعة جرايفسفالد عام 1790، على يد الفنان “يوهان جوتفريد كويستورب”، الذي كان يشجع تلاميذه على الخروج إلى الهواء الطلق وتأمل الطبيعة ورسمها، وكان نتاج هذا غرام كاسبر بالطبيعة، واستلهامه لها في جل أعماله. كما اهتم كاسبر ديفيد في تلك الفترة باللاهوت وكذلك الأدب وعلم الجمال إلى مشاهدته للأعمال الفنية القديمة والحديثة. وفي تلك المرحلة لفت أستاذه يوهان جوتفريد نظره إلى أعمال الفنان الألماني “آدم إلشيمير”، التي كان يغلب عليها الطابع الديني والمناظر الطبيعية والأجواء الليلية، وقد تأثر بها كاسبر إلى حد كبير. وفي عام 1794، دخل كاسبر أكاديمية كوبنهاجن المرموقة، حيث بدأ تعليمه هناك بتعلم أعمال السبك، التي كان ينفذها لنسخ نحتية قديمة، إلى أن استغنى عن الاستعانة بالأعمال النحتية القديمة أو المنفذة بالفعل وشرع في رسم ونحت أعمال جديدة خاصة به مستهلمة من الحياة. كما كان لتواجده في كوبنهاجن أعظم الأثر في مشواره المهني حيث تردد هناك على “المتحف الملكي” وشاهد المجموعة الفنية التي يقتنيها وكلها لوحات ترجع إلى القرن السابع عشر تصور وتجسد خير تجسيد أجمل المناظر الطبيعية الهولندية بريشة العديد من فناني المناظر المتميزين.
استقر كاسبر ديفيد بشكل دائم في دريسدن عام 1798، وخلال الفترة الأولى من استقراره وبداية مشواره المهني شرع في تجريب موهبته في وسائط فنية عديدة، منها أعمال الطباعة ذات النقوش والتصميمات الخاصة بالحفر الخشبي والتي كان ينفذها شقيق له يعمل صانع أثاث. لكن سرعان ما انجذب كاسبر إلى العمل باستخدام الألوان المائية والحبر والسيبداج، ولم ينفذ سوى لوحات قليلة بالألوان الزيتية خلال تلك الفترة حتى تمكن منها تمام التمكن وذاع صيته وترسخت سمعته.
كانت المناظر الطبيعية موضوعه الفني المفضل، وأغلب تلك المناظر استلهمها من رحلاته المتكررة بداية من عام 1801، إلى ساحل بحر البلطيق وبوهيميا وجبال هارز. ومعظم أعماله تقريبًا تصور مناظر من شمال ألمانيا: جبال، تلال، غابات، موانئ، ضباب الصباح، سحب، ثلوج، أماكن محيطة بدريسدن ونهر الألب، وأيضًا اهتمامه برصد تأثيرات الضوء عليها بناء على مراقبته الدقيقة لها وإبرازه لتأثير ضوء الشمس والقمر على السحب والمياه، والاهتمام بالظواهر البصرية التي يتميز بها بحر البلطيق والتي لم يسبق لرسام قبله أن تناولها بمثل هذا القدر من الدقة والتركيز.
ترسخت سمعت كاسبر كفنان عندما فاز بجائزة مسابقة “فيمار” التي كان ينظمها الكاتب والشاعر والمسرحي “فولفجانج فون جوته” عام 1805، والتي كانت تحظى بإشراف جوته نفسه. وقد تقدم كاسبر للجائزة بعملين بعنوان: “موكب جنائزي عند الفجر” و”مجموعات الصيادين عند البحر”، وقد أثنى جوته على موهبة كاسبر وتحمس لعمله أيما حماس وكتب عن لوحة الموكب قائلا: “يجب علينا أن نثني على براعة الفنان في هذه اللوحة بكل أمانة. فالرسم متقن جدًا، والموكب عبقري ومناسب… ومعالجته للموضوع تشتمل على قدر كبير من الحزم والعناية الفائقة والإتقان… الألوان المائية تتسم بالعبقرية… وهي أيضًا تستحق الثناء”.
انتهى كاسبر من رسم أولى لوحاته الهامة بحلول عام 1807 وهو في الرابعة والثلاثين. وكان من بينها لوحة “الصليب فوق الجبل”. نعرف مدى أهمية هذا المشهد في السياق الديني المسيحي وكيف تم تصويره في الأفلام واللوحات والفن الغربي بصفة عامة وإلى أي مدى استحوذت عملية الصلب والصليب وسيطرة المغزى الديني والرمزي على أي فنان قدمها، إلا إننا هنا في هذه اللوحة مع كاسبر نجدنا بخلاف كل هذا تمامًا، فاللوحة تهيمن عليها الطبيعة كلية ويبدو مشهد الصلب في حد ذاته وقد توارى في خلفية اللوحة فوق قمة جبل يعلوه صليب بمفرده لا يكاد يبين من فوقه، فالمشهد غامض ومبهم ومصور من وجهة نظر غاية في البعد، وبالطبع، كما سبق أن ذكرنا، لم يكن كاسبر يتعمد هذا بصفة خاصة فيما يتعلق بتجسيد هذا المشهد الديني بالذات، لكنها طبيعته في كل لوحاته التي تقصي وتقلص وتحجب ما هو بشري إلى أقصى حد وتبرز وتعلي من مكانة ما هو طبيعي وتجريدي وكوني وروحي. وبالرغم من أن كاسبر كان معروفًا بكونه فنانًا صوفيًا مغرقًا في الإيمان، إلا أن هذا العمل قوبل ببرود شديد من جانب الجمهور وانتقده الكثير من النقاد، مما اضطره وقتها في عام 1809، إلى الكتابة عن عمله شارحًا وموضحًا وجهة نظره، وكانت تلك المرة الأولى والأخيرة التي يفعل فيها هذا.
تزوج كاسبر في عام 1818 من فتاة في الخامسة والعشرين تدعى “كارولين بومر” ابنة أحد الصباغين من دريسدن، وأنجب منها ثلاثة أبناء. في سيرته التي كتبها عنه ذكر المؤرخ والرسام “كارل جوستاف كارسنوتس”، قال إن الزواج لم يؤثر إلى حد كبير على حياة كاسبر أو شخصيته، ومع ذلك نجد أن لوحاته التي ترجع إلى تلك الفترة تظهر إحساسًا جديدًا بالحيوية والخفة، وباليتة ألوانه أكثر إشراقًا وأقل تقشفًا، كما تظهر الشخصيات الإنسانية بوتيرة متزايدة في لوحات تلك الفترة.
وقد عاني كاسبر فترات كثيرة من الضيق المادي، لكن نجاحه في تنفيذ بعض الأعمال الخاصة التي قام بها في حدود ضيقة لصالح بعض الأمراء والنبلاء كانت تكفل له قدرًا لا بأس به من المال، كما كان للدوق الروسي “نيكولاي بافلوفيتش” دورًا هامًا في شراء العديد من أعمال كاسبر عندما زاره في مرسمه عام 1820، وهو الأمر نفس الذي فعله الشاعر الروسي “فاسيلي جوكوفيسكي”، سواء بشرائه بعض اللوحات لنفسه أو لبلاط الملك “ألكسندر الثاني” وأسرته، وقد توطدت عرى الصداقة بين فاسيلي وكاسبر منذ زيارته له أول مرة عام 1821 وشراء لوحاته، وقد يظل يساعده بين الحين والآخر حتى آخر لحظة في حياته المهنية خاصة بعدما داهمه المرض وأعوزه الفقر.
أخذت سمعة كاسبر ديفيد في التدهور على نحو مضطرد على مدى السنوات الخمس عشرة الأخيرة من حياته. وكان من أسباب ذلك تناقص الاهتمام بالمرحلة الرومانسية وأعمالها، كما أن النظرة العامة إلى كاسبر وأعماله أخذت في التبدل والتعامل معها باعتبارها بعيدة كل البعد عن روح العصر والموضة، هذا بالطبع إلى جانب شخصية كاسبر وما كان ينسج من حكايات حول غرابة أطواره وسوداويته. وتدريجيًا راح الراعاة والمحبين يبتعدون عنه. ومنذ عام 1820 كان يعيش في حالة من العزلة التامة والوحدة القاسية، وكان يقضي فترات طويلة من يومه في السير وحيدًا عبر الغابات ووسط الحقول أثناء النهار والليل وغالبًا قبل شروق الشمس.
وفي يونيو عام 1835 عانى كاسبر ديفيد من أول جلطة دماغية، نتج عنها إصابة أطرافه بشلل بسيط وقلصت إلى حد كبير من قدرته على الرسم. نتيجة لهذا لم يكن باستطاعته العمل باستخدام ألوان الزيت، فاقتصر على استخدام الألوان المائية عوضًا عنها، إلى جانب السبيداج وإعادة صياغة أو العمل مجددًا على بعض التكوينات والأعمال السابقة. وبالرغم من أن بصره كان لا يزال قويًا إلا إنه فقد القدرة على التحكم الكلي في يده. ومع ذلك، فقد استطاع أن يبدع لوحاته الأخيرة التي أطلق عليها “اللوحات السوداء”، ومنها لوحة بعنوان “شاطئ البحر في ضوء القمر” (1835 – 1836)، وعبّر عن عظمتها الكاتب والناقد الفني “ويليام جوجان” في كتابه “كاسبر ديفيد فريدريش” (لندن، 2004) قائلا: “إنه من أحلك الشواطئ التي أبدعها، وفيها قدر من درجة الثراء اللوني تغني عن كل ما افتقر إليه من جودة وبراعة في الشواطئ السابقة”. وقد ظهرت رموز الموت في لوحة أخرى له ترجع إلى نفس تلك الفترة من حياته المهنية. وبعد إصباته بالجلطة بفترة وجيزة قامت العائلة المالكة الروسية بشراء مجموعة من لوحاته المبكرة، وقد أتاح له عائد بيع اللوحات القيام بسفرة استشفائية من أجل التعافي في “تيبليتز” بساكسونيا، وهي الآن أكبر مركز استشفائي في جمهورية التشيك بعد كارلوفي فاري.
في منتصف الثلاثينيات بدأ كاسبر ديفيد سلسلة من البورتريهات ورسم نفسه في بعض اللوحات كما في السابق، لكن هيئته في تلك اللوحات الأخيرة أظهرته على عكس اللوحات السابقة، في حالة من التعب والوهن والتيبس وانحناء القامة. وبحلول عام 1838 صارت قدرته على العمل تكاد تكون معدومة، ولم تعد أعماله تباع أو تحظى باهتمام النقاد والجمهور، فغرق وأسرته في الفقر واضطر للاتكال على مساعدات الأصدقاء مثلما كان الأمر في بداية مرضه. وراحت شهرته وسمعته في التدهور أكثر وأكثر، وعندما توفي في مايو 1840، بالكاد انتبه الوسط الفني والمهتمين لوفاته.
التيمات أو المواضيع
كانت أداة الابتكار الرئيسية في فن المناظر الطبيعية لدى كاسبر، النابعة من موهبته الأصيلة، تتمثل في عمق الرؤية البصرية لديه والمنظور الجديد ونظرة العين المختلفة التي يصور بها مناظره. وثمة أداة أخرى لا تقل عنها أهمية، وهي سعيه لخلق قدر من السمو بمعناه الفلسفي والتجريد بمفهومه الفني المطلق، وليس بمفهومه الحديث أو المعاصر، وكذلك التأمل الروحي العميق عند الغرق في تفاصيل اللوحة والحالة النفسية التي تتلبس المشاهد عند تأمله لها وللطبيعة بطريقة لم يعتدها بصره من قبل. إن لوحات كاسبر بألوانها وموضوعاتها وشخوصها وتكويناتها تعتبر دون أدنى شك بمثابة كادرات بصرية سينمائي غاية في الجمال والروعة، الكثير منها يمكننا أن نطلق عليها دون عناء “ماستر سين” ينتمي لأحد الإبداعات الخالدة للسينما الخالصة. وليس ثمة شك على الإطلاق في أن كاسبر كان له قصب السبق في تحويل المنظر الطبيعي من مجرد طبيعة جميلة صامتة نعجب بجمالها وألوانها وبهجتها أو كمحض خلفية ما في لوحة من اللوحات ليس أكثر، إلى واجهة الصدارة في اللوحة، وكونها موضوعًا، مثيرًا للمشاعر والعواطف وربما المآسي، قائمًا بذاته في اللوحة بل وقادر على خلق دراما مستقلة بمفردها حتى في وجود الشخصيات المرسومة في بيئتها.
كما أدخل كاسبر تيمة جديدة أكثر من استخدامها أو توظيفها في لوحاته كانت بمثابة الختم المميز له، ألا وهي شخصية الرجل الواقف متأملا المنظر، بحر، نهر، جبل، تل، غابة، ساحل صخري، ميناء.. إلخ، معطيًا ظهره إلى المشاهد، ربما قصد كاسبر بهذا أن يجعل المشاهد يضع نفسه مكان هذا الرجل في اللوحة ويتقمص حالته الذهنية والنفسية والتأملية وربما المأساوية أيضًا. من التيمات الرئيسية أيضًا في لوحات كاسبر رسمه المتكرر لمناظر الفجر والغسق والسحب والعواصف والضباب والغابات والخرائب والأطلال وأشجار البلوط العارية وجذوع الأشجار الميتة.
كانت سنواته الأخيرة قد اتسمت بالتشاؤم المتزايد، فصارت أعماله أكثر قتامة، وتكشف عن خوف هائل. لوحة “حطام الأمل”، تعرف أيضًا بـ “البحر القطبي” أو “بحر الجليد” (1824)، ربما تعتبر أفضل تلخيص لأفكار وأهداف كاسبر في تلك المرحلة، بالرغم من أن اللوحة لم تلق الاستقبال اللائق بها أبدًا. وهي تصور موضوعًا قاتمًا، حطام سفينة غارقة في المحيط المتجمد الشمالي. لوحة تتجاوز التوثيق إلى الرمز حيث يلتهم المحيط بجليده سفينة خشبية، هي بمثابة القارب الواهي لتطلعات البشرية أو كصرخة إنسان ينسحق بسبب عدم الاكتراث الهائل والبارد إلى حد الجمود من قبل العالم. وقد انعكست الوحدة الغامرة التي عاناها كاسبر في أواخر حياته، وتجلت بشدة في أعماله الأخيرة، منذ الوقت الذي راح الأصدقاء وأفراد أسرته وزملاء المهنة من رواد الرومانسية الأوائل يبتعدون عنه لأسباب الحياة أو يُغيّبهم الموت أو حتى القتل، ثلاثة من أصدقائه قتلوا في معركة أثناء الحرب ضد فرنسا.
وقد أرجع بعض مؤرخي الفن ومعاصريه تلك السوداوية التي طبعت فنه إلى الفقد الذي عانى منه أثناء فترة بلوغه وحتى فترة شبابه ووفاة شقيقه على وجه الخصوص، كما ساعدت انطوائية كاسبر وجسمه النحيل وضعفه في انسحابه عن المجتمع والجمهور وتعزيز ما أطلقه عليه الناس من أنه متحفظ وقليل الكلام، لدرجة نعتهم له بـ “رجل الشمال المتحفظ”. وقد عانى كاسبر من نوبات اكتئاب عام 1799، و1803 – 1805، و1813، و1816، وبين 1824 – 1826. وكانت هناك تحولات ملحوظة في الأعمال الفنية التي قدمها خلال تلك الفترات، إذ نرى فيها موتيفات ورموز الموت مثل النسور والبوم والقبور والأطلال. ومنذ عام 1826، أصبحت هذه الموتيفات سمة دائمة في إنتاجه، في حين صار استخدامه للألوان أكثر قتامة وفتورًا.
في مطلع القرن العشرين أعيد اكتشاف كاسبر ديفيد وأعماله الفنية من جديد بصورة غير مسبوقة، وكان ذلك على يد المؤرخ الفني النرويجي “أندرياس أوبيرت”، وبعدها التفتت إليه فناني المدرسة الرمزية. وكان أولهم وأهمهم الفنان النرويجي الكبير صاحب لوحة “الصرخة” المعروفة، “إدفارد مونك” (1863 – 1944)، وكان ذلك أثناء زيارة له إلى برلين في ثمانينات القرن التاسع عشر. وقد استهلم مونك تيمة الشخصية الواقفة وظهرها للمشاهد في لوحة له بعنوان “الوحيدان” (1899)، لكن في لوحة مونك التركيز أكثر على طبيعة الشخصين، الرجل والمرأة، والانفصام بينهما والابتعاد والتفكك أكثر من التركيز على المنظر الطبيعي أو المكان نفسه وكذلك إبرازهما في مقدمة اللوحة بحيث ينصب تركيز المشاهد عليهما.
كما مارست أعماله تأثيرًا كبيرًا على أعمال الفنان الألماني الكبير “ماكس إرنست” (1891 – 1976)، وقد نظر إليه السرياليون أيضًا باعتبار أعماله هي التمهيد لحركتهم. وفي عام 1934، وكتحية تقدير وثناء من جانبه قام الرسام البلجيكي الكبير “رينيه ماجريت” (1898 – 1976) برسم لوحته “الوضع الإنساني”، التي أبرز فيها على نحو صريح موتيفات من فن كاسبر ديفيد. وقد أثر فن كاسبر على العديد من الفنانين الآخرين من مختلف المدارس والفترات وكان مصدر إلهام لهم. وقد قال الكاتب الكبير صمويل بيكيت عندما وقف متأملا لوحته “رجل وامرأة يتأملان القمر”: “كانت هذه اللوحة هي مصدر إلهام في انتظار جودو”.
قال كاسبر ديفيد عن نفسه ذات مرة: “لست شديد الضعف بحيث أخضع لمتطلبات العصر عندما تتعارض وقناعاتي. ألف نفسي بشرنقة، وأدعو الآخرون لفعل الشيء نفسه. وأتركها للزمن ليظهر ما سيخرج منها: فراشة رائعة أو يرقة”. تجدد الاعتراف بأصالته كفنان والاهتمام بفنه في سبعينيات القرن الماضي، وأعيد وضع لوحاته في كبرى المعارض العالمية بجميع أنحاء العالم. وصارت سمعته الفنية راسخة، ويعتبر الآن رمزًا وطنيًا في ألمانيا، ويحظى بتقدير بالغ من جانب المؤرخين وخبراء وعشاق الفن في أنحاء العالم الغربي. لقد بزغ فعلا كفراشة حلقت في سماء الفن ولن تختفي أبدًا، برغم تعرض سمعته الفنية للضرر بعض الشيء في منتصف القرن الماضي عندما راحت السينما تقتبس لوحاته ومناظره الطبيعية خالقة منها مشاهد ذات طبيعة مرعبة ومقبضة خصوصًا في نوعية أفلام الرعب، ونرى هذا تحديدًا في أعمال اثنين من أعظم المخرجين الألمان “فريتز لانج، ومورناو”، وحتى الأمريكي “والت ديزني”.
قال كاسبر ديفيد في نصيحة للفنانين: “على الفنان ألا يرسم ما يراه أمامه فحسب، بل أيضًا ما يراه بداخله. ولو، مع ذلك، لم ير شيئًا داخله، فعندئذ يجب عليه أيضًا أن يمتنع عن رسم ما يراه أمامه، وغير ذلك ستكون لوحاته مثل السواتر القابلة للطي التي لا يتوقع المرء أن يجد خلفها سوى المرض أو الموت”، ثم أضاف في مناسبة أخرى: “اغلق عين جسدك حتى تتمكن من رؤية صورتك أولا بعين روحية”. واللافت أنه رغم تحريه الدقة والتأني في عمله، ورغم طبيعته المتشائمة، ونوبات الكآبة والمرض التي لازمته، إلا أنه كان فنان غزير الإنتاج، أبدع ما يزيد عن خمسمائة لوحة منسوبة إليه على وجه اليقين، وذلك لأن كاسبر ديفيد في الغالب، على عكس معظم الفنانين، لم يكن يُوقّع أسفل لوحاته أو يسجل تاريخ بدايتها أو الانتهاء منها. لكنه مع ذلك كان يحتفظ بدفتر يذكر فيه بالتفصيل ما يتعلق بلوحاته، وهو ما ساعد العلماء على الربط بين الكثير من الأعمال وتواريخ إنجازها.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

كاسبر ديفيد فريدريش :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

كاسبر ديفيد فريدريش

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:تستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: اخبار ادب وثقافة-
إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوعانتقل الى: