كان لتراجيديا مظلوميّة الكرد الفيليين التي تضاعفت؛ بحجّة وذريعة تبعيّتهم الإيرانيّة، في مطلع ثمانينات القرن الماضي؛ بحجز وثائقهم الثبوتيّة وأموالهم المنقولة وغير المنقولة، ثمَّ التسفير والتهجير القسري لمئات الألوف من شيوخهم ونسائهم وأطفالهم، بل بممارسة جينوسايدهم باعتقال أكثر من عشرة آلاف شاب وتعذيبهم واعدامهم بشتّى الطرق ومنها إجراء تجارب الأسلحة الكيمياويّة والبايولوجيّة عليهم وحتى دفنهم أحياء؛ كان لها أكبر الأثر في تفجير موهبة الصبيّة اليافعة ظمياء المحجوزة في أقبية الأمن العامّة، حيث كتبت أول قصيدة لها بعنوان (مفتاحنا)
وهنا أدوّن لمحات من إنطباعي عن مجموعتها الشعريّة (ذاكرة الظّلال) التي شرّفتني بقراءتها وتنقيح لغتها وإبداء الملحوظات عليها، والتي أتوخّى من ورائها جذب انتباه النقّاد المختصّين لدراسة شعرها:
إثر تهافت المشاريع الكبرى (الإشتراكيّة، القوميّة والدينيّة) في عالمنا المعاصر؛ لم تعد للقصيدة الحقيقية المعاصرة رسالة إيديولوجية طوباويّة (سياسيّة، قوميّة، دينيّة..) تدجينيّة قطيعيّة…أجلْ؛ لمْ تعد القصيدة دعوة حميمة إلى الفراديس الزائفة والوهميّة، وإنما صرخة من جحيم الواقع تسخر من اليوتوبياهات والآمال الزائفة..
يتجلّى في القصائد الحرّة لشاعرتنا جوهر الشعر الحقيقي بجسارة لغويّة ذات بلاغة مبتكرة لاذعة ومقلقة، بحيث تؤسّس شعريّة مضادّة في العديد من قصائدها؛ إنطلاقاً من استثمار حرّيّة الإبداع؛ وهنا من البداهة أن تهدم الشاعرة الأشكال والقوالب التقليديّة المعهودة في الشعر المنظوم العمودي وشعر التفعيلة وما يسمّى خطأً بـ (قصيدة النثر)، حيث تتقاطع في قصائدها دائرتا (الشعرنة) و(السردنة) اللتان تتجاذبان وتتمازجان؛ فتسود دائرة (القصيدة الحرّة) أمّ (القصيدة المضادّة)؛ فيعلو صوتها منعتقاً من ركام الموروثات المتمأسسة، التي مابرح أكثر الشعراء يجترّونها، حيث تطلق العنان لجموح لغتها الحافلة بالإهتزازات والإزاحات الدلاليّة، ضد الرتابة وميكانيكية البلاغة البالية الجاهزة والإجترار اللفظي، في حين تستثمر أيّة مفردات بلا حدود تقليديّة جامدة؛ فتبتكر لغة جديدة غير قاموسيّة جامدة، غير زخرفيّة وغير مستقرّة، بل هذيانيّة (أحياناً) تجسّد صوراً مثيرة لفوضى الواقع الراهن واغتراب الإنسان وتمزّقه و شقائه..
جليٌ أنّ القلق الوجودي يطغى على كيان شاعرتنا التي ترزح تحت ضغوط هائلة من الآلام والعذابات والشقاء؛ فتتصاعدُ صرخاتها الإحتجاجيّة، كما تكشف خفايا الإنسان الباطنيّة و تشظّي الذات الإنسانيّة المغتربة.
ولئن تحضر ذات الشاعرة القلقة والمتشظّية في قصائدها؛ فثمّة عشوائيّة تشوب إنسيابيّة وأواصر بعض عباراتها وجملها وفقراتها؛ وهنا تكمن مصداقيّة قصائدها في كونها تنبع من تجارب الحياة الواقعية، وليس من خزين التثاقف رغم أنها تستخدم أحياناً كلمات و رموزاً قديمة… ومن هنا تطالعنا صور مكثّفة ومركّزة مجبولة من معطيات واقعنا المرير وعالمنا الآيل إلى الخراب والدمار، ومن مخيالها الجموح، أكثر ممّا تنهله من مرجعيّات المثاقفة، ومنها صور سورياليّة تجسّد المفارقات المبكية/ المضحكة في واقعنا التراجيكوميدي..
تكاد الثيمة الإيروتيكيّة أن تطغى على أكثر قصائدها، وفيها تستوقفنا إشكاليّة الصراع بين الشك واليقين وتداخلهما وتقاطعهما..
وطالما تطالعنا الشاعرة ظمياء بعواطفها الجيّاشة، لكنّها سرعان ما تتمادى في الدعابة السوداء والسوداوية النهلستية حتى الوقاحة الفاحشة؛ فهي جريئة وجسورة في بوحها المتمرّد إلى حدّ اقتحام ذاتها بتهكّميّة سوداء مريرة، حيث تنسف الطمأنينة الكاثارسيسيّة، وبنزعة تغريبيّة تقطع انسيابيّة أكثريّة قصائدها، وهنا لربّما يستهجن البعض تطرّفها؛ فأتساءل : هل من المعقول أن نتوقّع قصائد مخمليّة بهيجة من شاعرة ذاقت المرارات من هول إبادة أفراد أسرتها وتعذيبها الرهيب على أيدي أوباش العهد العفقي؟!
وعليه يمكنني الجزم أن الشاعرة ظمياء ملكشاهي ذات موهبة عاليّة نادرة المثيل وتجارب حياتيّة مريرة جدّاً، لكنّها غير مطّلعة بصورة مستفيضة شافية على كنوز الشعر العالمي القديم والمعاصر؛ بسبب ظروفها القاهرة؛ وإلّا لكانت تتبوّأ أرقى مكانة بين شواعر العالم المعاصر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشمع الأحمر
…و خَتموا بالشمعِ الأحمِرِ بابَ بيتنا
عصبوا عينيّ بخرقةٍ سوداءَ كريهةُ الرائحةِ
كمثل عيون أبي وأمي وأخوتي الثلاثةِ
كنا ستةٌ قبلَ أنْ يَشي القدرُ المتربصُ بعددنا
في مدينةِ الأحجارِ لمْ نرَ سوى غيوماً سوداء
وعويل النسوةِ والأطفال
جاءَ الساحرُ الكبيرِ
وقفَ وسطَ الساحةِ الوحيدةِ
وأمرَ بفتحِ عصاباتِ الجميعِ
و راحَ يتمتمُ شيئاً ما
فاستحالَ الأطفالُ
أحجاراً ترمقُ أهاليهم للمرةِ الأخيرةِ
واستحالت النساءُ نافورات حجريّة
يتدفّقُ الماءُ من أثدائهن