[size=10]1.5K[/size]
لازمت الحروب الوجود الإنسانيّ قديما وحديثا، وحفلت السرديات الكبرى بحكايات العنف التأسيسيّ، وبنت كثير من الأمم مجدها بواسطة الحروب. فحفظت كتب التاريخ سجلات الحرب ومآثر المنتصرين، بل إنها مثلت مفاصل كبرى في التاريخ الإنساني، حتّى كاد الاعتقاد يسود بأنّها حتميّة وجوديّة لا مناص منها. وكثيرا ما سعى البشر إلى البحث عن شرعيّة لحروبهم وتقديم مبررات للعنف المرتكب ضد الآخر. وقد تنوعت مصادر الشرعيّة وتطورت بتطور الوعي الإنساني. فاستطاعت أن توظّف الخطاب الديني، فتبدو في شكل حروب مقدسة كالحروب الصليبية أو الفتوحات الإسلامية أو تعتمد السند القانوني، لتبدو حروبا تستمدّ شرعيتها من القوانين الدولية ومؤسساتها كالأمم المتحدة أو مجلس الأمن. ولا تخرج تسمية الأسلحة الذكيّة عن هذا السياق، إذ هي محاولة لإضفاء شرعيّة أخلاقيّة على الحروب مقصدها الإقناع بدقّة الأسلحة المستعملة التي تحقّق نجاعة أكبر وتقلّل من الخسائر وتحمي أرواح المدنيّين. وبالمقابل، تدان الحروب التي تكون شرعيّتها ضعيفة، فتوسم بالإرهاب وبالاعتداءات والانتهاكات وكثيرا ما تكون تلك التسميات ذاتها مبررا لعنف مضاد يخضع إلى منطق المحاكاة ويبرر الحرب بالدفاع عن النفس وحفظ الأمن وحماية المدنيّين، حتى أضحت الشرعيّة مقولة تستبق كلّ حرب ولا تكاد جماعة أو دولة تشن حربا إلا وأوجدت لنفسها مبررات تحاول إقناع الآخرين بأنها حرب شرعيّة. ولكن تلك المبررات التي شرّعت الحروب أثبتت تهافتها وزيفها في كثير من الأحيان. فكم من حرب أسّست على ادعاء باطل وشرعيّة زائفة. ولعلنا لو بحثنا في سجل المبررات التي شرعنت بها الولايات المتحدة الأمريكية حربها على العراق لعلمنا علم اليقين أنها قامت على أكاذيب وادعاءات لا أساس لها من الصحّة. وليست تلك الحالة الوحيدة التي يماط فيها اللثام عن قدرة القوي على تبرير عنفه وتقديم مبررات قد تكون مجرد أكاذيب تؤسس شرعيّة ظرفيّة تُشَنّ بواسطتها الحروب، ولكنها سرعان ما تثبت تهافتها فتنسف الأسس الأخلاقيّة للحرب والقائمين بها.
ومهما تنوّعت زوايا النظر إلى الحرب واختلفت مبرّراتها، فإنها تظلّ في حاجة إلى شرعيّة، ويصير من التجنّي اتهام البدائيين بالهمجيّة والعنف. فقد اكتسبت حروبهم شرعيتها التاريخية اعتمادا على منطق صراعهم على البقاء ورغبتهم في تحقيق الأمن بالقضاء على الأعداء. وبالمقابل، قد يؤول اليقين بعقلانية الحروب التي يخوضها الإنسان في عصرنا إلى وهم وقد بدت أكثر ضراوة وفتكا بأرواح البشر وممتلكاتهم، وأضحى الإنسان عاجزا عن الاقتصاد في العنف أو الحدّ منه في كثير من النزاعات التي يمكن حلّها بالطرق السلميّة، فمن السهل إشعال فتيل حرب ولكنه من العسير إطفاء سعيرها. والعنف كالنّار كثيرا ما يخرج عن السيطرة والضبط، ولعلّه يبدو من الصعب تجاهل ما خلفته الحرب العالمية الثانية مثلا من ضحايا، وما استعمل فيها من أسلحة جرّب فيها الإنسان أحدث تقنيات القتل الجماعيّ التي لا تفرّق بين مدنيّ وعسكريّ. ولئن بشّر خطاب ما بعد الحرب بانفراج الأزمة وبداية عصر جديد من التسامح، فقد ظلت الحروب منتشرة في العالم واتخذت أشكالا ظاهرة وأخرى خفيّة كالحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. وبعد انهياره صارت الولايات المتحدة الأمريكيّة قادرة على شن الحروب دفاعا عن مصلحتها دون رادع عسكريّ أو أخلاقيّ، وقد صار العالم بقطب واحد لا شريك له ولا رادّ لقراراته. وكان من السهل على هذه القوّة العظمى إيجاد الذرائع المختلفة لشن الحروب وضمّ دول تجمعها بهم المصلحة المشتركة في أحلاف عسكريّة. واندلعت بالمقابل، حروب مبرّراتها الظاهرة دينيّة ترفع رايات الجهاد في مواجهة أنظمة سياسيّة عدّت كافرة وأعداء طائفيين صُنّفُوا من المارقين. وما هذه الأشكال سوى عينات للحروب التي وإن اختلفت معقوليتها، فقد ظلت تحقق لأصحابها يقينا بشرعيتها، وهو ما يطرح علينا حاجة ملحة لفهم هذه الظاهرة فهما لا يدعي الشمول، وإنما يقاربها انطلاقا من عيّنة تأويليّة تجسّدها رؤية ابن خلدون في مقدّمته سعيا إلى فهم العنف وشرعيّته.
تناول "ابن خلدون" الحروب بالدرس في سياق تفسيره اتساع ملك بعض الأمم على حساب أخرى وحديثه عن مفهوم الغلبة؛ فقد كتب: "أنّه إذا كانت الأمّة وحشيّة كان ملكها أوسع. وذلك لأنّهم أقدر على التغلّب والاستبداد كما قلناه واستبعاد الطوائف لقدرتهم على محاربة الأمم وسواهم، ولأنّهم يتنزّلون من الأهلين منزلة المفترس من الحيوانات العجم."[1] هذا الخطاب الذي وسمه العروي بأنّه قائم في إطار عالم دائريّ ومنطق شموليّ.[2] لا يختلف كثيرا عن منطق ماكيافيللي الذي يرى أنّه "ينبغي للأمير ألا تكون له غاية أو فكرة سوى الحرب ونظامها وطرق تنظيمها وألاّ يتخذ لدراسته موضوعا آخر سواها، فهذا هو الفن الوحيد اللّازم لمن يتولّى القيادة."[3] فقد صيّر ابن خلدون الغلبة حتميّة تاريخيّة، باعتبارها تنسجم مع قوانين الطبيعة والإرادة الإلهيّة في الخلق. ومن نتائج هذا القانون قيام حروب بين بني البشر تحقّق مبدأ الاصطفاء. ولهذا فإنّه يقرّ بمسلّمة مفادها أنّ الحرب واقعة في الخليقة وبأنّها قائمة على إرادة انتقام بعض البشر من بعض؛ فهي أمر بديهيّ لم تخل منها حقبة من حقب التّاريخ الإنسانيّ ولا أمّة ولا جيل على حدّ عبارته، وهو يمثّل منطلق مقاربة تاريخية تأخذ بعين الاعتبار تطور الوسائل والآليات التقنية والاجتماعية التي يعتمدها الإنسان في العنف بدءا بوسائل الصّيد وتكوينه مجموعات مختلفة تدافع كل واحدة منها عن مصالحها. وتقرّ بأنّ العنف منزع طبيعي في الإنسان، إذ استطاع تصريف العنف في مسار تطوّره عبر وسائل رمزية معقدة. "هذا هو الإنسان كما يتصوّره ابن خلدون أو بالأحرى كما درس حياته بطريق الملاحظة الشخصيّة والتجربة العلميّة. وهو إنسان لابدّ له من الصراع لكي يعيش ويبني "العمران" ولكنّه مع ذلك ليس ذلك الحيوان الشرّير الذي تصوّره هوبز."[4] وما الشرعيّة سوى محاولة لإيجاد مبرر للحرب كي لا يبدو العنف غاية في حدّ ذاته. وأسباب الحرب وفق التصنيف الخلدونيّ أربعة:
1- الغيرة والمنافسة: وأكثر ما يجري بين القبائل المتجاورة والعشائر المتناظرة. ويبدو من خلال تصوّر ابن خلدون لهذا الصنف من العنف أنّ أسبابه النفسيّة مرتبطة بالحميّة والأنفة.
2- العدوان: وخصّ به الأمم الوحشيّة والساكنين بالقفر كالعرب والترك والتركمان والأكراد وأشباههم. وسببه أنّ تلك الشعوب اتّخذت من الحرب وسيلة للعيش. فقد جعلوا أرزاقهم في رماحهم ومعاشهم فيما بأيدي غيرهم. ومن دافعهم عن متاعهم آذنوه بالحرب. ولا بغية لهم فيما وراء ذلك من رتبة ولا ملك، وإنّما همّهم ونصب أعينهم غلب الناس على ما في أيديهم. وهذا الصنف من العنف مبرّراته اقتصاديّة، إذ يمثّل مورد رزق تتّخذه بعض الأمم التي سمّاها ابن خلدون وحشيّة للحصول على أسباب عيشها، وهو بذلك عنف من أجل الحياة قد تفرضه الظروف الطبيعيّة وحاجة الإنسان إلى الدّفاع عن حقّه في البقاء.
3- غضب لله ودينه: وهو المسمّى في الشريعة بالجهاد. ويعتبر هذا الصنف من العنف دينيّا تبرّره الشريعة ويعتبره ابن خلدون عنفا مقدّسا.
4- غضب للملك وسعي في تمهيده: وهي حروب الدّول مع الخارجين عليها والمانعين لطاعتها، وهو عنف سياسيّ تبرّره سلطة الدّولة الحاكمة وشرعيّتها.[5] لقد تبيّن لنا من خلال هذه الأصناف الأربعة التي عدّدها ابن خلدون أنّه بالفصل بين عنف شرعيّ يبرّره الدين وقيام السلطة الحاكمة، وعنف غير شرعيّ أسبابه نفسيّة أو اقتصاديّة ينطلق من أحكام ظاهرها موضوعيّ وباطنها ذاتيّ تأثّر فيها ابن خلدون بثقافته الدينيّة وبيئته التي تولّى فيها المناصب السياسيّة. فصار ناطقا من وجهة نظر رسميّة "تحكمها الخلفيّة التبريريّة للسلطة وللاستبداد بما هما أمر طبيعيّ في الاجتماع البشريّ، ويتماشى مع الإرادة والحكمة الإلهيّن."[6]. فإذا كان ابن خلدون يبرّر العنف القائم على الجهاد انطلاقا من وثوقه بأنّ الرسالة التي يدافع عنها المقاتلون هي رسالة سماويّة مقدّسة. فكيف يمكن للدّين أن يضمن شرعيّة حرب يتّخذ فيها الطرفان المتصارعان مبرّرات دينيّة مرجعيّاتها إسلاميّة؟ وكيف يمكن الحسم حينئذ في شرعيّة طرف على حساب الآخر؟ لعلّ هذه الأسئلة تتجاوز السقف الإبستمولوجيّ الذي فكّر ابن خلدون في إطاره، عصر الاعتقاد في المركزيّة الدينيّة ومفهوم الفرقة النّاجية. فهي من "اللاّمفكّر فيه"، ولكنّ استحضار نفس المبرّرات في عصرنا يطرح قضيّة شرعيّة الحروب الدينيّة التي كثيرا ما تكون بين المنتمين إلى دين واحد وقد افترقت بهم السبل في تأويله، فتقاتلوا وقتلوا باسم الله من آمنوا بنفس الإله، وهي لا تختلف في منطقها الداخلي عن منطق الغلبة الذي تفرضه القوى العظمى اليوم في حروبها، إذ هي تستبدل الشرعيّة الدينيّة بشرعيّة "قانونيّة". ولا فرق بين القول بالبغي أو بانتهاك القوانين الدوليّة سوى السجلات اللغوية التي يقوم عليها كل خطاب.
ثمّ إنّ ما عدّه ابن خلدون حروب بغي وفتنة، وهي الحروب القائمة على الغيرة والمنافسة أو العدوان تظلّ أحكاما إسلاميّة منطلقها الإيمان بمركزيّة دينيّة تستهجن فترات تاريخيّة سابقة لها أو مختلفة عنها. فإذا كانت تلك الحروب التي تخوضها قبائل ضدّ قبائل أخرى دفاعا عن مصالحها أو حفظا لمنعة أراضيها أو سعيا إلى نيل المغانم، وهي ضرورة وجوديّة آنذاك، فإنّ الحروب التي تبرّرها الأديان قد خرجت عن إطار الحاجة الإنسانيّة التي تدفع فريقا من المقاتلين إلى مقاتلة فريق آخر من أجل أن يذعن، إذ هي في جوهرها سلطويّة. بل لعلّها حروب تتقاطع مع حروب الدّولة القائمة التي يعتبرها ابن خلدون شرعيّة في كونها تحاول توسيع رقعتها وضمان مجال أكبر لنفوذها، وهي حينئذ لا تقوم بحروب من منطلق حاجات ماديّة ملحّة، وإنّما لتحقيق الغلبة سواء أكان ذلك باسم الدّين أم باسم الحفاظ على السّلطة الحاكمة. وهل يمكن لهذا التصنيف أن يستوعب ما يمكن أن يطرأ على الدّول من تحوّلات؟ فكيف يمكن أن نتعامل مع الحركات الثائرة التي تقف ضدّ استبداد الملوك وظلمهم السياسيّ والاقتصاديّ؟ ألن تكون الحركات الاحتجاجيّة كلّها من هذا المنطلق في خانة الفتنة والعنف الذي لا شرعيّة له؟
إنّ التقابل الذي أقامه "ابن خلدون" بين عنف سمّاه حروب عنف وبغي وحروب سمّاها حروب جهاد وعدل ليس في النهاية سوى انعكاس لمسلّمات تكشف منطلقات أحكامه؛ فهو يقيمها على أسس سلطويّة يباح فيها للسلطان ما لا يباح للرعيّة، وتحجب استبداد الحكام بالرايات الإسلاميّة، انتماء لحقبة تاريخيّة انتشر فيها الإسلام وصار المفكّر خاضعا لما ساد من أحكامه ليكون موقفه من الحروب التي خاضها العرب باسم القبيلة حكما سلبيّا يجعل أسباب عنفهم نفسيّة. وهو ينخرط بذلك في سياق الأحكام التي تصنّف الأمم إلى وحشيّة ومتحضّرة. ويرى في العنف الاقتصاديّ سلبيّا متى بالغ السائس في ابتزاز الرعيّة. وتظلّ مقاصده مرتبطة بالبحث عن صيغ الاعتدال في استغلالها والألمعيّة في جبايتها. ويعدّ كلّ خروج عن السّلطة الحاكمة عنفا غير شرعيّ ولذلك برّر العنف بالغضب للملك والسعي إلى تمهيده، فجعل من عنفها ضدّ الخارجين عليها والمانعين لطاعتها أمرا مشروعا.
إنّ مقاربة الحروب اعتمادا على المنظور الذي قدّمه "ابن خلدون" لأمر ضروريّ من أجل فهم بنية العقل العربيّ وتفهّم ما بقي من آثار ذلك العنف. ولكنّه قد يفيدنا أيضا في فهم طبيعة الحروب التي تدور اليوم داخل الوطن الواحد وفي إطار واقع عولميّ تعقّدت بنية حروبه وصارت المعارك الداخليّة فيه تتداخل مع المصالح العالميّة ومقاصد الدول العظمى، ولكنّه يحافظ على منطق الشرعيّة ودور الغلبة في فرض منطق القويّ على الضعيف.
فهل يمكن أن نحسم اليوم في الحُروب التي تدور اليوم داخل الوطن الواحد باسم الطائفيّة أو النزاعات السياسيّة لنقول إنّها حروب بغي وفتنة أم هي حروب جهاد وعدل؟ وهل تصير للشرعيّة الأخلاقيّة آثارها على أرض الواقع في ظلّ الهيمنة ومنطق البقاء للأقوى؟