رابعا – الحركة السرديَّة: التَّلازم البنيوي بين الحرمان العاطفي الاجتماعي ومبدأ اللَّذة
” اذا لم يستطع العاشق امتلاك معشوقه، يفكر أحيانا بقتله، أنّه في الغالب يفضل قتله على فقدانه وفي حالات أخرى يرغب في موته الشَّخصي”1
ما كان لمراد الوعل من اختيار آخر غير الانغماس في متعة ولذَّة الجنس والخمرة، كإرضاء تعويضي وبديل لتطوره النّفسي الاجتماعي المفعم بألم القسوة والنبذ والمعاناة. ” كان نداء الجنس يتضخم داخلي، الجنس يقاوم المرض والجسد يقاوم نفسه. الجنس هو البديل الحقيقي لكل محاولات الحبّ المجهضة، الجنس يؤسس والحب يقوض. الحب قوة تخريب سامية، أمّا الجنس فهو قوة بناء منحطة”2. فوطأة الانفصال والهجر وقلق الحرمان العاطفي واستحالة الحصول على الحب والأمن والأمان من مختلف أشكال الإرهاب الَّذي وشم الذَّاكرة في الصغر والكبر، بندوب في الرّوح والجسد، إلى جانب صعوبة الفوز بالتفاعل المجتمعي المحرر للنفس من ماضيها المؤلم، والمنمي للذّات من خلال جدلة المحبة بين الأنا والآخر كأنا نفسي، كعلاقات إجتماعية إنسانية، كل هذا الحرمان المتعدد الأبعاد والمستويات والعريق في القدم كهجر أمومي يورطه في الانغماس، في المتعة و اللَّذة الجنسية، بشكل محموم وجنوني إلى حدّ الرَّغبة في القتل. ” لست أدري شيئا عن طبيعة هذه القوة الَّتي تنزلت في، لكنني كنت أعلم أنّها لو لم تستوقفني لغادرتها جثة. كنت متأكدا الى أبعد الحدود بأن بمقدوري أن أقتلها جنسا”3، ويبدو الأمر أكثر وضوحا ” في تلك اللحظات التي يصاب فيها الجسد والروح باختلال مؤقت تمنيت لو أنني أسحق خرومها…كنت أقرب إلى الحلم أو الهلوسة مني إلى الواقع ولم أكن أملك من أمري سوى تقفي هذا الجنون العذب ليتني أقتلك جنسا..آه ليتني أفعل”4 . إنّنا إزاء ايحاءات استعارية تعكس رغبة شهوانية قتالية تعبر عن ألم فظيع أمام استحالة انتزاع التقدير والاعتبار وتحقيق الذات ككينونة ووجود، أي انتزاع الاعتراف بقيمته كإنسان من خلال الحب كاستجابة لتحدي معنى الوجود الذي تفجره إحباطات الحرمان والفقدان، تلك الاحباطات القريبة من عبث جنون العدم المختصر في سؤال ما الجدوى؟ من أنا “ تساءلت عن جدوى وجود إنسان مثلي، أنا ابن الخطيئة تساءلت أيضا أي سيدة هذه التي زجت بي في خرق بيضاء وأسلمتني الى أرض خلاء ومضت؟ ترى أكانت كأم كليم الله مكرهة على الزَّج بي في قفص البعد، أم فعلت ما فعلت درءا للفضيحة؟”.5 وكانت أيضا مشاعر النقص والدونيّة والهجر ووصمة اللعنة تجعل الجسد ولذته أفقا معوضا للحرمان والفقدان العميق للمحبة و لكل ما هو عاطفي اجتماعي، كما أنَّ الجسد بمثابة الالية المعجزة التي تسند الذات في معركتها وهي ترفض الهزيمة والاستسلام لمنطق الإدانة والإرهاب والموت المجاني العبثي ولنكران الحب والقيمة الانسانية،” وحده الجسد كان يستبقيني، الجنس هذا الوحش الذي يرقد داخلي ويحركني بحرارة لأفتض المدى اللحمي لضحاياي، كان يجعلني أتشبت بالحياة فكيف للاقدار بأن تحملني بإرادة الموت وتزرع في الجسد إرادة مضادة؟”.6 الجسد آلية للعبور الى ما هو إنساني، أي تجاوز الغبن الذي لحق الذات في ولادتها وتطورها النفسي الاجتماعي، وذلك رغبة في الحصول على الرضا النفسي والاعتبار الذاتي. في الجسد الذي تنهشه الذكريات ويسحقه الالم، وينهكه وهم المرض النفسي الذي يجلده بنزيف الذاكرة، كما يمزقه بقرون الوعل الوحشي التي تزيد من تفككه. يحاول مراد الوعل أن يجد البديل لكل أزماته العاطفية ومآزقه الوجودية ككائن ملغى، لكن دون جدوى، ويمتد السؤال لهيبا يعذب أعماقه ما الجدوى من حياة الزبل هذه؟ لهذا السبب يلجأ الى الجنس والخمرة والاستهلاك الشره، ” إذ عادة ما يدفع المرض الناس إلى هجر الطعام أما أنا فلا يزيدني المرض إلَّا إقبالا عليه.”7 نتيجة الفراغ المهول الذي يحفر أعماقه، الشيء الذي يفرض عليه نوعا من هوس البحث عن الامتلاء بديلا للحب. ” كان منتهى حلمي وقتها أن أقول أمي لامرأة تستحقها، كنت أجلس الساعات الطوال في الطرق التي يسلكها الوافدون إلى اغرم، وأطيل النظر في أعينهم، لعل أحدهم يلتفت إلى ملامحي أو يسألني من أنت؟ لكنهم كانوا يمرون والصمت اليابس كلحاء الشجر يغلف وجوههم.”8
وفي هذا الهوس الجنسي الذي يعيشه مراد دلالات ومعاني صريحة ولا واعية لتصريف قلق الخصاء النفسي الانساني، ومحاولة التغلب على وصمة السوء: اللقيط اللعنة والملعون، وما يولده تصديق هذا الوصم من اعتقاد بكونه منبع الشر كميول عدوانية دفينة تنتقم وتحطم الاخرين، وهي ميول تنتقم من الذات بشكل متدرج عبر مسار مؤلم لموت بطيء لا يكف عن تعذيب الذات في مختلف تجارب الحياة والارتباطات العلائقية بالاخرين بالرغبة في الحب او بالكره. ” لحظتها أحسست أنني لن أشفى من لوثة الرغبة الجامحة في الجنس إلا بالموت…أحس أن روحي تنزف بشدة، وتصحو كل احزاني وتشتبك بملامحها التي تفيض باللذة، وتعانق تأوهاتي الداخلية تأوهاتها الجنسية، ويذوب كل واحد منا على حدة في ألمه الخاص،”9. اننا ازاء انسان لم يتم الاعتراف بقيمته الإنسانيّة، فمراد الوعل لم يتعرض فقط للحرمان العاطفي الاجتماعي كلقيط بل تمّ استبعاده وإقصاؤه من دائرة الكينونة الانسانية ليتحول إلى مجرد ملعون وعدوى من خلال آليتي الهجر والانفصال العاطفي والاجتماعي الشيء الذي جعله في مأزق خطير أكبر من مسألة النبذ العاطفي التي يحافظ فيها الإنسان على بعض النفاق العاطفي الشكلي في بعض الروابط العلائقية والاجتماعية بالإسرة أو بالآخرين. لقد هجر بعيدا إلى المدينة، وعبر تطوره النفسي والاجتماعي كان عرضة خلال مساره الوجودي للكثير من الانفصال السيكولوجي الاجتماعي، كما تعرض لتعذيب يعبر عن نكران إنسانيته بالاعتداء على جسده وطفولته و كرامته وحريته، وقد زادت عذابات حرمانه العاطفي الكلي والشامل، وآلامه الداخلية التي يرزح تحت وطأتها العنيفة من حالات التشهي الجنسي الجنوني هروبا في متخيل هوامات اللَّذة من حقيقة الواقع الحي الذي يخنقه ويشدد حصار الوجود الانساني في حقه.
وانطلاقا من هذه المعطيات يمكننا أن نقرأ حالات التشهي والبحث عن اللذة الجنسية كدلالات للحرمان الشامل والفقدان ليس لمعنى الوجود فقط، بل أيضا وبشكل اساسي لمعنى الاتصال العاطفي الاجتماعي، أي أن يكون الإنسان محبوبا، أنّه بحث عن الكينونة والوجود الأصيل من خلال الاصغاء لنداء الجسد في رغبته في الاتصال والتغلب على حالة العجز التي يفرضها الانفصال، وهذا التلازم البنيوي في حركة السرد كتجاوز لما يعيق كينونة الذات ويهدد بإلغائها تجد في الجسد وعد الاتصال الأقرب الى معاني جورج باطاي للإيروسية. كأن هناك نوع من نفي النفي بين الانفصال العاطفي الاجتماعي والمتعة واللذة الجنسية، أي بطريقة لا واعية رفض للإلغاء الموت والتمسك بالحياة بالمخاطرة على الجسد في إقراره بالحياة حد الموت ” وما الغاية من مباشرة الايروسية إلا بلوغ الكائن في اعمق نقطة حميمية حدّ الغيبوبة؟ إنّ الانتقال من الحالة العادية إلى حالة إيروسية يفترض فينا الانحلال النسبي للكائن المتكون ضمن النسق المنفصل. وعبارة الانحلال تتطابق والتعبير الشائع عن حياة منحلة مرتبط بالنشاط الايروسي” 10. فالحياة الجنسية التي عاشها مراد الوعل ليست اكثر من رغبة لا واعية في الفناء كولادة من جديد، ” لن أشفى من لوثة الرغبة الجامحة في الجنس إلا بالموت“11. إنّ المسالة لا ينبغي تحليلها بالوقوف عند سقف قواعد تنظيم المتعة واللذة، ولا بالنظر اليها بعين المحرم الاخلاقي والديني كزنا وحرام أو شيئا من هذا القبيل، بل هو بحث بديل لإحباط يسحقه كفشل في الاندماج العاطفي الاجتماعي. لهذا نلاحظ أنّ كل ما يرتبط باللذة الجنسية في الرواية كالعري والخمر هو بحث واعي ولا واعي عن توازن لحالة الصراع التي تسحق مراد في أعماقه كشيء، لعنة، طابو ملعون، دنس لا ينبغي الاقتراب منه بالحب أو بالكره. كذلك نفهم العري في الرواية على أنّه ” يتعارض وحالة الانغلاق والانطواء أي حالة الوجود المنفصل. العري حالة تواصل تشي ببحث عن اتصال ممكن تخرج بالكائن من حالة الانطواء على نفسه. تنفتح الاجساد للاتصال عبر تلك القنوات السرية التي تبعث فينا الشعور بالدعارة. والدعارة تعني تلك البلبلة التي تشوش حالة أجساد متطابقة مع امتلاكها ذاتها. مع امتلاك الفردية الدائمة المؤكدة.” 12
وغالبا ما نلاحظ في الرواية هذا التلازم البنيوي بين الحرمان العاطفي الاجتماعي ومبدأ اللذة كتعويض لسر الوجود، ألا وهو الحب: هل أنا محبوب؟ انها الرغبة في الوصول إلى إجابة مطمئنة عن هذا السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح. وفي هذا التلازم البنيوي لحركة السرد يتم تصعيد فنية وجمالية النص الروائي وتوسيع الكتابة من أمل المتخيل الروائي لجذب القارئ وتوريطه في الخصائص المعنوية والدلالية والاستعارية وجعله معنيا بما يقرأ، أي يدرك القارئ اثناء القراءة على أنه مقصود بشكل أو بآخر بكل الاشكالات والمواقف الناقصة التي تنتجها الكتابة في القراءة، فهي تتعمد إشراك القارئ ليكون له موقف بشكل أو بآخر وهنا تكمن دينامية جمالية الرواية. ” فالوجود يبدو غالبا معطى للإنسان خارج ميول الهوى. بل أنني أذهب الى القول على العكس من ذلك، أنّه لا يتوجب علينا أبدا تمثل الكائن خارج هذه الميول.” 13 . وفي هذا الترابط المعقد بين الحرمان والجنس وحالات التشهي يحضر جنون الرغبة في الموت أو في ممارسة الكثير من العنف القريب الى التعبير عن القتل. كما لو أنه ” كلما غاب عنصر الخرق، بل العنف لا تبلغ الإيروسية امتلاءها إلا بصعوبة”14
واستغراقه في الجنس والخمرة والعزلة، أي خارج ما هو مجتمعي، بحرامه وحلاله، بتقاليده واعرافه، باعتقاداته وسلطه، هو تصريف للميول التدميرية التي تسحقه من الداخل، تجاه مجتمع حكم عليه بالإقصاء والإلغاء، حيث جعل هذا المجتمع الموت مصيره الوحيد، فلا مجال للتسامح والغفران، أو أي شيء من هذا القبيل. وفي هذا الجنون الجنسي يحاول اللقيط ترميم أعماقه المتصدعة وسد الشقوق النفسية والجرح الغائر في القلب والذاكرة والتغلب على النزيف الممعن في السيلان، وبذلك يحاول انتزاع الاعتبار والتقدير، أي انتزاع الاعتراف بكيانه الانساني، فهو كما يقول إنسان قبل ان يكون لقيطا. ” إن النزوع الجنسي إذا تحكم بالمرء دفعته رغبة ملحة نحو الموت والافتتان به. فعندما يبلغ المرء هذه المرحلة القصوى يصبح راغبا في التلاشي، مندفعا نحو الموت لايبغي إلا الاندثار والاضمحلال أي التوحد ليتجاوز وضعية الانقسام والتناقض والانشطار التي تفرضها عليه الحياة وهذا ما يفسر لماذا تلك الطاقة الغريزية المتوحشة تبقى في حالة توثب مستمر، تتحين الفرص لتطلق من عقاله. فعلينا أن نحطم ألوان الاغتراب الثقافي ونضع حدّا له. تلك الضغوطات التي تأسست عبر التاريخ وشكلت ذواتنا وصاغتها على هاته الوتيرة وعلى هاته الحالة من الانقسام والانشطار وعليه فنخل المجال للعنف حتى يتدفق سيله الجارف بكل حرية. إذ أن تلك الطاقة هي الوحيدة القادرة على جرف كل الحواجز والسدود، وعلى كل النواميس العقلية والأخلاقية التي تشكل الأعمدة الأساسية والرئيسية التي تشيد صرح الحياة.”15
كما أن عيشه اليومي لعذابات الحرمان والفقدان الكلي الشامل هو ما جعله في حالة طوارئ قصوى لمطاردة أي بصيص شعاع امل حتى لو كان مجرد تخيلات أو تهيؤات أو سراب مخادع، لكنه في الحقيقة يستنجد بشكل لاواعي بآلية دفاعية ذاتية ضد ما يتهدد كينونته في الوجود جاعلا من الحب خياره الوحيد لتملك الهاوية تخييلا والخروج من مأزقه النفسي العاطفي والاجتماعي والعلائقي، من خلال المعشوقة نوميديا القادرة وحدها على تخليصه من كل هؤلاء الذين يتربصون به ويرغبون في قتله نفسيا واجتماعيا وفنيا، والاستثمار في مأساته محليا بمعاودة انتاج السائد باختلالاته العميقة في البنية الاجتماعية، واستثمار تجربته أجنبيا بتكريس التمركز والاستعلاء والتغلب والقوة مدخلا للسيطرة والهيمنة. فهو كمن يبحث عن الولادة من جديد، من هوامات اللذة الى التخييل الروائي، يحاول عبر هذا المسار المؤلم في علاقته بالمرأة أن يكون، ولكي يحقق ذلك فإنّه يسعى لعيش الشعور بكونه موضوع حب، وفي هذا الشعور دلالات على أنّه كائن أصلا وليس لقيطا ملغى، كأنّه يقاتل ضد العنف المادي والرمزي الذي عايشه في جسده وأعماقه الروحية، ضد اللقيط واللعنة والملعون، وبشكل أدق ضد عملية الإلغاء لكينونته، ليظهر المجتمع في محاكمة أدبية رائعة في هذا المتخيل الروائي للتملك السردي للهاوية على أنّه هو- المجتمع- اللقيط الذي أسقط على مراد الوعل كل عيوبه ونقائصه واختلالاته وجميع أشكال الاضطرابات التي يعاني منها وعلى رأسها هدر حياة الانسان وقيمته، أي عدم الاعتراف بالإنسان إولا وقبل أي شيء آخر. من هذا الزاوية للتفاعل مع الهاوية، التي وقف مراد على حافتها مرارا معلنا ولادة الرواية وخلاص الانسان في الأدب، ينبغي فهم المتعة واللذة الحاضرة في الرواية، ليس كجنس فقط ولكن كانتصار للحب على العدم والإلغاء، و للحياة على الموت، وللكينونة والوجود على الاقصاء والاستبعاد.” إن تجربة الجنس والعشق تحقق انفراجا للذات، حيث تنتفي علاقتنا بالحياة وبجوهرها المزدوج، ونشعر أنَّنا عبرنا إلى الدروب والمسالك المؤدية إلى الموت. لكننا رغم ذلك نظل أحياء، مشحونين بكل ما في الحياة من قوة وفوران. ففي هذه اللحظة الفريدة تكون الحياة قد بلغت أرقى ذراها واكتمالها دون أن تكون مهددة. ففي تجربة العشق والجنس هذه تتخلص الحياة من حالتها الانشطارية ومن صيرورتها الانقسامية. إذاك تكون الحياة فقط موضع تساؤل أكثر مما هي مهددة كما قد يذهب بنا الزَّعم. ذلك ان على الحياة أن تصاب برجة في صلبها وأن يقع هزها إلى أقصى الحدود. وتجربة العشق والجنس تجربة وجوديَّة بالأساس