كبرنا…وصلنا إلى رصيف العمر الكالح..غادرنا حقولنا كأسراب العصافير حينما تترك أعشاشها، تركناها كأسفار وحفريات في مجاهل الذّاكرة، لكنّنا حتمًا لن نغادر أحلامنا حتّى نراها مشرقة كما هي في الأهازيج.
هجرنا مدارسنا وساحاتها لكنّنا لن نتخلى عن رائحة شنطنا المدرسيّة المعلّقة في أهدابنا كضوء القمر. تركنا التّلاميذ الصّغار على طاولات مدارسهم يبحثون عن وجه رطب وعيون ترشدهم طريق الخلاص. تركنا أزقّة بيوتنا جافّة موحشة يغمرها الذّهول تنتظر أقدامنا كي تطبع عليها قبلات كلّ حين. تركنا أشجارنا الباسقة للرّيح كغريق بلا أصحاب. تركنا الجدّات تلقي تعاويذها تحكي حكاياها المكدسة تحت ألسنتهنّ للجدران الصمّاء. تركنا إبتهالات الأمّهات عقب كلّ صلاة كإنهمار الفرح في عيون الزّهاد والقديسين. تركنا كبار السّن مرصوصين كبضاعة قديمة على أحد رفوف النسيان. تركنا أطفالنا حين يصحون من النّوم يفركون عيونهم ولايجدون سوى صورنا المعتّمة معلّقة على الحوائط. تركنا رائحة البخور وطعم القهوة عند الشّتاء تحوم حول دفء المواقد تبحث عمن يشقّ نار دهشتها.
حسنًا سنتعتذر:
من كلّ عصفور مذعور لاحقناه بحجارتنا حطمنا عشّه سحقنا براءته بمخالب شقاءنا.
من كلّ الأشجار الّتي قمنا بتقطيع أغصانها المبتسمة في وجه الرّيح.
من كلّ فطيرة خبز ألتهمناها قبل أن تنضج لأنّنا سلبناها بهائها.
من كلّ أساتذتنا الّذين أحرقنا أعصابهم كي يرونا في الأعالي.
لأسماءنا الّتي أنكرناها مرّات ومرّات أمام الغرباء كي نمنحهم مزيدًا من الأذى.
للحمامة الّتي ذبحناها بسكين تالفة كي نكتشف أين يختبئ البيض بداخلها لكنّنا لم نجد سوى صدر يرتجف من شدّة الألم.
للنّخلة الّتي كسرنا أطرافها بحثًا عن التّمر لكننا لم نجد سوى الرّيح تعوي في إستقامتها.
من عصفور هتكنا براءته بحثًا عن آلة الغناء في حنجرته لكنّنا لم نجد سوى بقايا الأنين في حلقه.
أفكّر في الحقول الّتي تمنحنا ثمارها دون أن تهتزّ شجرة اليقين في خاطرنا، في المعلّم الواقف خلف السبورة يلقي المواعظ بعينين متسامحتين دون أن يلاحقنا حتّى بردّ الجميل.
أفكّر بطريقة تقليديّة كيف أنّ الكرة الأرضيّة لا ترتطم بأيِّ جسم فضائيٍّ ضخم ونتطاير نحن كنتف القطن في الهواء.
أفكّر أن أنسى الألم بسرعة كأي أغنية أجنبيّة، أن أتحاشى ذوو الطِّباع الغليظة المنفوخي السّمعة كالعربات الفارغة الّتي تصدر ذلك الضجيِّج وعند التوقّف يخفت كلّ شئ.
ليس أقسى من أن تسمع أغنية شجيّة لفيروز عند الصباح ليقطع أحدهم صمتك بقوله إن ذلك الصوت يهزمني.
كأن توقفك فتاة في الشّارع العام وتقول لك: حينما ترشُّ هذا العطر على ملابسك فإنّك تجرح صومي.
كأن يوقفك أحد سائقي الأجرة ليسألك أين الشّارع الفلاني فتخبره بأنّه هذا الّذي تقف عليه فيرمي في وجهك شتيمة طازجة لأنّك تخدعه وينصرف.