تروم هذه المقالة في جزئها الأول، [1] تقديم مدخل ميسر بغرض التعريف بفلسفة الدين الحديثة وبسط نبذة تاريخية موجزة عن نشأتها واتجاهاتها وأغراضها، لنمضي بعدها إلى تسليط الضوء على خصوصية مقاربتها للفكر الديني والإبدال المعرفي الذي يحققه هذا الحقل الفلسفي بالنسبة إلى الدراسات اللاهوتية. كما يسلط الضوء بعد ذلك، على إشكالية غربة فلسفة الدين في التقليد الأكاديمي الفرنسي، لنبين بهذا الصدد أن تجاهلها ورفضها من قبل هذا التقليد - إلى حدود العقد الأول من القرن الواحد والعشرين - يحرم حقل الدراسات الدينية من فرصة التحرر من عزلته ويحرمه من إمكانات إبستيمولوجية واعدة في معالجة أسئلته بمنآى عن أي مسبقات ثيولوجية دوغمائية؛ كما يحرم حقل العلوم الإنسانية من إمكانية توسيع منظورها الوضعاني وتطعيم ممارستها المعرفية الإمبريقية حول الظواهر الدينية باستبصارات فلسفية تمنح لها نفسا تأمليا يرقى بنتائجها الجزئية إلى مرتبة مساءلة شاملة تكترث بالدين بما هو أحد مواطن وتجليات المعنى في كلية التجربة الإنسانية. أولا: فلسفة الدين: تاريخ ومفهوم
1- من "اللاهوت العقلي" إلى فلسفة الدين الحديثة
إذا ما صرفنا النظر عن الإلهيات اليونانية[2] واتخذنا من العصر الوسيط منطلقا لهذه النبذة التاريخية، لوجدنا أن مصطلح "اللاهوت العقلي" في هذه الفترة يترجم مرحلة من النضج والتطور في اللاهوت المسيحي صار فيه هذا الأخير علما (scientia) قائما بذاته، له موضوعه الخاص وهو "الأشياء المتعلقة بالألوهية" (les choses divines) بعدما كان هذا المصطلح - أي اللاهوت العقلي - عند اليونان يستعمل كمقابل للاهوت الأسطوري، ذاك الذي عبر عنه كبار الشعراء أو اللاهوت السياسي الذي يرتبط بالديانة المدنية الرسمية للدولة[3]. مع أوغسطين، أخذ اللاهوت المسيحي كامل أبعاده وسماته العقلية؛ فقد عمل صاحب "مدينة الله" على تأسيس الإيمان الديني على العقل والتجربة في مواجهة المضامين الغنوصية والهيلينستية وبمنآى عن التقليد الكنسي الذي يستند إلى الكتابات المقدسة. شدد أوغسطين على مبدأ فهم الإيمان (intellectus fidei) بالسبل العقلية والحكمة (sapientia): يجب أن نفهم من أجل أن نصل إلى الإيمان، وأن نؤمن من أجل أن نفهم (intellige ut credas, crede ut intelleigas). على هذا الأساس، يجترئ التفكير اللاهوتي عند أوغسطين على إثبات وتعقيل مضامين الإيمان الديني ومسائل العقيدة باللجوء إلى نوع من البرهنة الطبيعية تستمد استدلالها على الألوهية من نظام الطبيعة وقدرة العقل والنفس على الاهتداء إلى إدراك الحقائق ومعرفة الفضائل. في هذا الطرح، تمتزج بقايا من الأفلاطونية والأرسطية والأفلوطينية مشكِّلة نظاما لاهوتيا متكاملا للمسيحية يوازي بين الدلالة الدينية لمفهوم الإله وبين المفهوم اليوناني للجوهر والعلة الأولى.
- اقتباس :
أخذ اللاهوت المسيحي مع أوغسطين كامل أبعاده وسماته العقلية؛ فقد عمل صاحب "مدينة الله" على تأسيس الإيمان الديني على العقل والتجربة.
إلا أنها مهّدت الطريق لظهور نوع من اللاهوت الطبيعي في الفلسفة الحديثة، يرى في الفهم العقلي المستند إلى شهادة الطبيعة نقطة البدء لتعلم الإيمان ومعرفة الله، وذلك على نحو ما نجد لدى اسبينوزا. ورغم أن تعبير "اللاهوت الطبيعي" نفسه كان قد استعمل من طرف أوغسطين[4]، فإنه في العصر الحديث يدل على منحى نقدي حافظ على قاعدة الطبيعة منطَلقا لبلورة نقد جذري للاهوت الكنسي، لكن من دون تثبيت النظرية الأرسطية للألوهية. مع اسبينوزا سيفقد موضوع الألوهية وإثباتُها مركزيتَه؛ وبخلفيته الديكارتية الصارمة، سيعمل على فسخ الرباط الأوغسطيني بين العقل والإيمان. مع ذلك، ورغم اندثار اللبوس الميتافيزيقي القديم في الخطاب الفلسفي الحديث عن الدين، فإن هذا التحول وإن أرسى معالم منهج نقدي تاريخي في تفسير النص المقدس، فإنه لم يُسْلِم التفكير الفلسفي في الدين إلى مبحث مستقل، لاسيما وأن الفلسفة الحديثة قد أفضت من جانب آخر إلى نوع من الثيولوجيا الفلسفية التي لم تتخلص نهائيا من محاولات تشييد البراهين النظرية على وجود الله (ليبنيز وباسكال).
من أوغسطين إلى ليبنيز، ظل تاريخ التفكير في الدين كأنما هو تاريخ لمشكلة الألوهية؛ وهو ما جعل من قيام مقاربة فلسفية موسعة تهتم بكل عناصر الدين وواجهاته يكاد يكون ممتنعا. ولذلك، يعتبر المؤرخ الفرنسي جان غريش أن اتخاذ "فلسفة الدين" لموقعها كمبحث فلسفي نقدي متكامل ما كان ليتبلور لولا التحرر من حدود الثيولوجيا الطبيعية التي تتخذ من الألوهية بمفردها موضوعا لها[5]. وهذا ما سيظهر مع كانط الذي أولى عناية أكبر لمشكلات وأسئلة أوسع من مشكلة الألوهية، من قبيل الشر والحرية والمسؤولية والإرادة والخير وغيرها من المفاهيم التي ظلت بمثابة "كم مهمل"[6] في سلم اهتمام اللاهوت الفلسفي الحديث. صارت فلسفة الدين أمام مهمة بناء تصور جديد للدين من خلال التمييز بين ديانة الضمير الذي يقوم على الوعي الفردي والالتزام الذاتي، وديانة الممارسات الطقوسية. في هذا التمييز يأخذ المستوى الأول منزلة دين كوني ينبثق من العقل الأخلاقي؛ في حين يرتبط المستوى الثاني بالمضمون التاريخي[7]، وهو خاص بالكتاب المقدس وينتمي إلى اللاهوت، ولا يتوافق مع القواعد الكلية للدين العقلي المحض. في المخطط الكانطي كما يبسطه في كتاب "صراع الكليات" نجد أن لاهوت الكتاب المقدس ليس زائدا عن الحاجة مع ذلك؛ فعالِم اللاهوت يحتفظ بمكانته المؤسسية من حيث هو عضو في مؤسسة عمومية هي كلية اللاهوت وتندرج تحت جامعة ما، تتمتع بمجال رقابتها متى ما بقي عالِم اللاهوت (وليس القسيس أو رجل الدين المكلف برعاية النفوس) في حدود وظيفته الخاصة في دراسة وتدريس اللاهوت دون القيام بغزوات في ميادين علوم أخرى تلحق الضرر بازدهارها. "لكن، يوجد في ميدان العلوم دائما مقابل لاهوت الكتاب المقدس، لاهوتٌ فلسفي وهو بمثابة الخير الذي عُهد به إلى كلية أخرى"[8]. وهذا النمط من اللاهوت الفلسفي يمتاز بالحرية الكاملة في أن يذهب في عمله إلى أبعد ما يمكن في تناول قضايا الكتاب المقدس، إذ يمكن له أن يستعير من التاريخ والدراسات اللغوية وكتب الشعوب الأخرى جميعا، ليس من أجل تغيير العقائد الرسمية أو يقحم في اللاهوت أشياء غريبة عنه؛ بل من أجل غاية أخرى تخص الفيلسوف هي تتويج تعليم لاهوت الكتاب المقدس بنوع من الخاتمة تكون بمثابة درس خاص حول النظرية الفلسفية المحضة في الدين.[9] من هذا المنظور، وبعدما كان كلُّ من لاهوت الكتاب المقدس والفلسفة مستقلا بمجال رقابته واشتغاله، يمكن النظر إليهما في وحدتها وتكاملهما[10]، "وهذه الوحدة أو محاولة البحث عنها هي مهمة ترجع بالنظر على نحو مشروع تماما إلى الباحث الفلسفي في الدين، وليس تدخلا في الحقوق الحصرية لعالم اللاهوت المختص في الكتاب المقدس"[11]. عموما، وبغض النظر عن الانتقادات التي وُجهت للتصور الكانطي للدين، يأتي مصطلح "فلسفة الدين" في القرن الثامن عشر، ليضع خطا فاصلا بينه وبين "اللاهوت العقلي" الذي كان رائجا عند لاهوتيي العصر الوسيط وبعض فلاسفة العصر الحديث. ولعله، بهذا المعنى، حُق لجان غريش أن يعتبر لحظة كانط ميلادا جديدا لفلسفة الدين[12]. لقد شكل هذا التصور مقدمة لتَحَوُّل فلسفة الدين إلى تخصص جامعي مستقل له مكانته ضمن كلية الفلسفة (الكلية العليا) بمنآى عن إملاءات السلطة؛ حيث مجال الاستعمال العمومي للعقل الحر والمستقل بمبادئه القبلية في تقييمه لفحوى ما يدرسه (في مقابل الكليات الدنيا: كلية القانون والطب واللاهوت، وهي مشروطة بالتزاماتها اتجاه الدولة)[13]. فمتى ما ميزنا بين محتويات مجالات المعرفة في الكليات الدنيا وبين موضوعاتها، فإنه يحق لكلية الفلسفة حسب كانط أن تطالب بإخضاع موضوعات الأولى، وضمنها لاهوت الكتاب المقدس، لامتحانها النقدي[14]. بدوره، سعى هيغل إلى رفع التناقض بين الفلسفة والثيولوجيا، معتبرا أن هذه الأخيرة واحدة من مجالات صلاحية تدخل الموقف الفلسفي. لكنه خلافا لكانط يقيم هذه الصلة من زاوية المضمون لا الموضوع فحسب. يقول: "لقد بلغنا في الآونة الأخيرة إلى نقطة تقتضي أن تأخذ الفلسفةُ المضمونَ الديني لحسابها، ضدا على أنواع كثيرة من الثيولوجيا"[15]؛ ذلك أن "الفلسفة لا تشرح غير ذاتها عندما تشرح الدين، وهي تشرح الدين عندما تشرح ذاتها"[16]. وليس هذا الموضوع المشترك بين الفلسفة والدين شيئا سوى فكرة الله وهو المطلق؛ أي اللامتناهي. - اقتباس :
سعى هيغل إلى رفع التناقض بين الفلسفة والثيولوجيا، معتبرا أن هذه الأخيرة واحدة من مجالات صلاحية تدخل الموقف الفلسفي.
بالنسبة إلى هيغل، إذا كانت جهود كانط النقدية لا رجعة عنها من منظور ومقاييس الأنوار ومكاسبها، وإذا كان يرفض بدوره انطواء اللاهوت على تاريخ العقيدة، فهو يتحفّظ مع ذلك على منحى كانط في تحويل المسيحية إلى مفاهيم عقلية محضة؛ والحال أن الدين حسب هيغل موجود في علاقة الوعي الإنساني بذاته. فضلا عن ذلك، فإن تهميش المضمون التاريخي للدين يؤدي إلى تفقيره وفقدان صلته بالواقع الثقافي. يرفض هيغل كذلك اعتبار الدين مجرد شعور داخلي (شلايرماخر) معتبرا هذا الموقف نوعا من الاختزالية واللامبالاة الدينية التي لا تأخذ بعين الاعتبار الأساس الكوني للأديان. فرغم أهمية العواطف في إدراك الموضوع الرئيس للدين أي المطلق الإلهي، إلا أن ارتقاء الوعي الإنساني نحو المطلق قد يأخذ شكل شعور أو إرادة أو تمثّل؛ وهذا الأخير هو أعلى درجات الوعي الفكري الذي ينشأ عنه الدين، وإن كان درجةً تقلّ عن درجة الوعي الفلسفي الذي يشتغل من خلال المفهوم. يتحدد دور الفيلسوف في الانتقال بالدين من شكله كوعي تمثلي (représentation) إلى المفهوم الفلسفي (concept). على أنّ تَطور الدين إلى مفهوم فكري في الفلسفة يستدعي تصنيفا للأديان وبحثا عن أساسها الكوني، وهو ما باشر هيغل نفسه القيام به.
من هذه الناحية، يمكن القول إن أهمية فلسفة الدين الهيغيلية تكمن في أنها مهدت لظهور تخصص تاريخ الأديان الذي سيعوّض تصنيف الأديان، وهو ما وجدناه مع علماء الدين الألمان ومدارس النقد التاريخي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. فمع شلايرماخر وإرنسيت ترولتش صار البحث في التاريخ المقارن للأديان جسر عبور يؤدي في النهاية إلى توليف نظرية فلسفية عامة عن الدين*.
2- شروط إمكان فلسفة الدين وأدوارها
يميز جون لويس ف. بارون بين فلسفة الدين والفلسفة الدينية؛ فهذه الأخيرة تعنى بمصالحة الإيمان الديني مع مقتضيات الفهم العقلي، وهي بهذا المعنى مرادف للاهوت العقلي الوسيط؛ حيث تشتغل الفلسفة خادمة للفكر الديني؛ أي كخزان مفهومي ومصدر استمداد التحليل العقلي للقضايا النفسية والأخلاقية والميتافيزيقية لنظام عقدي ما[17]. تُعتبر فلسفةً دينية إذن كل محاولة تفكير تنطلق من نظام عقدي ما وتسعى لإقامة مصالحة بين مبادئ العقل وبين تعاليمه ومضمونه الديني بهدف استنتاج كونيته[18]. وبالتالي، لا يتعلق الأمر بفلسفة الدين عند الحديث عن الفلسفة المسيحية أو الهندية أو الإسلامية. - اقتباس :
يميز جون لويس ف. بارون بين فلسفة الدين والفلسفة الدينية؛ فهذه الأخيرة تعنى بمصالحة الإيمان الديني مع مقتضيات الفهم العقلي
أما فكرة فلسفة الدين، فتتمثل في القيام بعملية استقصاء فكري حر يسعى لفحص حقيقة الدين وذلك من الجانبين الذاتي والموضوعي. بمعنى آخر، تختبر فلسفة الدين موضوعها منظورا إليه ضمن كلية التجربة الإنسانية، فهي "لا تميل إلى تفضيل شكل ديني دون غيره، وإنما تمتد صلاحيتها لتشمل كل أشكال الديانات"[19]. وعندما يعرّفها هنري ديميري بكونها نقدا فلسفيا للدين، فهو يقصد بذلك نمطا من المقاربة ذات الطابع الشمولي يقوم بها الفيلسوف على المعطى الديني، تختلف عن النقد التاريخي بنفس القدر الذي تختلف به عن المباحث الدينية مثل تفسير الكتاب وعلم الدفاع اللاهوتي (l'Apologie) [20]. يتعلق الجانب الموضوعي بالطقوس والعقائد والممارسات في حين يتصل الجانب الذاتي ببحث فعل الإيمان ومفهوم التجربة الدينية. في الجانب الموضوعي، "لا تستطيع الفلسفة من تلقاء نفسها أن تغني عن البحث في مجال الوقائع"[21]، من حيث إنها تنتمي إلى التجربة الثقافية والمادية التي تشكل الواقع. ولذلك، فهي مدعوة لتطوير بحثها في هذا الجانب بالاعتماد على "الأبحاث غير الفلسفية للدين، والتي ساهمت كثيرا في إغناء البحث في تنوع واتساع الخبرات الدينية، والتي تتعاطاها الفلسفة بالفهم والتحليل طبقا لمقتضيات الحقيقة الكونية"[22]. يملي هذا المخطط على فلسفة الدين انخراطها في المجال الأثير للعلوم الإنسانية (دراسة الرموز، الطقوس، التاريخ، الأساطير، اللغة الدينية...)؛ في حين يتحدد دور البحث الفلسفي في القيام بالوصف النسقي لهذا الثراء والتنوع في مجال الوقائع بهدف "استنباط القبلي الديني في الإنسان"[23]؛ سواء بالاعتماد على تنظيم موروفولوجي لأشكال المقدس في الأفكار الدينية كما قام به مارسيا إلياد، أو باعتماد تحليل مقولاتي مستلهم من كانط كما هو الأمر لدى رودلف أوتو أو بالاعتماد على تحليل فينومينولوجي كما هو الشأن لدى ماكس شيلر. في كل هذه النماذج، يتعلق الأمر بمحاولة بناء نمذجة نظرية للبنيات الكونية للمعنى الديني الأصلي الملازم لكل المنظومات الثقافية، وطرح أسئلة الوجود والمعنى الإنساني بمعزل عن نمط التأمل الأنطولوجي غير المسنود بأرضية ثقافية وعلمية تغذيه.
الحاصل من ذلك، أنه إذا كانت الفلسفة المعاصرة عموما هي حصيلة الحوار والتفاعل مع معطيات ونتائج العلوم الإنسانية، فإن فلسفة الدين لا تشذ عن هذا الأمر؛ فهي بدورها مطالبة بملامسة الأسئلة التي قاربتها العلوم الإنسانية حول الإنسان ونمط وجوده وفكره وخطاباته[24]. يتضح من هذا الشرط أن ما يشكل بؤرة التمفصل المشتركة ما بين الميتافيزيقا واللاهوت وفلسفة الدين والعلوم الإنسانية، إنما هو البحث عن أساس معرفي لترسيخ نزعة إنسانية جديدة[25] تفكر في المطلق في سياق علمانية حذت بالإنسان إلى التحكم بكافة قطاعات وجوده البشري، وامتدت هذه الرغبة نفسها إلى تحليل وتفكيك المقدس ونقد كل خطاب أخروي عن عالم غير العالم المادي الذي شمله التكميم والترييض. - اقتباس :
ترتبط أدوار فلسفة الدين بالتفكير في وضعية الدين في عصر المجتمعات الحديثة والرؤية العلمانية للعالم.
ترتبط أدوار فلسفة الدين بالتفكير في وضعية الدين في عصر المجتمعات الحديثة والرؤية العلمانية للعالم[26]. لا يُفهم من ذلك إلغاء معطى الوحي كما هو الشأن في الثيولوجيا الطبيعية؛ بل إنه يأتي في مقدمة شروط إمكان اشتغال فيلسوف الدين كما يرى ج. ل بارون[27]. باستلهامه لكل من كانط وفيشته، يرى بارون أن مفهوم الوحي يشكل قاعدة انطلاق لبلورة نظام أخلاقي للعالم يحايث الطبيعة الإنسانية ويتواءم مع الوعي الأخلاقي بالحرية. لا يحيل مفهوم الوحي إلى التصور الثيولوجي للألوهية، بل إلى فكرة وجود "ما وراء" يحدد وجهة ومسار العالم البشري وجهة أخلاقية. وفي غياب هذه المقولة، يعتبر بارون أن الحديث عن فلسفة الدين يصير ممتنعا، لأن هذه المقولة أي الوحي، منظورا إليها من الزاوية الأخلاقية، يمد فلسفة الدين بالأساس الذي يسمح بإظهار وحدة التجربة الدينية في مختلف الأديان. ولهذا السبب يرى في اللاهوت الطبيعي عائقا أمام فلسفة الدين كونه يختزل الإله إلى ماهية نظرية مجردة لا تمد التجربة الدينية بالمَعين الأخلاقي.
والشرط الثاني من شروط إمكان فلسفة الدين هو الاعتراف بالبعد الجوّاني (Intériorité) كمحدد للتجربة الدينية. ومفهوم التجربة الدينية هنا هو نتاج العلاقة الذاتية التي ترجع بجذور التقديس لدى الإنسان إلى صميم وعيه الباطني الفردي. تمثل هذه الجوانية نقطة إمكان حاسمة لاشتغال فلسفة الدين على فحص سلوك التقديس في مقابل المنحى الذي ينظر إليه في نظاق تمظهراته وأبعاده الخارجية، كالبعد السوسيولوجي مثلا. في هذا المنحى سنكون أمام سوسيولوجيا الأديان وليس فلسفة الدين كما يقول ج. ل بارون[28]. كذلك، تنهض فلسفة الدين على شرط آخر يقضي بالاعتراف بتنوع وتعددية الأديان، "وتحاول أن تفهم، بالمعنى القوي الذي أضفاه دلثاي على هذا اللفظ (...) الجوهر الذاتي للأديان"[29]. وهي في هذا لا تتخذ من خصوصية دينية ما سبيلا للقبض على ذلك الجوهر، ولا تحابي تجربة دينية بعينها على غيرها. كما ترفض في المقابل، التوفيق بين المعتقدات والأديان الموجودة؛ بل تنتهج طريقا آخر يؤدي، عبر مجهود تأويلي ومقارن، إلى تجميع الأديان المختلفة في "عائلات روحية"[30] منظورا إلى كل مكون ديني منها من زاوية هيغيلية، باعتباره تجسيدا لصيغة ما من صيغ الوعي الديني المطلق. وبلغة هنري ديميري، ليست الأديان بالجمع سوى كيفيات وأنماط مختلفة لنفس القصدية الدينية[31]. بصفة عامة، لا تقوم فلسفة الدين على أنقاض الثيولوجيا، بقدر ما تعمل على استضافة الفكر الديني الذي لم تعد أسئلته وشواغله تمتلك مجالا محفوظا خاصا بها هو حقل اللاهوت طالما أن الأخير يصير إلى الانخراط في كل ما له دلالة على تجديد فهم قضايا العالم والإنسان[32]. على أن الفلسفة ليست هي المحاور الوحيدة للاهوت، وإنما في صلة تفاعلية بالمساءلات التي تطرحها الشرعية الحديثة للعلوم الإنسانية على العقل اللاهوتي التقليدي. ثانيا: غربة فلسفة الدين في التقليد الفرنسي
لقد ظل محمد أركون، بوصفه باحثا وأستاذا لتاريخ الفكر الإسلامي بجامعة السوربون، يعاين كيف أن فلسفة الدين "لا تحظى باهتمام كبير بسبب الحواجز الإبستيمولوجية التي تستمر في فصل الفلسفة عن اللاهوت"[33]. وكما يوحي بذلك تعبير "يستمر"، يقتضي فهم هذه العقبات أن نستذكر خلفيته التاريخية، وموضعتها باعتبارها استمرارية للوضع الناشئ عن قانون الفصل اللائكي للكنسية عن الدولة سنة 1905. ذلك أن آثار هذا القانون امتدت، لتشمل مجال المعرفة والثقافة والاجتماع والتعليم، حيث لعبت اللائكية الفرنسية في مجال تدبير حقول المعرفة دور حراسة الحدود بين الفلسفة واللاهوت والعلم. وخلافا للخيار الألماني، كان من موجبات هذا القانون إلغاء تدريس الدين في المدرسة العمومية من منطلق حيادية خدمات الدولة[34]. يمكن القول إنه متى استحضـرنا خصوصية اللحظة التاريخية التي استجاب لها قانون اللائكية أمكننا أن نفسر ونفهم أولوية الوضعية المؤسسية التي تم بموجبها إلغاء الثيولوجيا من التدريس العمومي والفصل بينها بين الفلسفة. ولكن ما يشكل محل الاستشكال لدى أركون هو إلى أي حد يحتفظ مبدأ اللائكية براهنيته وصلاحيته كدعامة للعقل الأكاديمي الفرنسي في تبرير موقفه المتشكك والرافض للآفاق المعرفية التي تطرحها فلسفة الدين في مقاربة إشكاليات الظاهرة الدينية، إلى أيّ مدى يشكل النموذج الوضعي لعلوم الأديان الأسلوب الوحيد لدراسة الدين على شرط الحداثة وخارج السياجات الدوغمائية الدينية؟ ألا ينتج النموذج اللائكي سياجات فكرية تعادل في دوغمائيتها السياجات الدوغمائية اللاهوتية؟ ألا يمكن الاستفادة من التقليد الألماني لخلق زاوية معالجة فلسفية متجددة ومستقلة للدين دون السقوط في السياجين اللاهوتي واللائكي؟
يلزم من هذه الأسئلة الوقوف على وضعية فلسفة الدين في العقل الأكاديمي الفرنسي واستجلاء طبيعة الاعتراضات التي تُلقى في طريق استحداثها والاعتراف بها داخل بنيات المعرفة الجامعية العمومية.
يجدر بدايةً القول أو التذكير بأن جذور الاعتراض على فلسفة الدين ليس مسألة تدبيرية مؤسساتية محضة، بل هي نتاج خصوصية ثقافية ظلت تميز الحالة الفرنسية. مثلما هو معلوم، ففي النموذج الفرنسي - أكثر من غيره - اشتهرت إشكالية الحداثة والدين بوضعية تنابذ ثنائي متبادل، ولم يُفهم الافتراض العلماني حول "نهاية الدين" بهذا المعنى الحاسم في أي مكان مثلما فهم في فرنسا من خلال الفصل الصارم بين الغريمين[35]. في سياق وضعاني يحتفي كثيرا بالمعطى الإمبريقي والتأكيد التجريبي، من الطبيعي أن سوسيولوجيا الدين احتلت مكان الصدارة كحقل رئيس لمقاربة الظواهر الدينية في مقابل نبذ أشكال التأويلات الفلسفية النظرية. من أولى تجليات ضعف حضور فلسفة الدين نجد المصطلح نفسه. يذكر الفرنسي إمانويل لورو Emmanuel Leroux (1883-1942) أن تعبير فلسفة الدين كان أقل استعمالا في فرنسا في الفترة ما بين 1914 و1925 بالمقارنة مع ألمانيا والبلدان الناطقة بالإنجليزية[36]. كما أنها لم ترق إلى مرتبة تخصص محدد ومستقل بالمقارنة مع تقدم الدراسات في مجال علم النفس الديني[37]. وقبل هذا التاريخ، وحتى بالعودة إلى فيلسوف فرنسي مثل موريس بلونديل (1861-1949) وبالرغم من مكانته ودوره في تجديد اللاهوت الكاثوليكي في فرنسا، فقد ظل مساهمته تحسب على مجال فلسفة الفعل. أما على المستوى البيبلوغرافي، يشير الفيلسوف الألماني رولف كوهن في مقالة له إلى نذرة إسهام الفرنسيين في الكتابة في هذا الحقل من التفكير[38]. إذا انتقلنا إلى الراهن، نجد جون غريش يكشف عن التوجس الذي لا زال يلاحق فلسفة الدين وحجج رافضيها في الوسط الكاثوليكي الفرنسي:
- منها أولا أنها ليست أكثر من مجرد "حصان طروادة"[39] تتخذه الثيولوجيا الدوغمائية مطية للعودة إلى واجهة المشهد الفكري الحر؛ - كونها مجرد "لاهوت رخيص من الدرجة الثانية"[40] théologie au rabais)) قد يُعهد إليه بالقيام بالوظيفة الدفاعية في حدودها الدنيا؛ - تعبير عن "صنمية مفهومية عقيمة"[41] في نظر تيار اللاهوتيين البارثيين (نسبة لكارل بارث) الرافض لخط تفكير إرنست ترولتش. وموازاة لرفضها في صفوف اللاهوتيين الكاثوليك، يلخص جون غريش جانبا من موقف الارتياب والتحفظ اتجاه فلسفة الدين من قبل الوسط العلمي في مجال العلوم الإنسانية خاصة في فرنسا. حيث يُنظر إلى فلسفة الدين، باعتبارها أداة لمعركة توجَّه من الخطوط الخلفية من قبل أولئك الذين يقبعون في عوالم تحتية، ولم يتقبلوا بعد أن العلوم الدينية مدعوة لبسط موضوعها على قاعدة الوقائع الصلبة[42]. ليست فلسفة الدين بتعبير آخر سوى مجال محروس يحتمي به أصحابه في حربهم ضد الدراسة العلمية التجريبية. والحاصل من ذلك أن فلسفة الدين لم تحز أوراق اعتمادها والاعتراف المؤسسي بها في الجامعة الفرنسية، حيث ظلت تمارس كنشاط سري في الخفاء