طلّ العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين على الساحة الشرق أوسطية وتقلّباته الأيديولوجيّة راصدا لحركة تأريخية للصراع المتأجج بين الخطاب الشفهي والخطاب المكتوب، باعتباره أحد الروافد الفكرية الآذنة بالصراع القائم على الأنا الثقافيّة، من خلال ما هو واقع بين التيارات الجهادية والمؤسسات الدعوية([1])، على أساس محلُّه الفهم الصحيح لمراد الدين، حيث انحاز الأوّل إلى الخطاب الشفهي- التثويري - آلية تواصلية مع المتلقّين، وجاء الثاني كردّة فعل لرأب الصدع الذي أصاب فكر الشباب الذي كان ولازال الصيد الثمين الذي ترجوه الجماعات ذات الفكر الجهادي، من خلال حتمية صياغة خطاب دعوي يسعى إلى بيان الفهم الصحيح لمراد الدين الوسطي، وعلى الرغم من انحياز هذه المؤسّسات الدعوية إلى المصادر الأصلية لبيان مراد الدين الإسلامي، إلاّ أنّها جانبت التوفيق والنجاح. وبالعودة إلى العناصر الشبابيّة التي تمّ استقطابها من خلال التيارات الجهادية، بعد أن تخطّت التأهيل النفسي والفكري المتزامن مع المصلحة المرجوة والمقصودة، نجد أنّها لم يكن لديها تراكم ثقافيّ دينيّ يدفعهم إلى التضحية بأجسادهم وأرواحهم حيال الحالة التكفيرية التي أحاطت بهم - على حدّ زعمهم - أو معرفة دينية تولّد لديهم الحمية التي لأجلها يأتون من كلّ فج عميق لإنجاز ما يحقّق الجنّة والفوز بالحور العين.
لاشكّ وأنّ الإشكالية الإقناعيّة تلعب على أوتارها العديد من الروافد الفكرية أهمّها ما هو كائن في الآلية الدعوية التواصلية، وخير شاهد ودليل عندما يتحدّث هؤلاء من الشباب عن "الحقيقة "، فإنّ الأمر لا يتعلّق هنا بالمعرفة المبنيّة على الجدل الفقهي والتحقيق العقدي، بل هم يقصدون بذلك قناعتهم الذاتية التي تنبني في بعض الأحيان على كلام مشايخ ورجال الدين، سمعوا عنهم ولم يقرؤوا لهم أيّ كتاب.
- اقتباس :
تلعب على أوتار الإشكالية الإقناعية العديد من الروافد الفكرية أهمها ما هو كائن في الآلية الدعوية التواصلية.
فعلى سبيل المثال، إنّ الشاب "سيدرك" الفرنسي اعتنق الإسلام، قال في أثناء محاكمته "أنا لست متطرّفا من خلف شاشة الحاسوب، لم أعتنق الإسلام بسبب اليوتيوب، أنا أقرأ للعلماء الحقيقين".
وقد ادّعى هذه الأشياء، رغم ثبوت أنّه لا يستطيع قراءة اللغة العربية، وأنّه قد تعرّف على أعضاء الخلية التي انتمى لها عبر شبكة الإنترنت([2]). إنّه الخطاب الدعوي القادر على أن يسلب العقل من ظرفية مكانية أولى إلى ظرفيّة أخرى بحسب ما يريد المتكلّم وبحسب إمكاناته الشخصيّة التي تؤهّله لذلك، وهو الأمر الذي بدا واضحا من خلال المسح التتبّعي للخطب الدعوية ذات الصبغة الجهادية، والذي فطن فيها أصحابها إلى آلية الخطاب الشفهي آلية تواصلية مع الأهداف المقصودة والمرجوّة استقطابا، الأمر الذي يفرض على راسل الخطاب الشفهي أن تكون لديه طاقة فكرية يوظّف فيها النص توظيفا يتّفق وحال المتلقّي مكانيا وزمنيا بعد أن تملك مضامين النص الممثّل للرسالة المنقولة معطيات وأهدافا، ليحيل الرسالة الدعوية إلى نجاح يرصد المزيد من المتلقّين دون إفراط أو تفريط في المادة الدعوية المستخدمة.
المحاولات الدعوية التصحيحية
وبالتتبّع الزمني للحالة الدعوية المؤسساتية إبّان ثورات الربيع العربي التي لازمها تصاعد للأفكار الجهادية، نجد أنّها جاءت صدى للتوجّهات الفكرية الجهادية التي اتخذت من نصوص الدين الإسلامي مبرّرا للأفعال المتطرّفة حجّة لهم. فعلى الرغم من الدعوة إلى توحّد الجهد الفكري نحو إعادة صياغة الخطاب الدعوي من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه مما جنته الأفكار الجهادية، إلاّ أنّها لم تأت بما هو مرجوّ ومأمول، والعلّة كامنة فيما يلي:
1- تغليب الخطب ذات الطابع الكتابي آليّة دعوية للتواصل مع المتلقّي، الأمر الذي بدا في شكله ومضمونه تقليدا لما هو كائن ومرصود في أمّهات الكتب التي لا نكنّ لها إلاّ كامل التقدير والإجلال، وفي هذا النهج إن جاز لنا القول فيه انحياز لما هو غيرنا وتهميش ما هو نحن؛ لأنّها تعتمد على تقليد السالفين الذين بذلوا الكثير من الجهد من أجل الوصول إلى النتائج التي سجّلتها يد التاريخ، فوصلت إلى زماننا بنمط مكتوب إجبارا لا خيار فيه؛ فتلاشت آلياتها الشفهيّة جرّاء نقلها من مولدها الشفهي إلى المكتوب، ففقدت مصداقية الظرفية الزمنية والمكانية حيالها.
- اقتباس :
الثقافة العربية بجميع بيئاتها وروافدها الفكرية متولّدة من رحم شفهي يحنّ إليه أفراده، ويهوون العيش في كنفه.
2- على الصعيد المقابل اعتمد التيّار الجهادي الخطاب الشفهي آلية دعوية سبيلا للتواصل مع المتلقّين العرب عامّة والشباب خاصة، استنادا على آليات الخطاب الشفهي بشقّيه الإقناعي والإمتاعي في قدرته على التواصل مع الشخصيّة العربية وتحريك ما هو كائن في اللاشعور النفسي، لما يثمنّه المُرسِل من تماسّ مع الثقافة المعايشة للمتلقّي من أمثال ولطائف وحكايات أسطورية....مستشهدا بها، تسير بنمط لغوي شفهي وغير لغوي ممثّل فيما هو كائن ومعروف بما وراء اللغة (لغة جسد - نبر وتنغيم صوتي) وهذا ما اعتاده المتلقّي للعربية في ممارساته اليومية والحياتية على النقيض من الثقافة الكتابية التي لا يتعامل بها - المتلقّي - إلاّ في المجالس الرسميّة ذات الطابع البيروقراطي أو النوادي العلمية وممارسات النخب الثقافية.
إنّ الثقافة العربية بجميع بيئاتها وروافدها الفكرية متولّدة من رحم شفهي يحنّ إليه أفراده، ويهوون العيش في كنفه، وفي ذلك نعثر على الحلقة المفقودة في الصناعة الدعوية التي تهدف إلى الإمتاع والإقناع الموجَّهيْن المتلقي العربي.
وقد اقتضت طبيعة الدراسة التطرّق إلى قدرة الخطاب الشفهي في توجيه المتلقّي فكرا ووجدانا اعتمادا على الآليات الإقناعية والإمتاعية، بحسب الطاقة الفكرية الموجّهة إليها، الأمر الذي فرض على الباحث أن يسوق نموذجين شفهيين؛ أحدهما: جهادي تثويري، والآخر دعوي إصلاحي.
نموذج دعوي جهادي (تثويري)
اتخذت الخطب التثويرية أنماطا مختلفة بحسب التيارات الممثّلة لها؛ فالتيّار الداعشي تمثّل للمتلقين وكأنّه المالك لمفاتيح الجنّة، ويسّر السبل إليها بالجهاد المكلّل بالشهادة في سبيل الله، وقد بدا ذلك من خلال الخطاب الدعوي الممثّل لهم، فهذا أبو بكر البغدادي([3]) الذي طلّ على الساحة الإعلاميّة من خلال خطبة الجمعة([4]) التي اتخذ موضوعها "شهر رمضان" مدخلا لتثبيت معتقدات تنظيمه من خلال محاكاة زىّ الرسول متّخذا من الهيئة المطلّة على المتلقّي مدخلا كي يرغّب إليه أفكاره. فكثير من الناس يبني أحكامه وانطباعه عن الآخر من خلال أوّل لقاء معه([5])، وتتحدّد الصلة بين الخطيب ومستمعيه على أساس ما تنقله الحواس من صور: فالمستمع يرى الخطيب بعينيه... قبل أن يسمعه بأذنيه. ليمتدّ خطابه الشفهي الفصيح اعتمادا على المحاكاة والاستدعاء التاريخي؛ امتدادا ييسّر التواصل مع المتلقّي إقناعا بكلّ ما يأتي من نتائج حجاجيّة في خطابه، ويمكن التدليل على ذلك وفق النحو التالي: - من الآليات الشفهيّة التي اعتمدها أبو بكر البغدادي الإحالة اللفظية (الدلالة الهامشية) معتمدا في ذلك على المرجعية التاريخية المستدعاة، وقد تعدّدت المشاهد المؤكّدة على ذلك في خطبته، والتي خاطبت اللاشعور الكامن في الشخصيّة الإسلامية بعامّة، ويمكن بيان ذلك من خلال رصد عدّة مشاهد من خطبته:
أوّلها: محاكاة خطب الصحابة، وبخاصة خطبة أبي بكر الصدّيق عند تولّيه الخلافة (11 هجرية) لمّا بويع بعد بيعة السقيفة، والذي اتخذها البغدادي مرجعيّة شفهيّة، حتّى يرسّخ في وجدان المتلقّي المكانة التي أوكلت إليه من قيادة وخلافة للدولة الإسلامية، حيث قال: (فوليت عليكم ولست بخيركم ولا أفضل منكم، فإن رأيتموني على حقّ فأعينوني وإن رأيتموني على باطل فانصحوني وسدّدوني، وأطيعوني فيما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم ...). وجاءت الخطبة متشابهة لفظا مع خطبة أمير المؤمنين، متباينة في المضمون؛ حيث كشف "التناسق اللفظي" في عبارة البغدادي عن الميل إلى التنصيب والإمامة حتّى في حالة الإخفاق والدليل مستمدّ من العطف الكائن بين لفظتي: (فانصحوني) و(سدّدوني)، مخالفا لرسالة الصديق الذي ضمّن جواب شرطه بلفظة: (قوّموني) التي تحمل دلالة التصويب والمقاومة والمجابهة إذا تطلّب الأمر ذلك([6]). ثانيها: من خلال قوله: (...سوق الجهاد....) عبارة محورية في الخطبة، تعدّ في الخطاب الشفهي "نواة الخطاب" التي تدور في فلكها الدلالي العديد من التوجيهات التي تدعمها وتعضدها لفظيا ودلاليا، والمدقّق في هذه العبارة يجد أنّها تخاطب المتلقّي المسلم عامّة المتمرّس بالثقافة الفصيحة والعامّية؛ لما تحمله هذه العبارة من إحالات تاريخية تعيد في الوجدان ذكريات (سوق عكاظ وذي المجاز) تلك الأسواق التي تبارى فيها الشعراء للفوز بالإعجاب والعطايا، كما تحمل العبارة السابقة دلالات تخاطب أصحاب الثقافة العامية لما هو راسخ في الضمير العربي من كون الأسواق مكان للتنافس وراء الرزق؛ فتقوم العبارة المستشهد بها مقام المستدعي لمفاهيم التنافس القائم على تحقيق (الأنا) الفائزة بالجنّة، والتي رسّخت في الوجدان بالجهاد والاستشهاد.
- الاستعانة بالقرآن والسُنّة النبوية المطهّرة مصدريْ التشريع الإسلامي؛ رابطا مدخل الخطبة الدينية بالتوجّهات الجهادية التي تعدّ الركن الإسلامي الأَوْلَى بالتطبيق في ظل تفشّي الأنظمة الفاسدة الكافرة - على حدّ زعمه - في أحشاء الدولة الإسلامية مؤكّدا حجّته الإقناعية بالتسلسل الحجاجي([7]) من خلال الاستدلال بآيات من النصّ (القرآن الكريم) الداعية إلى الجهاد وإزالة وثنية الظلم إلى أن يصل إلى قوله: (فهذا قوام الدين: كتاب يهدي وسيف ينصر) لافتا مريديه إلى أنّ الدين الإسلامي قد حصر بين دفّتي الهداية وقوة السيف، وما خلا ذلك من تعاليم لا محلّ لها من الإعراب في آن. وقد أكّد أبو بكر البغدادي هذا المضمون الجهادي في نهاية سلّمه الحجاجي، حينما قال: (فهي التجارة التي دل الله عليها، وأنجى بها من الخزي، أنجى بها الكرامة في الدارين) مؤكّدا على هذا المراد من خلال العطف بين حياتي الإنسان (الدنيا - الآخرة) وآليّته الشفهيّة (الصمت)، كي تسير العبارة في سهولة ويسر دون إشعار المتلقّي بالملل.
فهذه هي الآلية الشفهية الحجاجية المعتمدة في خطبة البغدادي، والتي ارتكزت على السلّم الحجاجي المعتمد على "الدلالة الهامشية" للألفاظ والعبارات التي تستدعي في ضمير المتلقّي - المريد - مشاهد تاريخية مسجّلة لأمجاد المسلمين، وقد عضد البغدادي مقصده بالتدرج الحجاجي المستمدّ من النصّ المبارك والسيرة الطاهرة الممهورة بالهيئة المتسربل بها؛ حجّة وبرهانا على كون الجهاد في مجابهة الدول الإسلامية ونظمها هي مطية الوصول إلى الجنّة.
نموذج دعوي شفهي إصلاحي
إنّ المشاهد التاريخية الحديثة منها والمعاصرة لخير شاهد ودليل على ما أحرزه الخطاب الدعوي الشفهي من نجاح، وفي ذلك نستدعي المشاهد التي استعان بها أصحاب الفكر المستنير، حينما أعادت الاستعانة بمقاطع من الدروس الدينية الدعوية للشيخ الشعراوي إبّان التقلّبات الملازمة لثورات الربيع العربي في مصر، والتي آتت ثمارها ضعفين من خلال استقطاب العديد من المريدين والشباب - جذوة الثورات – إلى المرتكز الفكري الذي يؤهّله إلى إعادة توجيه بصلة التفكير والأفعال إلى النصاب الذي يجب أن يكون عليه في فترة زمنية أقلّ ما توصف بها أنّها موجزة، كما أنّها لفتت أنظار العامّة والخاصّة إلى الحالة الفكرية للتيّارات الجهادية - أمثال تنظيم داعش - لا باعتبارها ممتلكة لصكوك وأذون الأمور الفقهية الصحيحة لمراد الدين، بل باعتبارها تيّارات تتسربل بالدين ستارا لمقاصد وأهداف دنيوية لا علاقة لها بالجنّة أو النار.
وإذا ما قرّرنا الاستعانة بنموذج دعوي استدلالي، توافرت فيه العناصر الشفهيّة التي لقيت تربتها الخصبة في نفس المتلقّي العربي عامّة والمصري خاصة، وحقّقت مآربها الإقناعية والإمتاعية، فإنّه يجدر بنا الإشارة إلى خطاب رصَدَ العديد من ظواهر الآليات الشفهية من خلال تناول درس دعوي للشيخ الشعراوي وهو يُعدّ نموذجا يحتذى، ونخصّ بالذكر الكلمة التي ذاع انتشارها بين القنوات التلفزيونية العربية وبخاصة المصرية إبّان التقلّبات الملازمة لثورات الربيع العربي([8])، والتي اتسمت بصبغتها الشفهية الإقناعية، ويمكن بيان ذلك تقعيدا للخطاب الشفهي على النحو التالي: أوّلا: الجانب الإقناعي:
وهو الجانب الذي ينازل فيه المتكلّمُ المخاطَبَ كلاّ بأدلّته العقلية التي تفضي إلى إقناع أحدهما بما أتى من نتائج، ولا يشترط في ذلك أن يكون المخاطَب (المتلقّي) متحدّثا، بل في كونه متابعا ومتفاعلا مع الخطاب. ويُعدّ ذلك مشاركة ومبارزة لغوية شفهيّة، وفي ذلك الجانب تنبثق العديد من الآليات:
1- الأسلوب التجميعي
وهو الأسلوب الذي يتصدّر الأسلوب الشفهي استخداما وتداولا؛ حيث يعتمد على السلّم الحجاجي الإقناعي من خلال الاعتماد على الأدلّة المنهجية المتتابعة، الذي يفضي إلى تحقيق نتائج قصد إليها المتكلّم، وقد اتخذ مناحي عدّة في الكلمة الشفهية للشيخ:
أ- التقابل:
وهي الآلية الشفهية التي تعتمد على إبراز العناصر اللغوية المتقابلة، والتي تقوم بدورها على المرجعية الثقافية الكامنة في اللاشعور لدى المتلقّي لبيان ما هو محرّم وما هو أهل أن يتّبع، والتي استلهمها الشيخ الشعراوي في كلمته من خلال التقابل بين:
- (...تعاليم الإسلام ...) و(... الحركات الاستعمارية...)
- (...زوال الاستعمار من الرقعة المكانية...) و(... بقاء أعوان وزبانية يذيعون ويشيعون ما يحبّه المستعمر)
فالتقابل كائن فيما عرف باللازم والملزوم([9]) والممثّل بين ما هو إسلامي، وبين ما هو وافد مستعمر غريب؛ مرسّخا في نفس المتلقّي العربي مدى الهوة الفارقة بين ما هو مقبول ممثّلا في الإسلام وتعاليمه، وما هو مذموم ممثّلا في الاستعمار وزبانيّته، مداعبا اللاشعور الوطني عند المتلقّين دليلا حجاجيا يبتدئ من خلاله التدرج الحجاجي لتأكيد ما هو مرجوّ. ب- العطف
وهو الآلية المعنيّة بسريان الكلام بسهولة ويسر دون أن يكبّل المتلقّي بأحمال الملل أو السأم([10])؛ حتّى يصل به إلى الهدف المرجوّ من الخطاب، وقد اتخذ أسلوب العطف في كلمة الشيخ نمطين هما: - عطف كتابي: وهو ما تعارف عليه في الكتب التقعيدية للنحو العربي. والأدلة على ذلك متعدّدة، فعندما تطرّق الشيخ إلى الحديث عن الخطة الغربيّة العدائية الباغية إلى تشتيت الكيان العربي من خلال بثّ السموم الفكرية والداعية إلى تحقيق الفرقة؛ اعتمادا على الأطماع الشخصية الكامنة في النفس البشرية من خلال مداعبة الأهواء الفردية بالإغراء الداعي إلى التنصيب على الحكم الممثّل في (الرئاسة) للدول الجمهورية أو (الإمارة) للملكية، ليتّفق الكلام مع البيئة العربية التي يلقى فيها الخطاب، وقد جاء ذلك في معرض قوله:
(وجعلوا في كلّ واحد أملا في أن يكون أميرا أو حاكما)
والشاهد ممثّل في الاستعانة بحرف العطف (الواو) والذي لعب دورا دلاليا ليخاطب من خلال الرقعة العربيّة عامّة، الجمهورية منها والملكية دون أن يشير صراحة أو تخصيصا؛ لتنزل في نفس المتلقّي منزل الحقيقة المشاهدة للتدرّج كحجّة إقناعيّة في السلّم الحجاجي المستعان به في الخطاب.
- عطف شفهي: وهو المعنيّ بتعدّد العبارات والجمل بنمط تكاملي تتابعي، وجاء ذلك في معرض حديثه: (لاحظوا الفارق لأنّ دينكم واضح... دينكم فطريّ)، حيث جاء الصمت بين الجملتين آذنا بتعدّد العبارات والجمل الشفهية، والتي تجعل من المنطوق قابلا للتعداد اللفظي وما يصحبه من دلالات إقناعية يخاطب من خلالها وجدان المتلقّي مستميلا لعواطفه المُؤْثرة للانحياز العقدي.
وفي معرض حديثه: (مصر الكنانة ...مصر التي قال فيها الرسول: "... في رباط إلى يوم الدين")
عبارة تعتمد في بنائها الشفهي على المرجعية الوطنية التي تولّتها مصر مدافعة عن الوطن العربي؛ استنادا على المرجعية اللفظية "الكنانة"، لتعطف على العبارة الشفهية الأخرى التي اعتمدت على مرجعية إسلامية بدلالة الحديث الشريف الذي يُعدّ عند المتلقّي عامة والمقصود - الشباب - خاصّة من الآليّات الحجاجيّة المسلّم بها بعد القرآن الكريم وقبل الأحداث التاريخية والمأثور من التراث الشعبي.
وهذا ما أشاع بين المتلقّين ما هو كائن في اللاشعور من مكانة تحتلها مصر استراتيجية ودينية.
وإذا ما آمن المرسِل - الشيخ الشعراوي - قبول المتلقّي الأدلّة الشفهية المستخدمة في التسلسل الحجاجي الإقناعي، والتي لابدّ وأن تكون وثيقة الاتصال بالأنثروبولوجية المعايشة للبيئة الشفهية، انتقل إلى مرحلة التوجيه والإرشاد استنادا على المخاصمة الجدلية السامحة لأحد أطراف الحديث الشفهي إلى تريد الحوار وتملّك أطرافه، وقد اتضح ذلك جليّا في آن تعداده للفظة (الأنا) تنصيبا على الأولوية والأجدر بالتوجيه.
ثانيا: الإمتاع:
وهو الجانب المعنيّ بتفاعل المتلقّي مع المرسِل تفاعلا يفضي إلى الاتفاق على ما توصّل إليه من نتائج خطابية، وقد اتخذ في ذلك الشقّ الإمتاعي الممثّل فيما تطرب إليه الأذن العربية التي ترسخ في وجدانها إجادة الممارسات اللغوية وتذوّقها، وفي ذلك تجدر الإشارة إلى العديد من المواطن الشفهية في حديث الشيخ الشعراوي الذي اعتمد فيه على ذوق العربية الكامن في الوجدان العربي، وقد تجلّى ذلك في استعانته بالآليات التالية:
1- الأسلوب المتوازن:
وهو الأسلوب الشفهي المعنيّ بسرد متّزن في التقطيع اللفظي، ليتقاطع هذا التوصيف مع الثقافة الكتابية بما هو معروف بالسجع الذي سجّلته كتب البلاغة العربية، وجاء ذلك في العديد من العبارات منها ما ورد في معرض حديثه: (لا تكون كلمتنا من رأسنا إلاّ إذا كان قوتنا من فأسنا)
عبارة متّزنة تطرب لها الأذن العربية، وتكون بمثابة المرتكز التذكيري للخطاب الشفهي الذي يتّسم بالتفلّت من الذاكرة، فضلا عن كونها تعيد ما هو كائن في اللاشعور الوطني المستدعي لأيّام البطولات الملازمة لفترات الأزمات التي سطّرتها يد تاريخ النضال المصري، والتي أخذت - هذه العبارة - محلاّ من أطرها الزمنية.
- اقتباس :
تعتمد الشفهية في ممارساتها الخطابية على تفعيل وإشراك المتلقي في الحوار.
وفي معرض حديثه: (أنا لا أريد أن أَحْكُم بالإسلام...ولكنّي أريد أن أُحْكَم بالإسلام)
تلك العبارة تُعدّ في الخطاب الشفهي (نواة الحوار) التي عقبها آهات المستمعين لما حملته من اتزان سمعي قصد من ورائها الدفاع عن الإسلام ضدّ أيّة موجات عدائيّة، وتكون باعثة للوصول بالخطاب الشفهي الحجاجي مع المتلقّين - اتفاقا - للوصول إلى الحجّة التالية في السلّم الحجاجي، والممثّلة في قول الشيخ: (الإسلام أمين عليّ أن أُحكم له بأي واحد من أدنى الأرض)
عبارة تحمل في طياتها صدق ما جاء به الشيخ من أدلة وبراهين ترنو إلى التأكيد على سماحة الإسلام الوسطي، والحطّ من الإسلام المزيّف الذي اتسم بالتطرّف والعنف "الإسلاموفوبيا".
2- الخطاب الشفهي توقيفي لا تجريدي:
وهي الآلية التي لا تكاد تخلو من الخطاب الشفهي؛ لأنّها من الركائز الأساسية الفارقة بين ما هو شفهي ومكتوب، خاصة وأنّ الشفهية في ممارساتها الخطابية تعتمد على تفعيل وإشراك المتلقّي في الحوار. وهذه الآلية التي ازدحمت بها النصوص الشفهية للشيخ الشعراوي عامة كان القصدُ إشعار المستمع بأنّه المحور الذي يدور في فلكه الحوار والجدل الفكري، لإزالة كلّ العوائق الفكرية المتمركزة في ذاته – أي المتلقّي - بأنّه العنصر المهمّش في بيئته([11])، وهذا ما يرسخ في نفسه الشعور بالرضى من خلال هذا الخطاب والميل والتصديق لكلّ ما هو آت فيه. وقد اتخذ ذلك أنماطا عديدة في الممارسات الشفهية بيد أنّ (الكلمة) محلّ الدراسة جاءت بعنصر مهم من عناصرها يتّفق وثقافة المتلقّين من خلال طرح الأسئلة (التعجّبية، الإنكاريّة، المثبتة، المنفيّة)، والتي يسهل التكهّن بإجابتها؛ إقرارا بسير الخطاب وآلياته الحجاجيّة صوب هدف مرصود، وقد تجلّى ذلك في معرض حديثه:
(....من يقول عن مصر إنّها أمّة كافرة؟!)
(.....من المسلمون إذن، من المؤمنون؟!)
الصيغة الاستفهامية التعجّبية التي تلت الحجج المنطقية داخل السلّم الحجاجي في كلام الشيخ دفعت اللاشعور عند المتلقّي دفعا إلى الإجابة التي تقرّرت؛ استنادا على مخاطبة الفكر والوجدان في آن، إذ يبدو أنّ الخطاب الشفهي يبتدئ بالمخاصمة (النِزال الحجاجي)([12]) ثم التدرّج في السلّم الحجاجي الذي يعتمد على الأدلّة الفكريّة والروحيّة التي يخاطب من خلالها المتلقّي المقصود إلى أن يصل الخطاب إلى المرحلة النهائية التي يتمّ عندها الاتفاق بين طرفي الحوار على نتيجة واحدة أقرب ما يمكن توصيفها بأنّها مائلة إلى حوار غرامي ملهم([13]) قائم على التوافق والاتفاق بين طرفي الخطاب. ولعل هذا البيان يبرز ما هو كائن في علّة تثمين دعوات التيارات الجهادية نتيجة استقطابية، والتي لم تكن المرجعية فيها المنهجية العلمية الصحيحة، بقدر التحلّي بالآليّة الملائمة للفئة المستهدفة استقطابا وتوجيها، الأمر الذي بات محيّرا لأصحاب الفكر المنطقي والمستغرب للعلل والدوافع المسبّبة لهذا الانزياح البيّن من الشباب نحو هذه التيارات؛ متخلّية عن الفكر الذي بدا أمام عين العقل والتدبّر إنسانيّا على أقل تقدير وأدنى توصيف.
النتائج:
من خلال تحليل النموذجين الشفهيين (الجهادي والإصلاحي) وما تخلّلهما من بيان للآليات المشتملة عليهما؛ ربّما ينكشف الأمر ولو بالقليل عن أثر الخطاب الشفهي في عمليّتيْ الإقناع والإمتاع عامّة وفي الخطاب الدعوي خاصة، والتي تخلص فيها الدراسة إلى:
1- حتميّة التفريق بين الخطاب الدعوي الشفهي التوافقي مع المتلقّي بحسب الظرفية الزمنية والمكانية من جهة، والخطاب المكتوب الذي يعدّ تجريديّا أقل تفاعلا مع الفئات المقصودة بالاستمالة والإقناع حتى وإن بدا مسموعا من جهة أخرى.
2- أهمّية تفعيل الخطاب الدعوي الشفهي آلية تواصلية، بعد أن ظهر على السطح أنّ المحرّك في العمليّات الانتحارية من قِبَل الشباب لم يكن ناتجا من تراكم معرفيّ ودينيّ لديهم بقدر ما هو راسخ في اللاشعور بما هو منسجم من تعاليم الشيخ (الأمير) الملهم وبين ما هو كائن من تراكم ثقافي ومعرفي، والذي قد يتّخذ فيها الأمير - التثويري - آلية شفهيّة كما هو مشاهد ومعاين من خطبة أبي بكر البغدادي الذي اعتمد في خطبته على (الدلالة الهامشية) التي من خلالها يستدعي ما هو مخزون من تراث ديني في ضمير المتلقّي؛ يحاكي به حالته الزمنية والمكانية؛ ليكون مدخلا إقناعيا يستقطب من خلاله المريدين الذين وجدوا في أنفسهم نموذج التهميش والانزواء الاجتماعي، ليجد ضالّته في أصحاب الفكر الجهادي، حتّى وإن كان دوره ممثّلا في القتل والتذبيح.
ويبدو أنّ الخطاب الشفهي للبغدادي اعتمد على آليتي (الهيئة - الدلالة الهامشية) دون غيرها من الآليات الشفهية؛ لأنّ الخطاب يرجو حصد العديد من المريدين من جميع أنحاء العالم دون هويّة محدّدة.
3- يعدّ الخطاب الشفهي بما يحمله من آليات تخاطب اللاشعور الكائن في الضمير الإنساني الأولى والأجدر في التواصل مع المتلقّين؛ لما يحقّقه من نتائج ملموسة صوب الأهداف الإقناعية والإمتاعية، والتي تعدّ الأجدر بالتوجيه والإصلاح بحسب امتلاك المتكلّم للطاقة الفكرية المؤهّلة لهذا المقصد، الأمر الذي بدا واضحا من خلال كلمة الشيخ الشعراوي الذي عدّد من آلياته الشفهية فيها، فأمتع وأقنع وحقّق مآربه المرجوة من خلاله.
ويبدو أنّ الشيخ اعتمد في خطابه الشفهي على العديد من الآليات الشفهية، لأنّه رصد فئة بعينها عايشت زمانا ومكانا محدّديْن وتدور في فلك ثقافي واحد وإن تباينت فروقاتُها الفردية، إذ إنّ الثقافة الأمّ للفرد هي المحرّك للتوجّهات والميول مهما تراكمت عليها من ثقافات وافدة وروافد فكرية مستحدثة.