كان الشارع شبه مقفر. و كانت أضواء المصابيح الكهربائيّة الخافتة تضفي عليه جوّا رومنسيّا في ليلة شتاء بارد من شهر ديسمبر. أحسّ عمر بالصقيع يلفّه من كلّ جانب. فأوقف ياقة معطفه الصوفيّ الأسود الثقيل. و أعاد ربط كوفيته لتدفئة رقبته و لمنع الهواء القارس من الولوج إلى صدره. مرّ بالقرب من حانة موريس الّتي كانت تفوح منها رائحة الجعة القويّة المختلطة برائحة العرق المقرفة. اِلتفت. فرأى باب الحانة الّذي كان مغطّى بورق مزركش بألوان صارخة. و سمع أصواتا متداخلة و صخبا تتخلّله قهقهات عالية. واصل طريقه حتّى بلغ مفترق الطرق حيث محطّة الحافلات قرب شجرة السنديان العالية المترامية الأطراف. نظر إلى أغصانها. فرأى نقاط ضوء متلألئة ناصعة البياض كأنّها نجوم في السماء. اِنتابه شعور ملحّ بالتعب. تثاءب. و تمطّى. و وضع الحقيبة الصغيرة الّتي كان يحملها على الرصيف. كان يومه مرهقا. و كان من المفترض أن يعود من رحلته في اليوم الموالي. لكنّه وضع حدّا لمشاركته في ملتقى أطبّاء الأطفال الخامس. و قرّر الرجوع إلى بيته. لم يخبر زوجته بذلك عندما هاتفته مساء لتطمئنّ عليه. أخبرته باِشتياقها الكبير إليه. فقال لها أنّ توقه لرؤيتها أشدّ و أكبر. أمضى يومه يستمع إلى مداخلات الأطبّاء العديدة. أحسّ بملل خانق حتّى كادت عيناه لا تفارقان ساعته اليدويّة. مرّ الوقت ببطء قاتل. و كانت رغبته لمتابعة كلام المتحدّثين فاترة حتّى أنّه قد خيّل إليه أنّه قد غفا بعض الوقت.
لقد كان يمقت الاِنتظار. لذلك بقي يحملق في السيّارات القليلة الّتي كانت تجتاز الشارع بسرعة. كان يأمل أن يجد في أقرب فرصة سيّارة أجرة في تلك الساعة المتأخّرة من الليل. سمع مواء قطّ متقطّع. خطر بباله أن يكون لونه أسود و أن يكون جائعا. فاِستدار يبحث عنه. لم يره في البداية. ثمّ اتّضح له أنّ الهرّ قد كان داخل البناية المقابلة. كان لونه رماديّا. خرج فجأة من مكمنه. و عدا مبتعدا لا يلوي على شيء عندما رمى رجل ثمل قارورة نبيذ أرضا و ركلها بكلّ ما أوتي من قوّة و هو يضحك كالمعتوه ثمّ أسند ظهره إلى الحائط و عيناه شبه مغلقتين مدندنا. اِلتفت عمر يمنة و يسرة. فأبصر اِمرأة ممشوقة القوام ترتدي ملابس نوم حريريّة سوداء برّاقة و تنتعل شبشبا. كانت تقارب الخطى ملتفتة إلى الخلف بين الفينة و الأخرى كأنّها كانت فارّة من أحد ما يلاحقها. كانت عيناها محمرّتان تدلّان على أنّ صاحبتهما قد كانت تبكي بحرقة. كانت يداها ترتعشان. و كان وجهها مصفرّا. بقي يتأمّل ملامحه المتناسقة الفاتنة. لم تكن تبادله النظرات حينما توقّفت فجأة على مقربة منه. بقيت تفرك يديها و تنفخ فيهما. ثمّ وضعتهما تحت إبطيها كأنّها تحضن نفسها بقوّة. ألقى نظرة على السكران الّذي توقّف عن الغناء. و بقي يدقّق النظر جاهدا في المرأة الّتي اِستدارت ناحيته فاِنتبهت إلى وجوده. اِبتسم لها كاشفا عن أسنان صفراء قد سقط بعضها. و عضّ شفته السفلى. أشاحت بوجهها عنه بسرعة مشمئزّة و كأنّ التيّار الكهربائيّ قد صعقها. بقيت ترتجف من شدّة البرد. ثمّ ألقت على عمر نظرة فاحصة مستجدية معونته إذ كانت تتوجّس خيفة من المخمور. فاِقترب منها. و ألقى عليها التحيّة. و قال: “كيف يمكنني مساعدتك؟”. فقالت: “أريد أن أستقلّ تاكسي.”. فأجابها قائلا: “و أين ستذهبين؟”. فقالت: “أنا ذاهبة إلى الكورنيش.”. دهش. و قال: “في هذه الساعة المتأخّرة من الليل!”. فسكتت. و لم تحر جوابا. فأضاف قائلا: “قرّي عينا. فطريقنا واحد.”. فتملّكها شعور مفاجئ بالراحة. و خيّل له أنّه ينصت لدقّات قلبها المتسارعة و إلى أنفاسها المتسابقة اللاهثة.
مرّت بضع دقائق قبل أن يبصرا قدوم سيّارة أجرة. فرفع يده عاليا مستوقفا سائقها الّذي ركنها على مقربة منهما. فتح عمر الباب الخلفيّ للسيّارة. و طلب من السيّدة التفضّل بالجلوس. ثمّ أخذ مكانه بجوار السائق. و وضع حقيبته على فخذيه. و قال له: “نقصد بنايات بلوسكاي بجانب الكورنيش. فأجابه مخاطبه قائلا: “حسنا. توكّلنا على الله.” ثمّ اِستدار إلى اليسار ينظر إلى المعكاس منتظرا مرور سيّارة البيجو الحمراء. ثمّ داس على المسرّع. فاِنطلقت سيّارته تجوب الشوارع. اِستدار عمر إلى الخلف. لم يكن بإمكانه رؤية المرأة الّتي كانت جالسة وراءه. و كلّمها قائلا: “أنا اِسمي عمر ياسين طبيب أطفال بمستشفى صحّتنا الاِستثماريّ.”. كان يتوقّع أن تجيبه. لكنّها لاذت بالصمت. بينما قال السائق: “لا يمكنك يا دكتور أن تتخيّل قدر المعاناة الّتي يعيشها سكّان هذا البلد بسبب غلاء أسعار الكشف الطبّي. إنّ الأطبّاء في هذه الأيّام لا يراعون الوضع الاِجتماعيّ لمرضاهم. و لا يهمّهم إلّا كسب المال. كما أنّ منظومة اِسترجاع المصاريف الخاصّة بصندوق الضمان الاِجتماعي تشتكي من عديد النقائص. و تستلزم الكثير من الوقت. نحن في الحقيقة نعيش في زمن المهازل. فأغلب الأطبّاء طمّاعون. و لا يتوانون عن مصّ دماء الناس لتزيد ثرواتهم. كما أنّ الكثير من الموظّفين مرتشون أو خاملون متواكلون. لذلك يبقى العديد من المرضى بين المطرقة و السندان.”. اِستمع الدكتور إلى محادثه باِنتباه. و لم يكن يرغب في مجاراته في الحوار. كان باله مشغولا بالسيّدة الجالسة خلفه. كانت العديد من الأسئلة الملحّة مطروحة في عقله. ما الّذي دفع سيّدة جميلة إلى الخروج في تلك الساعة المتأخّرة ليلا مرتدية ملابس نوم و تنتعل شبشبا؟ لماذا تقصد الكورنيش في هذا الوقت؟ هل أنّ شخصا ما باِنتظارها؟ و ما يمكن لهما أن يفعلا؟ و عن ماذا سيتحدّثان؟. لم يقطع سيل الأسئلة الّذي اِنهمر عليه إلّا سماعه لصوت المرأة المتهدّج الرقيق يخاطب السائق قائلا: “يمكنك التوقّف هنا من فضلك.”. اِستدار يمنة و يسرة. كان المكان خاليا موحشا. فمقاعد الكورنيش قد هجرها الزائرون. توقّفت سيّارة الأجرة. و دسّت السيّدة قطعة نقديّة في يد السائق الّذي شكرها و أرجع لها الباقي. كان عمر يرغب في ثنيها عن دفع الأجرة للسائق. لكن حدث ما حدث بسرعة دون أن يتسنّى له فعل ذلك. خرجت من السيّارة على عجل. بقي ينظر إليها من خلال المعكاس و هي تهرول مبتعدة. خطرت بباله فكرة مجنونة. ما الّذي يمنعه من اللحاق بها لإيجاد أجوبة لكمّ الأسئلة الهائل الّذي كان يؤرقه خصوصا أنّ منزله يقع على مقربة من هذا المكان؟ نظر إلى السائق يتمعّنه و كأنّه يراه لأوّل مرّة. كان كهلا في الخمسين من عمره. يبدو على ملامحه الحزم. و كان في جبينه شامة داكنة تلفت الأنظار. كانت يداه الممسكة بالمقود ترتعشان. كان يرتدي سترة سوداء مهترئة و برنيطة بنيّة. قال له بلهجة آمرة: “توقّف الآن حالا.”. فأجابه متبرّما قائلا: “كان بإمكانك أن تنزل حيث نزلت السيّدة.”. لم يأبه عمر لكلام السائق. و سأله: “كم تريد من المال؟”. فردّ عليه مخاطبه قائلا: “لست ملزما بدفع المزيد من النقود.”. فقال: “طاب مساءك.”. و خرج مستعجلا. و ركض يطوي رصيف الكورنيش طيّا حتّى أبصر شبح المرأة على الشاطئ تتقدّم نحو البحر. رأى الأمواج المتلاطمة تبتلعها و هي مستسلمة لها. سمعها تصيح. ألقى حقيبته و معطفه أرضا. و عدا باِتّجاهها. و سبح يبتغي إنقاذها. أمسك بخصرها. و حاول أن يدفعها في الاِتّجاه المعاكس للتيّار بينما كانت هي تحاول الإفلات منه. لكنّه حضنها بقوّة ساعيا لشلّ حركتها و إخراجها إلى الشاطئ. نجح في محاولته. و ألقى بها على الرمل بينما كانت هي تصيح قائلة: “ما الّذي يدفعك أن تنقذني. أنا أحبّ أن أموت. أرجوك أن تتركني أموت.”. فقال لها: “لا ترجوني. فأنا لا يمكنني أن أدعك تنتحرين.”. ثمّ أضاف قائلا: “لماذا هانت عليك حياتك حتّى قرّرت أن تضع لها حدّا على هذا النحو البائس.”. اِنفجرت باكية منهارة و فرائصها ترتعد. حاول أن يخفّف عنها. و أخبرها أنّ قتل النفس خطيئة لا تغتفر و ليس بالإمكان بأيّ حال من الأحوال إيجاد مبرّرات لها. و سألها عن الدوافع الّتي قادتها إلى مثل هذا الفعل الشائن. هدأت بعض الشيء. و أجابته قائلة: “سأروي لك قصّتي. أنا اِسمي لبنى. أنا اِمرأة متزوّجة. و لي اِبنان يحيى الّذي يبلغ من العمر سبع سنوات و حياة البالغة من العمر ثلاث سنوات. تعرّفت على زوجي محسن في الجامعة. كان يكبرني بسنتين. كنّا نتبادل الاِعجاب دون أن يعلم أحدنا بما يكنّه الآخر له من ودّ. كان كلّ شيء فيه يلفت نظري. عيناه المتّقدتين الّتي كنت أرى فيهما زرقة السماء الشاسعة الهادئة. و صدره العريض الّذي كنت أعتقد أنّه يتّسع للدنيا و ما فيها. و قد كنت أرجو أن يمنحني الحنان و الدفء و الأمان. و ظلّه الطويل الوارف الّذي كان يهبني الراحة و الأمل. لم أكن أعلم أنّه قد كان يهتمّ بي قبل أن يفاتحني يوما ما في ذلك. أخبرني أنّه قد كان يفكّر فيّا طيلة الوقت في صحوه و منامه. و قال لي أنّه قد كان يتصيّد الفرص لرؤيتي مستجمعا شجاعته لكي يحدّثني. لكنّ محاولاته السابقة للكلام معي قد باءت بالفشل ذلك أنّ حياءه من جهة قد كان يمنعه من فعل ذلك كما قد كان يخشى من جهة أخرى صدّي له و اِنشغالي بغيره. حاولت أن أطمئنه قائلة له أنّه لا يوجد في حياتي رجل أحبّه. و طلبت منه أن يمنحني وقتا للتفكير. و وعدته أن أجيبه بعد أسبوع. كانت فرحتي ذلك اليوم جمّة لا توصف حتّى أنّني أذكر أنّ الأرق لم يفارقني ليلتها أمنّي النفس بالهناء و رغد العيش الّذي ينتظرني مع حبيبي و قرّة عيني. مرّت أيّام الأسبوع و أنا أتأرجح بين غبطة العاشقة و لهفة المنتظرة للقاء الّذي كان رائعا بكلّ ما في هذه الكلمة من معنى. تتالت لقاءاتنا بعد ذلك. و توطّدت علاقتنا مع مرور السنوات. أكمل محسن دراسته. و وجد عملا كمحاسب في شركة مواد غذائيّة. تقدّم إلى خطبتي. فوافق والديّ بناء على رغبتي. و بقينا مخطوبين حتّى تحصّلت على شهادتي الجامعيّة. ثمّ تزوّجنا. كانت حياتنا بادئ الأمر هنيئة سعيدة. كان محسن يجتهد في إرضائي بالهدايا و بكلامه المعسول. لم يفتر الزواج حبّنا. بل أعطاه وهجا و بريقا جديدا. رزقنا باِبننا يحيى. فسررت أنا و زوجي بمولودنا الأوّل. و سعى زوجي إلى توفير كلّ حاجيات اِبننا حتّى أنّه اُضطرّ إلى العمل ساعات إضافيّة حتّى يتسنّى له شراء كلّ لوازم البيت. كان شعوره بالمسؤوليّة و تحمّله لأعباء الحياة دافعا لي حتّى أسعده و أقوم برعاية اِبننا و الاِعتناء بشؤون منزلنا. أطلّت بعد أربع سنوات على الدنيا اِبنتنا حياة. و جلبت معها الفرح و البهجة و السعد. إذ تحسّن دخل أبيها إثر بضعة أشهر من ميلادها. كانت ضحوكة. و كان وجهها متّشحا بالنور. كانت أناملها الرقيقة تداعب يد من يلامسها. و كان والدها متلهّفا لرؤيتها. كان كلّما يعود إلى البيت يزهد في كلّ شيء ما عدا اللعب معها و إرضائها. حتّى أنّ أخاها يحيى كان يغار منها. إذ كان ينتظر محسن بفارغ الصبر راجيا أن يوليه بعض اِهتمامه. كان كلّما سألته: “هل تحبّ أختك الصغيرة؟” يطأطئ رأسه و يحرّك يديه باِنفعال غاضبا ثمّ ينكش شعره بيده اليمنى و يجيبني ثائرا قائلا: “لا يا أمّي. فكلاكما أنت و أبي تحبّانها أكثر منّي.”. كنت أحاول تهدئة روعه و إقناعه بأنّنا نحبّه كثيرا و أنّ مكانه في القلب محفوظ. أخبرت والده بضرورة أن يعتني بيحيى و أن يعطيه ما يستحقّه من الوقت و الحنان. فأغرق في الضحك. و طمأنني قائلا: “لا تشغلي بالك. أنا بالفعل مقصّر في العناية باِبننا. و سأعوّضه عن ذلك في قادم الأيّام.”. و اِلتزم محسن بوعده لي. مرّت الأعوام بسرعة. كانت حياتي بمثابة الحلم الّذي كان يتحقّق. كنت أعيش في بيتي الصغير مع حبيبي و اِبنيّ العزيزين يجمعنا الودّ و الرضا إلى أن حلّ ذلك اليوم المشؤوم و حدث ما نغّص علينا فرحتنا. إذ أفلست الشركة الّتي كان يشتغل فيها محسن. و وجد نفسه بين يوم و ليلة عاطلا عن العمل. فتغيّرت معاملته لي. أصبح يوبّخني طيلة الوقت. و كثرت مشاجراتنا على أتفه الأسباب. كان عصبيّا إلى درجة لا تطاق. و أصبح يضربني تقريبا كلّ يوم. كنت حينما يشتدّ إيذاءه لي أصطحب ولديّ و نذهب إلى منزل أبويّ الّذي عدنا منه مساء اليوم. فلم أجد زوجي بالبيت. و لمّا عاد ليلا كانت بصحبته اِمرأة. رأيته يعانقها و يتبادلان القبلات. جنّ جنوني. و حاولت ضربهما بكلتا يديّ. فصفعني محسن. و دفعني بقوّة. فسقطت. و شتمني. و هدّدني بالطلاق. فغادرت شقّتي. اِسودّت الدنيا في عينيّ. كانت صدمتي كبيرة. أحسست باليأس و الوجع و المهانة. كرهته. و كرهت حياتي. و اِشمئززت منه و من نفسي. و نقمت على الأقدار الّتي اِختارت لي هذا المصير الظالم المظلم. فقرّرت أن أنتحر و أنهي معاناتي بيدي.”.
بقي عمر ينظر إلى لبنى الّتي سالت الدموع من عينيها بغزارة. أمسك بيدها اليسرى محاولا أن يواسيها. أحسّ أنّها بحاجة ملحّة إلى البكاء. ففضّل الصمت. كان يعتقد أنّ النواح هو ملاذها الأخير. و هو بلسم لجروحها و مسكّن للألم الّذي سبّبته لها الخيانة الزوجيّة. أحسّ بمعاناتها. و تفهّم وجعها و الأذى الكبير الّذي أصابها. و اِنتظر حتّى توقّفت عن النحيب. ثمّ قال: “لماذا لم تفكّري في اِبنيك حياة و يحيى؟ هما بحاجة ماسّة إليك و بالخصوص الآن. لا يمكنك التخلّي عنهما. فأنت أمّهما و ملاذهما الأخير.”. اِلتفت لبنى إليه و كأنّه قد أخبرها بما لم تكن تتوقّعه و ما لم تحسب له حسابا. و رفعت رأسها إلى السماء و كأنّها تريد أن ترى وجهي اِبنيها فيها. اِبتسمت. و قالت: “هما أطهر و أجمل ما في الدنيا.”. فقال لها عمر: “ألا يستحقّان منك إذن التضحية للذود عنهما. فهما الأمل. و هما المعنى الحقيقيّ لوجودك الّذي يجب عليك التمسّك به حتّى تلملمي جراحك و تتجاوزي محنتك. يكفي أن تسهري على تربيتهما لتسعدي برؤيتهما يكبران في حضنك يوما بعد يوم. هما نعمة لا يمكنك التفريط فيها. فتعقّلي. و ألغي من بالك فكرة الاِنتحار.”. بدا على لبنى الاِقتناع بما قاله لها. فأومأت إليه برأسها موافقة. و شكرته. نصحها بالعودة إلى بيتها حتّى تطمئنّ على طفليها. تردّدت. كانت تخشى أن تواجه من جديد خيانة زوجها لها. لكنّها أذعنت آخر الأمر لطلب عمر الّذي رافقها و ساعدها على أن تستوقف سيّارة أجرة. سألها: “هل أنت محتاجة للنقود؟”. فتورّدت وجنتاها حرجا. أعطاها ورقة نقديّة راجيا منها أن تقبل مساعدته. فأخذتها على مضض. و ودّعته.
كان فخورا بما حقّقه تلك الليلة. لقد نجح في ثني تلك المرأة الّتي قابلها مصادفة عن التفكير في الاِنتحار. لم يكترث بالهواء البارد الّذي كان يلفح وجهه و جسده المبلّل. بقي يتأمّل الأضواء الملوّنة المنبعثة من الشقق في البنايات الّتي كانت على يساره. و خطرت بباله أسئلة عديدة. ماذا تخبّئ هذه البيوت من أسرار؟ هل أنّ سكّانها سعداء أم تعساء؟ كانت خطواته مفعمة بالثقة. لكنّ اِحساسا دفينا بالخوف من المجهول تملّكه و أقلقه.
وصل إلى البناية الّتي كان يقطن فيها. اِستقلّ المصعد لبلوغ الطابق الثالث حيث توجد شقّته. أدخل المفتاح في القفل بهدوء. و أداره. فأحدث صوتا لا يكاد يسمع. كان ينوي مفاجأة زوجته بعودته. كان منزله مظلما. أسرّ في نفسه قائلا: “لا بدّ أنّها قد ذهبت للنوم. فالوقت متأخّر. و هي ليست متعوّدة على السهر كثيرا.”. سار في الردهة الّتي توصله إلى غرفة النوم. و رأى خطّا من النور تحت بابها. فأيقن أنّ زوجته لا تزال مستيقظة. فرح. و لمّا فتح الباب. رآها تنتفض و هي بين أحضان رجل عاري الصدر قمحيّ اللون مفتول العضلات. أصاب عمر الذهول للحظات. اِستدار غريمه و زوجته باِتّجاهه مصعوقين. صرخت قائلة: “وا فضيحتاه.”. أزاح الرجل عنه الغطاء. صاح عمر قائلا: “سأنتقم منكما يا أيّتها العاهرة و يا أيّها اللعين القذر.”. و وثب كالسبع المفترس الجريح على الرجل الّذي قفز بخفّة و اِستوى واقفا. و حاول لكمه بكلّ ما أوتي من قوّة. تفادى غريمه اللكمة. و دفعه نحو الحائط. فاِصطدم به بعنف. ثمّ أسقطه أرضا. و أشبعه ركلا و صفعا. ثمّ ضربه بالأباجورة على رأسه. أحسّ عمر بالدوّار. ثقل جسده و اِسترخى. و تناهى إلى سمعه صوت الرجل متأرجحا بين القوّة و الضعف يقول لزوجته: “غيّري ملابسك. و غادري معي المنزل.”. و أغمي عليه.
لم يسترجع وعيه إلّا بعد ساعات. فتح عينيه الّذين جهرهما نور الشمس الساطع. حاول النهوض. فأحسّ بألم حادّ في ذراعه الأيمن. شعر بأنّه مهدود محبط. لم يقو على المشي. فألقى بنفسه على الفراش. كان الصداع يعتصر رأسه. داعب الكرى جفونه. فاِستسلم له. رأى في منامه أنّه مقيّد إلى شجرة تقتات الطيور من خبز على رأسه. ثمّ أبصر خلقا كثيرا نساء و رجالا متحلّقين حوله يسبّونه و يرجمونه. و قد كان بينهم زوجته و عشيقها يفعلان ما يفعل الناس ضاحكين مستهزئين شامتين به. فاِستيقظ فزعا. سمع أمعاءه تعوي ككلاب ضالّة. حاول أن يستجمع قواه. كانت الآلام المبرّحة الّتي ألمّت به قد بدأت تخفّ. ألقى نظرة على ساعته اليدويّة. كانت الساعة تشير إلى الرابعة مساء. تحامل في مشيه قاصدا المطبخ. فتح الثلّاجة. تمعّن النظر في ما تحويه يبحث عن ما يمكنه أن يأكل. سلق البيض. و فتح علبة التونة. أكل بصعوبة و مرارة. كان مكتئبا. و كانت الأوجاع تلتهم فكّه الأسفل. عاد إلى فراشه. و أغمض عينيه. لم يبرح مخيّلته مشهد الخيانة الكريه. اِختلطت صوره في ذهنه بحرقة الغضب و الحقد. و تملّكه إحساس جارف بالعجز. حلم ليلتها بأنّ أمامه طبقا كبيرا جدّا فيه لحم نيء يلتهمه الدود. كان يأكل منه بشراهة عجيبة بينما كان يتصبّب العرق من جبينه. كان مشمئزّا. و شعر بالغثيان. لكنّه لم ينقطع عن الأكل. بل اِنبرت يداه في حركة محمومة تحشران اللقمات في فمه حشرا. أراد أن يلفظها. فلم يستطع. و اِختنق. اِستفاق لاهثا بينما كانت يده اليسرى تمسك برقبته. و اِبتلع ريقه بصعوبة. اِستدار يمنة و يسرة. سمع طرقا قويّا مسترسلا على باب البيت. فاِرتعدت فرائصه. فتح الباب. رأى شرطيان. قال له أحدهما: “أنت عمر ياسين؟”. فأجابه قائلا: “نعم أنا الدكتور عمر ياسين.”. فقال الشرطيّ: “مطلوب القبض عليك. سنقتادك الآن إلى مركز الشرطة.”.
مثل عمر أمام المحقّق. كان رجلا في الأربعين من عمره. كان يدخّن سيجارة بشراهة. كانت نظراته ثاقبة. و كان يمسك بقلم حبر جافّ. سأله: “هل تعرف اِمرأة اِسمها لبنى توفيق؟”. فأجابه قائلا: “لا.”. فألقى أمامه صورة لها. و أضاف قائلا: “هذه المرأة قد اُغتصبت بوحشيّة و ذبحت ليلة أوّل أمس. و قد شهد سائق التاكسي الّذي أقلّكما من شارع الأنوار إلى الكورنيش بأنّك كنت برفقتها قبل ساعتين من وقوع الجريمة.”. زمّ عمر شفتيه دهشة. و أحسّ بالحزن و الأسى لمّا علم بمقتل لبنى. و قال: “هذا صحيح. لكنّي لست أنا الفاعل. كانت تلك المرأة تنوي الاِنتحار غرقا. و قد أنقذتها.”. ضرب المحقّق المكتب بقبضة يده قائلا : “ألديك دليل أنّك بريء من التهمة الموجّهة إليك؟”.
ـ نعم فالمجني عليها قد اِمتطت سيّارة أجرة أخرى بعد ذلك.
ـ هل تعرف رقمها؟
ـ أنا في الحقيقة لا أتذكّره. لكن يتوجّب عليكم التثبّت من صحّة أقوالي.
قال المحقّق بلهجة عصبيّة متبرّما: “أين كنت زمن وقوع الجريمة؟”.
ـ كنت بالبيت.
ـ ألديك شهود؟
بدا على عمر الاِضطراب. و لم يحر جوابا. فقرّر المحقّق حبسه. أدخل إلى الزنزانة. كان المكان معتما ما عدا كوّة تنبعث منها خيوط متوازية من الضوء تستثير الغبار. اِنتابه شعور بالإخفاق و الهزيمة. حبست أنفاسه. أحسّ بأنّه عديم الفائدة تافه لا يكاد يرى. سمع ضحكات زوجته المستفزّة الخليعة. رآها تقبّل ذلك الرجل البغيض. ثمّ تهمس إلى عشيقها بأنّها تحبّه. حاصرته الأشباح من كلّ حدب و صوب تتّهمه باِغتصاب لبنى و ذبحها. حاول الصراخ. فخيّل له أنّ صوته قد سقط في بئر عميق لا قاع له. اِستحوذت على عقله فكرة. و سيطرت عليه. فعزم على تنفيذها. اِعتلى المقعد الّذي كان بجانب الحائط حيث النافذة الصغيرة. و عقد طرف رباط عنقه في أحد قضبان الشبّاك. أسقط المقعد. وتدلّى حتّى اِنسلّت روحه.