من يدخل إلى مدن الإسلام اليوم يجد النموذج الإسلامي الاجتماعي والأخلاقي صارخا ومثيرا للاشمئزاز؛ في المعمار الإسمنتي المتكلس الذي تعلوه طبقات التلوث البيئي، كتل صفيحية زحفت حتى إلى مراكز المدينة ومدارها الحضري، بدونة الشوارع بعربات الكارو تجرها البغال الضامرة تلقي روثها في طرق السابلة، اكتساح اللافتات الإسلامية لواجهات المحلات، تنامي عمليات الإجهاض وترقيع غشاء البكارة في مجتمع مغلق تمارس فيه الأعمال الجنسية فوق السطوح وفِي مرائب السيارات وتحت القناطر خوفا من عين الرقيب، وعناصر المجتمع الإسلامي المترصدة، جامعات تغولت فيها شبيبة التيارات الدينية وطردت منها الفلسفة والعلوم الإنسانية والطبيعية الحديثة، واستبدلت النظريات العلمية بتزييفات علوم الشريعة وتلفيقات إعجاز القرآن ، واختلاط مظاهر الحداثة والتقنية المجردة مع أسلوب الحياة الوسيط يستدعي إلى النظر نشازا مزعجا.
الأزبال تتكدس حتى في وسط الطرقات المأهولة والمجازات المزدحمة، الشارع العام يكاد يخلو من العنصر النسائي الذي فرضت عليه إقامة جبرية في البيوت، غابت فنون الأناقة والاعتناء بالمظهر واللباس وأخذت مكانها العبايات الوهابية السوداء بالتفصيل والتصميم السلفي “الألباني” الفضفاض، والجلابيب الرجالية السعودية البيضاء الخالية من أي تعبير أو طرز أو تفصيل، كأن الدنيا في مأتم بين سواد النائحات وبياض الأكفان الشاحبة، ومسخت الموسيقى وفنونها إنشادا دينيا ركيكا يعتمد المؤثرات الصوتية الرتيبة بإيقاعات جنائزية كئيبة، أصبح الحجاب زيا طائفيا ورمزا لإعلان السيطرة والتمكن، وترهلت الأجساد المحشورة في الأثواب الآسيوية الصنع.
دور السينما هالَ عليها تراب السنين وأصابت العدوى الدينية جل الإنتاج السينمائي العربي، واستفحل التاريخ الأسود المستخرج من صحائف الإحن و الحروب الطائفية الدامية معروضا في أحدث تقنيات الصورة والإخراج الدرامي بملايين الدولارات؛ عمر وعلي ومعاوية أبطال التاريخ أضحوا نجوم السينما أيضا، وكما يثيرون الجدل والكراهية والموت في كتب التاريخ وفِي الواقع المعاش يثيرونها مجددا على شاشات العرض.
وأصبحت ظاهرة اعتزال الفنانات تزري على الفن وتصمه بماخور العهر و النجاسات، تعتزل الممثلة وتلبس الخودة كما تتوب المومس فتعود إلى عفتها، النحت من أعمال الوثنيين، الرسم تشبه بالخالق، و المكتبات أصبحت كتاتيب دعوية لتصدير الجهل المقدس لا تنقطع عنها الإصدارات تلو الإصدارات لدور النشر الوهابية، فُقدت روح المبادرة و الفردانية والتعددية والشخصية المبدعة، وتكرست قوالب التكرار، والجماهير المعلبة في الأنماط والأفكار الأحادية الموحدة، يقفزون إليك بإعلاناتهم الدعوية في صفحات التواصل وعلى تطبيقات المراسلة وفِي تبريكات الأعياد والمناسبات.
ورغم أن القانون في بعض الدول العربية الذي وضع في الحقبة الليبرالية أوائل القرن الماضي لا زالت بعض فصوله محصنة ضد الشريعة القديمة؛ فإن المجتمع الذي تحكمه التيارات الدينية يقيم شرعته بنفسه، يتولى عناصره المتمردة بالهجر والتقريع، يتحرش بالسافرات ويمارس قهرا نفسيا على المختلفين مع السائد من العادات والأعراف الاجتماعية، ويعتمد أسلوب التكاثر الأيديولوجي الطائفي كمغالبة ديموغرافية للأقلية القبطية(مصر مثلا) وزيادة الحصيص الحركي الإسلاموي، بلغ سكان مصر هذا العام 99 مليونا يتكدسون معظمهم في القاهرة ومدن الدلتا حتى ضاقت عليهم فسكنوا المقابر، كل ذلك لأن الحديث يقول “تكاثروا فإنني مباه بكم الأمم يوم القيامة”، ويقول “تزوجوا الولود الودود”.
أوحال وأوحال ساخت أقدامنا فيها وارتبكنا في حبالها فلا خلاص قريب، إننا نعض على شفاهنا ونتألم ونتقزز ونبصق السخط في كل مكان.. اللعنة على هكذا محل..واللعنة على المدخل والمخرج..واللعنة على المشيئة و الأقدار وعلى الصدف التافهة، فأين المفر يا إخوان الصفا وخلان الوفا؟
أقولها وقد وجدت نفسي أمسك بالقلم وأستل به ما في صدري من عجز مكدس و يأس ثقيل مارسني ممارسة شديدة وشعور مترف بهموم الحاضر وأسئلة المستقبل.
أقولها وقلبي يملأه الكمد لأن مصيرًا آخر مختلفا تماما كان ممكنا، لكن تظافرا عجيبا مغريا بالتأمل السوريالي -يكاد يكون معجزا- لمجموعة من العوامل طيلة المائة عام جعل في طريقنا هذه الصدف بالذات: ظهور البترول في الأرض القاحلة التي صادف أن يحكمها طائفة من أشد نحل الإسلام تشددا، و تعاون بين بيت آل سعود مع حركة الإخوان الوليدة، قيام إسرائيل وصادفها الموروث الإسلامي وموقفه من اليهود في القرآن، هزيمة سبعة وستين بعد إعدام سيد قطب وسجن الإخوان، يأتي السادات فيخرجهم من السجون فينتصر الجيش في ثلاثة وسبعين ويصرّح الشعراوي الذي حمد الله على الهزيمة الأولى للدولة الناصرية العلمانية؛ أن الملائكة كانت تحارب مع الجيش المصري الذي عاد إلى الدين وكان سلاحه “باسم الله الله أكبر” فنصره الله في معركته الثانية، الثورة الإسلامية الإيرانية تحيي آمالا عريضة، فتتناسل حركات الإسلام السياسي على امتداد الرقعة العربية، ثم يلمع نجم قطر والجزيرة وينعقد حلف الغاز مع حلف التيار الديني ثم تنظم إليهما تركيا العائدة إلى عثمانيتها المتحفظة على علمانيتها بكل ثقلها السياسي والإعلامي والعسكري.
إنها صدف تجعل الهرّ أسدا، وتتحول بها أبخس الأفكار إلى أم الأفكار وأكثرها رواجا، وأهون المشايخ و الدعاة إلى فلاسفة ومنظرين وصناع قرار، وأعجز العقول إلى عقول جبارة.
وإذا عكسنا المسألة ماذا يكون؟ لو لم يظهر النفط في الأرض القاحلة لو لم يولد حسن البنّا لو لم تقم دولة إسرائيل لو لم تكن هزيمة سبعة وستين ولم يتول السادات رئاسة الجمهورية ولم ينتصر الجيش المصري في ثلاثة وسبعين ولم يطلق سراح الإسلاميين ولم تقم الثورة الإيرانية ولم تتحالف قطر مع التيار الديني ولم تتجه تركيا إلى العثمانية بل ماذا لو لم يظهر الإسلام في الجزيرة العربية ولم نكن خير أمة أخرجت للناس؟! على أي نحلة كنّا سنكون وعلى أي دين؟ وكيف كان سيكون شكل المجتمع وأسلوب حياته وطرائق تفكيره وهويته؟كيف كانت ستكون مدننا وصناعاتنا وعلاقتنا بالعالم؟كيف كان سيكون حال المرأة؟هل كان قدرنا البئيس سيكون أسوء مما عليه اليوم؟
هل كنّا سنعرف جحافل الاستشهاديين؟ هل كان القرضاوي سيكون رجل دين يلبس العمامة ويتصدر في الجزيرة أم بائع ترمس على شاطئ الإسكندرية؟ والإسلاميون؛ ماذا كانت تكون وظائفهم في الحياة بدون المتاجرة في الدين؟ يساريين ليبراليين؟ قساوسة ورهبانا عاكفين في أديرتهم؟سوريانيين أم يهود أم بوذيين أم ملحدين؟ هل كنّا سنرى العبايات السود والجلاليب البيض؟ يمكن للخيال الذهاب إلى أبعد من هذه الأسئلة في محاورة الأقدار والصدف لنرد على الغزالي بأنه كان في الإمكان أحسن مما كان.