في البدء كانت الغرائز، كدافع فطري وكآلية ضامنة لاستمرار الحياة. ثم كان بين الكائنات؛ كائن، قد وجد في ذاته الإمكانية والضرورة لكي يتميز ويسمو، فكان الإنسان، أو أنه اكتشف ذاته، واكتشف في تلك الذات جوهراً “مفترضاً” ما، وذلك عندما أراد أن يتسامى على الغرائز، وأن لا يقتصر هدف وجوده على العيش من أجلها.
فبعد أن أرسى أسباب بقائه من خلال العيش في كنف الجماعة والانتماء إليها، راح يشذب غرائزه وينظم سلوكه وأساليب وجوده ضمن تلك الجماعة، ثم أثمر اللقاء؛ فكانت القيود والحدود، وكانت الأديان والشرائع والفلسفات والفنون. ولكنه كان كلما ارتقى بما يكفي، حمل ما ارتقى به، وصبّه ثانية في منبع الغرائز، وكأنما كل ما سعى له للتميز والسمو، كان أصلا، نوع من السعي نحو البقاء، عبر تعزيز تلك الغرائز وإشباعها، ولو بطرق أكثر تهذيباً وتحضراً. ولتبقى تلك الغرائز هي “ختم المصنع” الأكثر أصالة، الذي لا يصدأ ولا يندثر ولا يبلى، ما دام هو ضامن استمرار وجودنا. ولكن المحنة بأنه يبقى الأكثر رسوخاً وتأصلاً وتجذراً من كل ما لصق به من دين وفلسفات وأخلاق.
إنه لمن المفترض، بأن في إنسانيتنا من الأصالة ما يكفي، لكي نكون أنبل الكائنات وأكثرها عقلانية وتكاتفا وتناغما فيما بيننا، ما دمنا نتميز بنعمة العقل “كجوهر فريد” يميزنا عما سوانا من الكائنات. ولكن ما شهدناه عبر التاريخ وما نشهده في تاريخنا المعاصر، من همجية الإنسان تجاه أخيه الإنسان وتجاه باقي الكائنات، يجعل بعض الأسئلة الفلسفية القديمة تعيد طرح نفسها بشكل مُلح ومتكرر، وربما أكثر من أي وقت مضى:
هل الإنسانيّة أمر أصيل فينا؟ أم أنّها مجرّد قناع؟
وهل هناك حقا جوهر فريد يميزنا عن باقي الكائنات؟ أم أنّ الفرق ما بيننا وبينهم هو بالدرجة أو الرتبة فحسب، وليس بالجوهر!
إن الإنسانية في الحقيقة “قد” تكون أصيلة لدى القلة من البشر، ولكنها ليست أصيلة بذاتها. ذلك أن الإنسانية حالة مُفتَعلة، مُبتَكرة، مُكتَسبة، وسيبقى ينقصها الانتماء الحقيقي والهوية الراسخة.
قد يقول قائل: ولكن الإنسان لا يلد إلا إنسانا، وهو يوَّرث لنسله شكله وصفاته أو حتى طباعه وميوله، وهذا هو حال جميع الأنواع. فكيف للإنسانية أن تكون مُكتسَبة وليست موروثة بالفطرة؟
فلنحاول الإجابة على ذلك من خلال تخيلنا بأننا قد أخذنا مجموعة أطفال من أعراق مختلفة، كانوا قد ولدوا للتو، ووضعناهم في غابة مع قطعان الحيوانات. ثم أوجدنا لهؤلاء الأطفال ظروفا مثالية افتراضية، تمكنهم من البقاء والنمو في الغابة وسط الحيوانات، دون أن تتاح لهم أي فرصة للاتصال بالبشر. فإن هؤلاء الأطفال سوف يكتسبون من الحيوانات الكثير من سلوكهم، دون أن يكون لهم أي مسلك إنساني حقيقي، يتشابه مع سلوك البشر. وعلى الرغم من أنه سيكون لديهم حنين كامن في أعماقهم لأصلهم البشري، ولنمط الحياة التي كان ينتهجها آباؤهم. وعلى الرغم من أنهم سوف يمتازون كذلك عن باقي الحيوانات، بأن يكون لديهم ميل داخلي واستعداد مسبق، لأن يكونوا أكثر ذكاء وإبداعا وحنكة. إلا أنهم لن يستطيعوا الاستفادة من تلك الامتيازات في الشيء الكثير، لأنهم قد يمضون حياتهم كلها، ثم يموتون، دون أن تسعفهم نعمة العقل لأن يتمكنوا من ابتكار طريقة لبناء كوخ بدائي من الأغصان، أو إيجاد وسيلة لإيقاد النار. والأهم من ذلك، أنهم لن يستطيعوا معرفة أي شيء عن الأخلاق والضمير أو الرأفة والرحمة، أو العدالة والمساواة، أو أي معايير للسلوك تتعلق بالخير والشر أو الفضيلة والرذيلة.
وهذا ما يدفعنا إلى الاستنتاج بأن الإنسانية ليست سوى مفاهيم وأنماط من التفكير والسلوك، كنا قد اكتسبناها من الجماعة التي نعيش في وسطها، وتلك الجماعة كانت بدورها قد اكتسبتها جيلا بعد جيل، عبر تراكم غير محدود من الخبرات والتجارب لأجيال طويلة. وكان كل جيل يطوِّر أو يعدِّل أو يضيف على أنماط التفكير والسلوك تلك، تبعا لتطور مفاهيمه، المستمدة أصلا من السلف. أي أن الإنسانية هي سيرورة لا تعرف الانقطاع أو التوقف، وهي تكتسب دفقها من اتصال سلسلة يسلمها السلف للخلف. ولو انقطعت حلقة واحدة من تلك السلسلة، لعاد البشر إلى أصولهم الحيوانية البحتة. فالإنسانية إذن، هي هبة مكتسبة، يتم تلقينها لكل فرد كي يتمكن من العيش ضمن الجماعة والتناغم مع أعرافها وعاداتها.
أما الأصالة، فإن من بين ما يميز الإنسان عن باقي الحيوانات، هو أنه أكثرهم قابلية للترويض والتدجين لكي يُمَثل دوره في العلن، على مسرح قد تم التآمر فيه بين الممثلين، على زيف النص وعبثية الأدوار. ولكنهم مع ذلك يستمرون في التمثيل، لأن الخشبة التي يقفون عليها هي مسرح الإنسانية، الذي لا بديل لهم عنه كانتماء.
وفي الحقيقة أن قابليتنا للترويض هي التي منحتنا المرونة، للقبول طواعية بارتداء لجام لغرائزنا، تمسك بزمامه يد الجماعة التي ننتمي إليها. وذلك اللجام هو أشبه بقناع كانت قد نسجته تجارب الكائنات العاقلة عبر العصور، ثم ارتدته لتتباهى به على باقي الكائنات. ولكنه مجرد قناع هش، مُضاف إلينا، وليس جزءا منا، ولا هو أصيل فينا. وبالتالي فإن ذلك القناع لا يستر من عري ولا يغير من جوهر، وقد يسقط ويتهشم عند أول اختبار نواجه فيه جموح غرائزنا واحتياجاتنا.
فالسلوك الإنساني المنضبط، غالبا ما يكون باعثه هو السعي نحو الأمان، من خلال تعزيز الانتماء للجماعة، بالتملق لها والتزلف لكسب رضاها وإعجابها، خشية من نبذها أو رهبة من قصاصها.
مع أن تلك الجماعة نفسها، غالبا ما تمتلك معيارا أخلاقيا مزدوجا تجاه الآخر. فالأوصياء على عالمنا مثلا، يسلكون سلوك الإنسان النبيل المتحضر تجاه “جماعتهم” ولكنهم بالمقابل ذئاب، غريزتهم لا تخطئ الضعيف، إذا كان غريبا وبِه لحم.
وهكذا فإن اللعبة تسير، ما دامت كل جماعة توفر متنفسا معقولا لغرائز أفرادها، حتى ولو كان مشروطا. أما لو وجد البشر أنفسهم في مواجهة وجودية أمام جحيم غرائزهم، في غياب مطلق لسطوة الجماعة وقوانينها، أو في مكان بدائي افتراضي لا يعرفهم فيه أحد، وليس فيه أي رادع أو رقيب أو عواقب لاحقة لأفعالهم. فإن أكثر البشر تحضرا، قد يتحولون إلى حيوانات برية متوحشة. وقد يسرقون ويقتلون ويغتصبون، تبعا لإلحاح غرائزهم، وتبعا لمدى قوتهم وقدرتهم على استغلال الآخر لسلبه ما يحتاجونه منه. وهذا في الحقيقة ما يحصل في عالمنا، ولو بشكل مُنَمق، تموهه الأكاذيب والشائعات أو الأعذار والمسوغات.
ومن المفارقة، أن أكثر البشر إرهافا للحس وتعاطفا مع الكائنات المُستَضعفة، وأكثرهم تطرفا للرأفة بالحيوانات ولحمايتها من القتل، لو وجدوا أنفسهم مع أطفالهم الجياع في غابة نائية، ولم يكن لديهم أي وسيلة للاغتذاء سوى أكل لحم الحيوانات، وكان هناك نار موقدة معدة للشواء. فإنهم سيتصرفون بوحشية لن تختلف كثيرا عن وحشية أي تمساح أو ذئب، للفتك بفريستهم، تبعا لما هو متاح لهم من وسائل القتل، وذلك لتأمين القوت لأطفالهم ولأنفسهم. وفي الحقيقة، أنه ليس في ذلك أي غرابة، فجميع الكائنات تبحث عن أسباب بقائها من خلال إشباع غرائزها. ومن يدري، فقد يكون التمساح أو الذئب متعاطفين أيضا مع فرائسهما، ولكنهما مجبران على أكلها، لانتفاء البديل للاغتذاء. ولكن الغرابة تكمن في أن غرائز البشر فيها من التجذر والقوة، ما يكفي لتهشيم كل ما اكتسبته إنسانيتهم من قيم ومعتقدات. مع أن هناك غرائز هي أكثر خطورة من مجرد غريزة الاغتذاء.
وكذلك يبقى ثمة سؤال، حول ماهية الهوة التي تفصل ما بين الإنسان والحيوان. وتلك الهوة بلا شك، هي منظومة الجماعة المكتسبة، وليس أصالة الإنسان الفرد. فإذا تم عزل الفرد عن تلك المنظومة، التي هي له بمثابة القيد والإطلاق، فإنه سيكون أقرب إلى الحيوانات من قربه إلى البشر.
أما عن الجوهر الفريد، فإن جوهر الشيء هو ضرورة لوجوده. أي أن وجود الشيء تابع لجوهره، فلا يمكن للجوهر أن يكون لاحقا على بدء الوجود، ولا سابقا لنهايته، كما لا يمكن تجزئته. وبذلك فإن الجوهر رديف للوجود وليس مضافا إليه، إذ أنه مثل الروح للكائن الحي، لا يمكن للموجود أن يكتسبه بعد أن يوجد، ولا أن يفقده مع الاستمرار في الوجود.
ولكن ما يمتاز به الإنسان على الحيوان، هو أمر قابل للاكتساب، وقابل كذلك للزوال، ولو بشكل جزئي. إذ يمكن للإنسان اكتسابه وفقدانه، كليا أو جزئيا، دون أن يؤثر ذلك على وجوده. إذن، فليس هنالك جوهر فريد يميز الإنسان عن باقي الكائنات، وإنما هنالك فرق ما بينه وبينهم بالدرجة فحسب، وليس بالجوهر. أو أنه فرق بالكم وليس بالكيف.
ذلك أن الحيوان يشترك مع الإنسان في الغرائز وفي الكثير من الصفات الجسدية والنفسية ووظائف الأعضاء. وكذلك فإن الحيوان عموما، شأنه شأن الإنسان، له حواس وإحساس. وهو، ولو بشكل متفاوت، يفكر ويفرح ويحزن ويحب ويكره ويغار، ويشعر باللذة والألم والرضى والغضب والطمأنينة والقلق، ويستطيع أن يتعاطف مع الآخر وأن يواسيه. وكذلك لديه القدرة على المراوغة والاحتيال ليحصل على ما يريد، وعلى الخداع والتضليل إذا تعرض للخطر، وعلى التعلم من تجاربه، والتواصل ذي المعنى مع أبناء نوعه، وعلى العمل المشترك معهم. كما أن لديه إدراكا وذاكرة وخيالا وأحلاما ليلية ومخاوف كامنة.
ولكن إذا كانت القردة أو الكلاب أعلى رتبة من الزواحف، بتميزها عنها بفارق كبير في الذكاء، فذلك لا يبرر للقردة أو للكلاب بأن تزعم، أنّ لها جوهرا فريدا يميّزها عن الزواحف.
حتى أن ما يميز الإنسان عن الحيوان، هو امتياز للحيوان في بعض الجوانب، وليس العكس دائما. فعلى الرغم من أن الإنسان متميز عن الحيوان بخصوصية جسده وبمستوى ذكائه وبقدرته على مراكمة ونقل معارفه النابعة من تجاربه، لاستعمالها كقاعدة للترقي إلى درجات أعلى من المعرفة. فإن من الأسباب الأساسية لتميز الإنسان كذلك، هو أنه منذ أن كان، وهو أكثر الكائنات هشاشة، وأقلها تناغما مع محيطه، بسبب حرمانه مما تمتاز به أجساد الحيوانات، من أدوات للهجوم أو للدفاع عن نفسها، ومن وسائل تقيها من قسوة الطبيعة وتقلبات مناخها. ولما وجد الإنسان نفسه أمام خطر وجودي يهدد بقاءه، كان مجبرا على التفكير الدؤوب وعلى الخلق والإبداع، لكي يحمي نفسه ويحقق لها شروط التلاؤم مع الطبيعة. ولو كان للإنسان ريش أو فرو يقيانه من البرد، ومنقار جارح أو مخالب وقرون وأنياب تمكنه من اصطياد ما يقتات عليه، ومن الدفاع عن نفسه، لكان قد عاش في تناغم مع الطبيعة مثل باقي الكائنات، ولما أشقى نفسه بالتفكير والبحث لتطويع الأشياء من حوله ولابتكار الوسائل التي تضمن له الاستمرارية والبقاء.
لقد حقق الإنسان مراده على أكمل وجه، ولكنه لا يزال ناقصا عن باقي الكائنات، بافتقاده للهوية الأصيلة والانتماء الحقيقي، بسبب مرتبته الهلامية المتغيرة التي لا تستقر على حال.
عندما بدأ الإنسان بالسعي نحو التميز والسمو، كان ذلك في الحقيقة بمثابة بداية رحلته للهجرة من أصله الحيواني، بحثا عن الإلهي فيه للتماهي معه، وكانت الإنسانية هي الطريق الذي يسلكه. ولكن ذلك الطريق هو دائما قيد الترتيب والتشكيل، ذلك أنه يمر عبر كثبان رملية متحركة، لا تستقر على حال، هي أخلاقنا. وقد لا ينتهي البشر من رسم ذلك الطريق أبدا، بل إنهم غالبا ما يشوهون معالم ما رسموه برياح غرائزهم العاتية. وبذلك سيبقى الإنسان متأرجحا ما بين الحيوان والإله، فلا هو قادر على الرضى برتبة الحيوان، ولا هو بالغ مقام الآلهة.
مُستقاة من روايتي: الحج إلى الحياة.
أحمد دلول
كوبنهاچن، أيار ٢٠١٨