مستخلص:
لعل الفيلسوف رودولف روكر، والعالم اليوم على حاله، لم يحد عن الصواب حين وسم عمله بأنه عمل متمرد، لكن لم يفته أن يشيد بفائدته النبيلة، وهي تخليص الإنسان من استبداد خياله الديني به. فعلى شكل قناعاته الأناركية أتى عمله هذا عابرا للحدود الجغرافية والزمنية شارحا ومعلما وناقدا لما يبدو تضافرا لا يُفك للدين بالسياسة، أو بالأحرى للدين بالحكم عبر التاريخ البشري المعروف. فمن تيبت الصين إلى إنكا الهنود الحمر، مرورا بروما الإمبراطورية إلى النازية والفاشية فالشيوعية السوفياتية ثم الديمقراطية الغربية، وجد نبوغه خيطا ناظما مشكلا أحيانا ومهدما أحيانا أخرى بينها كلها، وهو واقع أن الدين غالبا ما يصل مرحلة الحجر على الإنسان عندما يشتد عوده بتوأمه السيامي الحكم.
إن أطروحة روكر على قدر بالغ من الأهمية، كما أراها، لعالم اليوم. لعل مادتها التاريخية قد شهدت الكثير من التغيير، لكن جوهرها الألمعي يحمل بين كلماته المشكلة له حكمة لا تبور، وهي أن وله الإنسان بالسلطة وخدره بها، إن وجد إليها سبيلا، يعملان على الأرض تحت أقنعة معتقدات ثيوقراطية مختلفة أكانت تلك «ألوهية» الحاكم المفترى عليها وبها كما كان حال إمبراطوريات الشرق القديمة، أم «قداسة» شخص الحاكم التي احتفظت بها دساتير بعض الدول العربية حتى وقت قريب، أم «السداد المطلق» لزعيمها كما أيقونات الشيوعية السوفيتية، وأنظمة الحزب الوحيد العربية.
تعابير دلالية: الحكم و الدين، إرادة القوة، الكهنوت و السلطة.
توجد قوتان ظاهرتان، عبر كل مراحل التاريخ المعروف لدينا، في حرب دائمة. وينتُج عداؤهما، سواء خفيَ أو ظهر، عن الاختلاف الجوهري بين سلطتين، وبين الأنشطة التعبيرية لديهما. يعتبر هذا واضحا لكل من يُقارب دراسة البُنى الاجتماعية الإنسانية دون فرضيات جاهزة، أو نُظم تأويلية ثابتة، خصوصا بالنسبة لأي أحد يرى بأن الأهداف والأغراض الإنسانية ليست خاضعة لقوانين ميكانيكية كما الحوادث الكونية عموما. نحن نتحدث هنا عن العناصر السياسية والاقتصادية في التاريخ والتي يمكن تسميتها أيضا العناصر الحكوماتية والاجتماعية. إن تصور مفاهيم السياسي والاقتصادي، بصريح العبارة، في هذه الحالة ضيق شيئا ما، لأن كل السياسة، في آخر الأمر، لها جذور في المفاهيم الدينية للإنسان، بينما تبقى طبيعة كل شيء اقتصادي طبيعة ثقافية، وبالتالي فهي على علاقة وثيقة مع القوى الخالقة للقيمة في الحياة الاجتماعية، حتى أننا مضطرون للحديث عن تعارض جوهري بين الدين والثقافة.
إن للسياسي وللاقتصادي، وللحكوماتي وللاجتماعي، أو بمعنى أعم للتمظهرات الدينية والثقافية نقط التقاء عدة، أي أنها تنبع كلها من الطبيعة البشرية، وبالتالي فهناك علاقات جوهرية بينها. إننا نهتم هنا برؤية أوضح للتقاطع الموجود بين هذه التمظهرات. لكل شكل سياسي في التاريخ أسس اقتصادية محددة تظهر في المراحل المتأخرة من التقدم الاجتماعي. ومن جهة أخرى لا نستطيع أن ننكر بأن أشكال السياسة هذه خاضعة للتغيرات في شروط الحياة الاقتصادية والثقافية العامة، وتتخذ معهما أوجها جديدة. لكن الشخصية الجوهرية لكل السياسة تبقى ذاتها على الدوام، تماما كما لا تتغير أبدا شخصية كل وأي دين، رغم تعديله لشكله الخارجي.
تقبع جذور الدين والثقافة في غريزة حفظ الذات الإنسانية التي تكلأهما بالحياة والشكل. لكن ما إن يخرجا إلى الوجود فإن كلا منهما يتبع مساره، يرجع ذلك لعدم وجود روابط عضوية بينهما، لأنهما، وكنجمين خصمين، يتبعان وجهتين متعاكستين. ويفشل كل من يتغاضى عن هذه الخصومة، ولأي سبب، في منحها الاعتبار الذي تستحق، ولن يتمكن من أن يرى بوضوح التسلسل الجوهري للأحداث الاجتماعية.
أما فيما يخص أين يبدأ الموقع السليم لواقع الدين، فإن الرؤى تختلف إلى اليوم، لكن المقبول و المُجْمع عليه هو أن أساس مفاهيم الإنسان الدينية لا تقبع في الفلسفة الكلامية. لقد توصلنا إلى أن اعتبار فكرة هيجل التي تقول بأن كل الدين يظهر فقط سمو الروح للمطلق، ومن هنا محاولة العثور على انسجام الإنساني بالسماوي، على أنها لا يمكن إلا أن تكون قولا مجازيا فارغا لا يفسر بأي شكل أصل الدين. كما أجد أن «فيلسوف المطلق» الذي يضفي على كل أمة مهمة تاريخية خاصة، اعتباطيا عندما يؤكد بأن كل شعب في التاريخ حامل لشكل دينٍ نمطي. فالصينيون يحتضنون دين الاعتدال، والكلدانيون دين الألم، واليونانيون دين الجمال، وهلم جرا، حتى تنتهي الأنظمة الدينية أخيرا بالمسيحية، «الديانة المُنزلة» التي يرى مبلغوها في شخص المسيح اتحاد الإنساني بالسماوي.
لقد جعل العلم من الناس أكثر انتقادا. ندرك اليوم أن على كل البحث عن الأصل والتشكل التدريجي للدين أن يستعمل المناهج التي تخدم حقولا كالسوسيولوجيا والسيكولوجيا في محاولة فهم ظواهر الحياة النفسية والاجتماعية في بداياتها.
لقد ظن الفيلولوجي الإنجليزي ماكس مولر أنه وجد في الدين الدافع الإنساني الجوهري لتفسير المطلق، وأكد أن انطباع قوى الطبيعة على الإنسان هو الذي يقف وراء انطلاق المشاعر الدينية لديه، وبالتالي فلا يمكن أن يخطئ المرء في اعتبار عبادة الطبيعة الشكل الأول للدين. بالكاد يجد موقفه هذا أي مناصرين اليوم. يظن معظم قادة البحث الإثنولوجي الديني الحاليين أن مذهب الأرواحية، أي الإيمان بالأشباح وأرواح الموتى، يجب اعتباره المرحلة الأولى للوعي الديني في الإنسان.
لقد جعل أسلوب حياة الإنسان البدائي الهائم كله منه، سواء جهله النسبي، أو الوقْعُ الذهني لصور حلمه، أو نقص فهمه عند مواجهته الموت، أو الصيام القسري الذي تحمله، كل هذا جعل منه مستبصرا بالسليقة وقد عشّش الإيمان بالأشباح في دمه، إن جاز التعبير. لقد كان الخوف شعوره المسيطر عندما واجه الأشباح التي عمّر خياله العالم بها، وأرّقه هذا الخوف أكثر عندما واجه قوى غير مرئية، قوى لا تواجه بعتاده البسيط، وليست عدوا بسيطا. لقد نبعت الرغبة لديه، بشكل عفوي تماما، في ضمان النية الحسنة لهذه القوى، في الانفلات من شباك حيلها، وفي كسب رضاها بكل الوسائل. إنه دافع حفظ النفس الصريح الذي وجد التعبير عن نفسه هنا.
نبع مذهب حيوية المادة من الأرواحية، وهو مذهب يعتقد بأن الروح تُقيم في شيء أو في مكان ما، وهذا معتقد لا زال حاضرا إلى اليوم في الأفكار الخرافية للإنسان المتحضر المقتنع بأن الأشباح تمشي وتتحدث، وبأنه توجد أماكن يُعمّرها الجن. تعتبر الطقوس اللامية (من اللاما) كذلك وطقوس الكنيسة الكاثوليكية من مذهب حيوية المادة في جوهرها. أما فيما يخص النظر إلى الأرواحية والمفاهيم الخام لمذهب حيوية المادة على أنها ديانة فإن الرؤى تختلف، لكن بالكاد يصح الشك بأن هذه ليست البداية بالنسبة للمفاهيم الدينية كلها.
يبدأ الدين السليم بتحالف بين «الشبح» والإنسان الذي يجد التعبير عن نفسه في الشعيرة. ليس «الشبح» أو«الروح» فكرة مجردة، بل مفهوما ماديا تماما. لذا، فمن الطبيعي أن يحاول التأثير على الأرواح بدلائل مادية على تبجيله وخضوعه لها. وهكذا خطرت بباله فكرة تقديم الأضاحي، وكما أثبتت له التجربة بأن حياة الحيوان المذبوح أو العدو تغادر مع الدم المسكوب، فقد أدرك باكرا بأن الدم «عُصارة فريدة حقا». لقد منح هذا الإدراك فكرة التضحية خصوصية فريدة. كان تقديم الدم أول شكل لشعيرة تقديم الأضاحي بكل تأكيد، وأكثر من ذلك اكتسب صفة الضرورة بالنسبة لحياة الإنسان البدائي الصياد. كانت فكرة تقديم الدم، والتي كانت دون شك من بين المُنتجات الأقدم للوعي الديني، ولازالت مصرة على البقاء في الأنظمة الدينية العظيمة في الحاضر. إن التحول الرمزي للخبز والنبيذ في القربان المسيحي المقدس إلى «لحم ودم» المسيح مثال على ذلك.
أصبح تقديم الأضاحي النقطة المركزية لكل الأعراف الدينية والاحتفالات التي تجلت هي نفسها في التعويذة والرقص والغناء وتوِّجت بشعائر خاصة. من المحتمل أن تقديم الأضاحي كان في أول أمره مسألة شخصية بحتة، وأن بإمكان كل فرد تقديم القربان المناسب لحاجته، لكن أمد هذا الوضع لم يدم طويلا قبل أن يُعوض بالكهنوت المحترف من نوع أصحاب العقاقير والشامان، والغنغاج، وهلم جرا. إن تطور مذهب حيوية المادة إلى الطوطمية التي أخذت اسمها من كلمة هندية، وتتشكل من الإيمان بإله قَبَلي مجسد في شكل حيوان من حيث تستلهم القبيلة أصلها، قد أدى إلى تطور كهنوت مشعوذ خاص. وبهذا، اتخذ الدين شكلا اجتماعيا لم يكن عليه فيما سبق.
ندرك عندما ننظر إلى الدين في ضوء تطوره التدريجي أن ظاهرتين تشكلان جوهره: الدين أساسا هو شعور الإنسان بالاتكال على قوى عليا غير معروفة، والإنسان مكره بغريزة حفظ الذات وهو يبحث عن طرق ووسائل لجعل هذه القوى تميل إليه، وكذلك لحماية نفسه من تأثيراتها المؤذية. (ورد التأكيد في النص الأصلي) هكذا ظهرت الشعيرة إلى الوجود، وهي التي تمنح للدين خاصيته الخارجية.
إن الادّعاء القائل بأن فكرة تقديم الأضاحي يمكن تقفي أثرها إلى العرف الذي ساد في المؤسسات الإنسانية البدائية والمنظمات الأولى، والذي يقتضي منه هذا العرف منح قادة القبائل وزعمائها عطايا إرادية أو قسرية، هو ادعاء ممكن الصحة. أما الإقرار بأن الإنسان البدائي لم يكن ليبلغ فكرة تقديم الأضاحي فيبدو لنا جريئا جدا.
لا يمكن للمفاهيم الدينية إلا أن تنشأ عندما يأخذ سؤاليْ لماذا وكيف مجراهما في الذهن البشري. لكن هذا يفترض مسبقا تطورا ذهنيا مهما. لذلك من الضروري افتراض انقضاء زمنٍ طويل قبل أن يأخذ الإنسان السؤالين على محمل الجد. إن المفهوم الذي يشكله الإنسان البدائي عن العالم حوله يبقى ذو طبيعة حسية أولا، تماما كما يدرك الطفل أشياء مُحيطه حسيا أولا، ويستعملها مطولا قبل أن يُثير في نفسه أي سؤال عن أصلها. وتبقى، أكثر من ذلك، عادة ترك أشباح الموتى ليشاركوا في الوجبات قائمة بين عدد من الشعوب الغير متمدنة، تماما كما تبقى كل أعياد القبائل البدائية على صلة بشعائر تقديم الأضاحي. لذا فمن الممكن أن تكون فكرة تقديم الأضاحي قد ظهرت دون عادة اجتماعية سابقة مُشابهة.
ومهما يكن، فإن الواقع هو أن كل نظام ديني ظهر في الألفيات عَكَسَ اتّكال الإنسان على قوى عليا أطلق لها خياله العنان، وأصبح بدوره عبدا لها. لكل الآلهة زمانهم، لكن الدين في حقيقة وجوده، بقي دائما على حاله رغم كل التغيرات التي طرأت على شكله الخارجي. فقد كان دوما الوهم الذي يُقدم إليه الجوهر الحقيقي للإنسان على شكل أضحية، الخالق يصبح عبدا لمخلوقه دون أن يعي أبدا مأساته تلك. إن سبب عدم وجود أي تغيير في الجوهر الأعمق لكل ولأي دين جعل المدرس الألماني الديني المعروف كونيغ يبدأ كتابه للتدريس في الديانة الكاثوليكية بهذه الكلمات: «الدين عموما هو إدراك وجود الرب وتوقيره، وبالخصوص علاقة الإنسان بالرب كحاكمه الأسمى.»
وهكذا كان الدين في بدايته البسيطة الأولى على ارتباط حميمي بفكرة الجبروت، والتفوق الخارق، والسلطة على المؤمنين، في كلمة واحدة، بالحكم. على هذا المنوال وفي فرص عدة، تمكنت الفيلولوجيا الحديثة من إثبات أن أسماء مختلف الآلهة نفسها كانت في الأصل تعابير لمفاهيم تُجسد السلطة. ليس من قبيل الصدفة أن دعاة مبدأ السلطة يتتبعون أصلها إلى الإله. ألا تبدو لهم الألوهية مثالا على كل السلطة والقوة؟ يظهر الأبطال، والفاتحون، والمشرعون، وأسلاف القبائل كآلهة أو أنصاف آلهة، لأن عظمتهم وتفوقهم لا يمكن إلا أن يكون رباني الأصل. هكذا نصل إلى أسس كل نظام حكم، وندرك أن كل السياسية دينٌ في آخر المطاف، وعلى حالها ذاك تحاول حبس روح الإنسان في أغلال الاتّكال.
يبقى السؤال، إن كان الشعور الديني في بداياته الأولى انعكاسا مجردا لمؤسسات السلطة الأرضية، كما يقول نورداو وآخرون، مفتوحا للنقاش. سيميل هؤلاء ممن يعتقدون بأن الوضع الأصلي للإنسان هو «حرب الكل ضد الكل»، كما يعتقد (توماس) هوبز والعديد من أتباعه، إلى أن يروا في الطبع الحاقد والعنيف للآلهة الأصلية نظيرا صادقا للمشايخ المستبدين وقادة الحرب الذين أبقوا بني قبائلهم والغرباء في خوف ورعب. لم يمر زمن طويل على نظرنا إلى «المتوحشين» في الزمن الحاضر على نفس المنوال، حيث يشرع أزلامنا الماكرون القساة في القتل والسلب إلى أن مَنَحَتْنا نتائج الإثنولوجيا الحديثة المتشعبة في كل أنحاء المعمور الدليل على مدى خطأ هذا المفهوم.
أن يُشكل الإنسان البدائي صور أرواحه وآلهته على الشكل العنيف والمرعب لا يعني أن يُعزى ذلك إلى نماذج دنيوية. كل شيء غير معروف (غير مفهوم بالنسبة للعقل البسيط) يؤثر على الروح بغرابته ورهبته. توجد خطوة فقط تفصل الغريب عن الشنيع، ثم عن المخيف، ثم عن المرعب. لا بد أن هذا كان أكثر دقة في الأزمان الغابرة حيث كانت القوة التخيّليّة غير متأثرة بألفيات من الخبرة المتراكمة التي كانت لِتُفيد كحجة مضادة. ولكن حتى إن لم نُجبر على البحث عن أصل كل مفهوم ديني في ممارسة سلطة دنيوية، فإن المظاهر الخارجية للدين في عهود التطور الإنساني المتأخرة حددتها غالبا حاجات السلطة للأفراد وللأقليات الصغيرة في المجتمع.
كل نموذج لحكم جماعة إنسانية على جماعات أخرى سبقته الرغبة في امتلاك منتوج العمل، والوسائل أو الأسلحة، أو لترحيل السكان الأصليين عن أرض تبدو مناسبة أكثر لكسب قوت العيش. من المحتمل أن المنتصرين اكتفوا لمدة طويلة بهذا الشكل البسيط من النهب، وعندما واجهوا مقاومة سفكوا دم خصومهم. لكن بالتدريج اكتُشف أنه من المفيد أكثر أخذ الجزية من المهزومين أو إخضاعهم لنظام جديد عبر حكمهم، وهو ما مهد لتأسيس العبودية. كان هذا أسهل مع التكافل المتبادل بين أعضاء القبيلة ذاتها وحيث تجد الأخيرة حدودها. كانت كل أنظمة الحكم في الأصل أنظمة خارجية، حيث شكل المنتصرون طبقة امتياز خاصة، وأخضعوا المهزومين لحكمهم. كانت قبائل الصيد المرتحلة، كقاعدة، هي التي فرضت حكمها على الفلاحين المقيمين. إن مهمة الصياد التي تتطلب الكثير باستمرار من تحمل الإنسان ونشاطه، هي التي جعلت منه بالطبيعة أكثر ميلا للحرب واللصوصية. لكن الفلاح المرتبط بفدانه، والذي تُعتبر حياته أكثر سلما وأقل خطرا، كقاعدة، يبقى في معظم الأحيان أقل رغبة في الصراع العنيف. ولهذا فهو نادرا ما يُعتبر نداً للقبائل المحاربة، ويخضع بالمقارنة بسهولة إن كان الحكم الخارجي أقل قهرا.
ما إن يتمكن المنتصر من تذوق حلاوة السلطة، ويتعلم تقدير الامتيازات الاقتصادية التي يوفرها الانتصار حتى يُخدَّر بممارسته السلطة. وكل نجاح يحفزه على خوض مغامرات جديدة، لأن من طبيعة كل السلطة أن يحاول مالكها جاهدا توسيع نطاق تأثيره، وفرض نيره على أناس أضعف. وهكذا تطورت طبقة منفصلة بالتدريج كانت مهمتها الحرب والحكم على الآخرين. لكن لا تستطيع أي سلطة الاعتماد على القوة الغاشمة لوحدها. قد تكون القوة الغاشمة الوسيلة الأولى لإخضاع الإنسان، لكنها غير قادرة لوحدها على الإبقاء على سلطة الفرد أو سلطة طائفة خاصة على جماعات إنسانية كاملة. يتطلب الأمر أكثر من ذلك إيمان الإنسان بحتمية هذه السلطة، والإيمان بمهمتها كإرادة إلهية. وهذا الإيمان متجذر بعمق في مشاعر الإنسان الدينية، وتكتسبه السلطة مع التقليد، لأن إشراقة المفاهيم الدينية والالتزام الباطني تحوم حول التقليدي.
هذا هو السبب الذي يفسر فرض المنتصرين غالبا لآلهتهم على المنهزمين، لأنهم أدركوا بوضوح أن توحيد الشعائر الدينية سيزيد من سلطتهم. لم يهمهم كثيرا عادة استمرار آلهة المنهزمين في العرض ما دام ذلك لا يشكل خطرا على قيادتهم، وكذلك ما دامت الآلهة القديمة في وضع تابع للآلهة الجديدة. لكن بإمكان ذلك أن يحدث فقط إن فضل قساوسة المهزومين حكم المنتصرين، أو شاركوا هم أنفسهم في بسط السلطة السياسية، كما حدث في معظم الأحيان. هكذا يصبح من السهل إثبات التأثير السياسي على الأشكال الدينية المتأخرة للبابليين والكلدانيين والمصريين والفرس والهندوس، وآخرون. ويسهل كذلك تتبع التوحيدية اليهودية الشهيرة إلى الصراع من أجل التوحيد السياسي للملكية الصاعدة.
تمتح أصول كل أنظمة الحكم والسلالات الحاكمة في المرحلة العتيقة من ألوهية معينة، لقد أدرك مالكوها بسرعة بأن فكرة إيمان رعاياهم بالأصل السماوي للحاكم كان الأساس الصلب لأي نوع من السلطة. كان الخوف من الإله دائما المقدمة الذهنية للخضوع الإرادي. إن هذا ضروريّ لوحده، و يشكل الأساس الأبدي لكل استبداد تحت أي قناع يظهر به. لا يمكن فرض الخضوع الإرادي، بل يمكن لألوهية الحاكم وحدها خلقه. وذلك كان حتى اليوم الهدف الأول لكل السياسة، هدف موجه لإيقاظ هذا الاعتقاد في الناس، ولجعله قناعة ذهنية راسخة. إن الدين هو المبدأ السائد في التاريخ، إنه يُخضع روح الإنسان ويفرض على أفكاره أشكالا محددة حتي يعتاد على تفضيل استمرار التقليدي، ويواجه كل تجديد بالشكوك. إن الخوف الباطني من السقوط في هاوية بلا قعر هو ما يكبل الإنسان لأشكال الأشياء كما هي. فهم لويس دي بونالد، رائد مبدأ السلطة المطلقة البارز، العلاقة بين الدين والسياسة جيدا عندما كتب هذه الكلمات: «إن الإله هو السلطة السائدة فوق كل شيء، والإله الإنسان هو السلطة السائدة فوق كل البشر، ورأس الدولة هو السلطة فوق الرعايا، ورأس العائلة هو السلطة في بيته، ولكن لأن السلطة وُضعت على صورة الإله، وأصلها الإله، فإن السلطة مطلقة.»
كل السلطة أصلها الإله، وكل الحكم في جوهره إلهي. تلقى موسى ألواح القانون من يد الإله مباشرة، وتبدأ بالكلمات التالية: «أنا الإله، إلهك، ولن يكون لك آلهة أمامي»، وهي الكلمات التي ختم بها الإله ميثاقه مع شعبه. يُظهر الحجر الشهير الذي سُجّلت عليه قوانين حمورابي، والذي حمل اسم الملك البابلي عبر العصور، يُظهر حمورابي أمام وجه إله الشمس شمّاش. وتبدأ المقدمة التي سبقت بيان القانون هكذا: « عندما تقاسم آنو سبحانه، ملِك الأنوناكي، وبِل، سيد السماء والأرض، عوام البشر لماردوك، بِكرُ إيا، سيد القانون السماوي، جعلوا منه عظيما بين الإيجيجي. أعلنوا اسمه السامي في بابل، والذي يُمجّد في كل الأراضي التي قُدّرت له كمملكة، وهي أبدية كالسماء والأرض. وهكذا أسعد آنو وبِل البشر عندما نادوا علي أنا، الحاكم المجيد والخائف من ربه، حمورابي لأملأ الأرض عدلا، ولأُبيد الشر والقسوة، ولأصُد القوي وأُنجد الضعيف، وأحكم كإله الشمس على قَدَرِ الإنسان أسود الرأس، ولأُنير الأرض.»
لقد اتخذ تأليه الحاكم في مصر، حيث كانت الطائفة الدينية تحت تأثير طائفة الكهنوت القوية التي أظهرت سلطتها في كل المؤسسات الاجتماعية، أشكالا غريبة حقا. لم يكن الفرعون، الكاهن الملك، الممثل الوحيد للإله في الأرض، لقد كان هو نفسه إلها، وتلقى تبجيلا إلهيا. لقد كان الملوك في عهد السلالات الحاكمة الستة يُنظر إليهم على أنهم أبناء إله الشمس، لقد سمى رع خوفو، الذي بنيت الأهرامات العظيمة في عصره، نفسه «حورس المُجسد»، وصُوّر الملك أمنحوتب الثالث كإله محاطٍ بآلهة أخرى في كهف مقبّب في إبريم، وبنى الحاكم نفسه هيكلا في ‘صُلِب’ Soleb حيث كان يتلقى التبجيل الديني لشخصه. وعندما منع خليفته أمنحوتب الرابع تبجيل آلهة أخرى في مصر، وأخرج إلى الوجود عبادة إله الشمس المُشع آتون الذي أصبح متجسدا في شخص الملك، وأخرجه إلى مقام دين الدولة، كانت الحوافز السياسية تقف وراء ذلك من دون شك. كان الهدف جعل توحيد الدين في خدمة وحدة السلطة الدنيوية في أيدي الفراعنة.
ونجدُ في كتاب مانو الهندي القديم:
«أقر الإله بأنه سيحمي الخلق. لهذا السبب أخذ أجزاء من الإندرا، ومن الرياح، ومن جاما، ومن الشمس، ومن النار، ومن السماوات، ومن القمر، ومن سيد الخلق. لذلك، وبما أن الملك خُلق من أجزاء من أسياد الآلهة، فإن مجده يفوق إشعاعا روعة كل الخلق، وكما الشمس، فإنه يُعمي البصر والفؤاد، ولا أحد يستطيع النظر في وجهه. إنه النار والهواء والشمس والقمر، إنه إله الحق، وعبقرية الغِنى، وحاكم السيل، وقائد العُلى.»
لم يقع في أي بلد عدا مصر والتّبت أن وصل تنظيم صنعة الكهنوت إلى قوة كتلك التي وصل إليها في الهند. لقد ترك هذا انطباعه على التطور الاجتماعي بأكمله للأرض الواسعة، وأثر، بتدبير شريحة الطبقة الماكرة من الساكنة كلها، على كل الأحداث ليحولها إلى أشكال حديدية، أثبتت أنها أكثر تحملا لأنها متجذرة في تقاليد الدين. لقد أقر البراهمانيون مبكرا، باتفاق مع شريحة الفرسان المحاربين، المشاركة في حكم شعب الهند، حيث كانت طبقة الكهنة دائما حريصة على أن ترى السلطة الحقيقية في يدها، وأن يبقى الملك صنيعة رغباتهم. كان رجال الكهنوت والمحاربين من أصل إلهى كليهما، لقد ولد البراهمانيون من رأس براهما، والمحاربون من صدره. كان لكليهما الهدف نفسه، والقانون يأمر بأن: «تتصرف الطبقتين باتحاد، لأن لا أحد منهما يستطيع البقاء دون الآخر.» على مثل هذه الشاكلة ظهرت القيصرية-البابوية حيث يجد اتحاد الديني وإرادة السلطة التعبير التام عن نفسيهما.
كان الحاكم في فارس القديمة التجسيد الحي للألوهية، وعندما يدخل بلدة يستقبله ‘الماغي’ (Magi) في ثوب أبيض مصحوبا بترانيم دينية، وتكون الطريق التي يُحمل عبرها مزينة بفروع زهر الآس والورود، وعلى الجانب تصطفّ المذابح الفضية يحرق فوقها البخور. كان سلطانه كما تُملي الزندآفيستا الكتاب المقدس لفارس القديمة، غير محدود، وإرادته القانون الأسمى، وأمره لا رجعة فيه. كان يخرج إلى الناس في مناسبات نادرة، وعندما يخرج ينبطح له الكل على الأرض، ويُغطون وجوههم.
كان في فارس القديمة أيضا طبقات (اجتماعية) وطبقة كهنوت منظمة، والتي وإن لم تملك السلطة الكلية كما في الهند، إلا أنها كانت الطبقة الأسمى في البلد، كان لممثليها، وكالمستشارين الأقرب للملك، فرصة إسماع صوتهم، بل وحتى التأثير في المصائر الدنيوية. أما فيما يخص الأدوار التي يلعبها الكهنة في النظام الاجتماعي، فإننا نجد في مقطع في الزندآفيستا: «لأن أعمالكم الخيرة تتجاوز عدد أوراق الشجر، وقطرات المطر، ونجوم السماء، وحبوب رمل البحر، فإنها لن تفيدكم في شيء ما لم تُرضي الديستور (الكاهن)، لأجل أن تستميلوا رضا الهادي هذا في سبيل خلاصكم، عليكم وبصدق منح عطايا عُشُر ما تملكون من بضاعتكم ومن أرضكم، ومن مالكم. وإن أرضيتم الديستور، ستتملص أرواحكم من عذاب جهنم، وستتمتعون بالسلام والسعادة في الدنيا وفي الآخرة. لأن الديستوريين هم رسل الدين، فإنهم يعرفون كل شيء، ويمنحون الخلاص لكل البشر.»
يتلقى فوهي ( Fuhi)، الذي ينعته الصينيون بأنه سيد الممالك السماوية، والذي يقال، حسب مؤرخيهم، بأنه عاش ثمانية وعشرين قرنا قبل زماننا هذا، التبجيل في الأساطير الصينية ككائن خارق، ويظهر في رسومهم كرجل بذيل سمكي، وبمظهر ترايتون (نصف إله). يُمجده التقليد كالموقظ الحقيقي لشعب الصين الذي عاش قبل مجيئه في البرية على شكل جماعات منفصلة كقطعان الحيوان، وعبره تلقوا تعاليم الهداية للنظام الاجتماعي الذي وجد أساسه في العائلة وفي تقديس السلف. كل السلالات الحاكمة التي تتالت منذ ذلك الحين في المملكة الوسطى تتبع أصلها إلى الآلهة. سمى الإمبراطور نفسه «ابن السماء»، ولأن الصين لم تحظ بطبقة كهنوت منظمة، فإن ممارسة المعتقد، فيما يخص ديانة الدولة، بقيت في يد مسؤولي الإمبراطورية الكبار الذين أثروا في الطبقات العليا للنظام الاجتماعي الصيني.
يعتبر الميكادو ( the Mikado)، «الباب العالي» في اليابان، سليل أماتيراسو ( Amaterasu) إلهة الشمس، التي تُعبد في ذلك البلد كالإلهة الأسمى، و تُظهر إرادتها عبر شخص الحاكم، وباسمه تحكم الناس، فالميكادو هو التجسيد الحي للألوهية، و يدعى قصره «الميا» ( Miya) أي مقام الروح، ولم تُنتهك حرمة قداسة شخصه في عين شعبه حتى في زمن حكم الشوغن ( Shogunate)، حيث كانت طبقة قادة الجيش تمارس حكم الأرض لمئات السنين بينما كان الميكادو يلعب دور زينة السلطة فقط.
ويُعزِي تقليد البحث كذلك أساس إمبراطورية الإنكا العظيمة، التي قدم تاريخها الغامض إشكالات عديدة للدراسة المعاصرة، إلى تدبير الآلهة. تحكي الملحمة كيف ظهر مانكو كابّاك (Manco Capac) مع حرمه أوكللو هواكو (Ocllo Huaco) إلى العلن في السكان الأصليين لهضبة كوزكو العالية، وقدم نفسه على أنه إنتيبشوري أي ابن الشمس، وحثهم على تمليكه، وعلمهم الحرث وأفادهم بعلم كثير مما مكنهم من أن يصبحوا خالقي ثقافة عظيمة.
لقد ظهرت في التيبت تلك الكنيسة-الدولة الغريبة تحت التأثير القوي لطبقة الكهنة التّواقين إلى السلطة. هذه الكنيسة- الدولة التي كان جوهرها التنظيمي على صلة قرابة مثيرة للفضول بالبابوية الرومانية. فعلى شاكلتها، تميزت بالاعتراف الشفهي، والمسبحة ومجامير البخور وتوقير الآثار، وتقليعة شعر القسس الخاصة. يقبع على رأس الدولة الدلاي لاما (the Dalai-Lama)، والبوغدولاما (the BogdoLama)، والبينتشينرايبوتش (Pentschenrhinpotsche)، يعتبر الدلاي لاما تجسيدا لكاوتاما (Gautama)، المؤسس المقدس للديانة البودية، وهي التجسيد الحي لتسونغكابا (Tsongkapa)، المصلح العظيم للاماوية الذي يُقدم له وحتى للدلاي لاما التبجيل الإلهي الذي يشمل منتوجاته المادية الحميمة.
لقد استعمل جنكيز خان، حاكم المغول القوي، الذي أبقت حروبه وفتوحاته نصف العالم ذات يوم في رعب مطبق، الدين بوضوح كالوسيلة الأساس لسياسة سلطته، رغم كونه هو نفسه انتمى إلى طبقة «المستبدين المتنورين.» لقد رأت فيه قبيلته بأنه سليل الشمس، وعاش في نطاق حكمه الشاسع الذي امتد من ضفتي وادي دنيبر (نهر يقع شرق أوروبا) إلى بحر الصين، أناس من مختلف القناعات الدينية، وأدرك بحدسه الفطن بأن حكمه على الأمم التي أخضع، وحتى على قومه، لا يمكن إلا أن يُعزز عبر السلطة الكهنوتية. لم تكف بابويته الشمسية. فقد أقام في أراضيه المسيحيون النستوريون، والمحمديون (يقصد المسلمين)، والبوديون، والكونفوشيوسيون، واليهود بالملايين. كان عليه أن يكون القس الأسمى لكل معتقد ديني. لقد طور بصحبة شامانيّييه الشمال آسيويين السحر واستشارة العرافة التي أظهرت نفسها في تصدعات ألواح كتف الغنم عندما ترمى في النار. لقد ذهب إلى قداس يوم الأحد، واحتفى بشرب قربان النبيذ، وناقش القسس المسيحيين، وزار كنيس اليهود يوم السبت، وأظهر نفسه بمظهر الشاهان أو الكوهن، وأقام يوم الجمعة نوعا من الصلاة، وكان خليفة كما الأتراك في القسطنطينية فيما بعد. لكنه بقي بوذيا، وأقام الخطب الدينية بصحبة اللامات (جمع الدلاي لاما)، حتى أنه دعا لاما ساتيا لقصره، لأنه انتوى تغيير مركز حكمه إلى الإقليم البوذي في شمال آسيا، لقد خطر بباله مخطط إقرار البوذية كدين للدولة.
ألم يتصرف الإسكندر المقدوني الذي ينعته التاريخ ب «العظيم» على نفس المنوال، وبنفس الحوافز كما أنه يظهر كجنكيز خان بعده بفترة طويلة؟. لا بد أنه شعر بأن عملا مماثلا لا يمكن أن يدوم بالقوة الغاشمة لوحدها، بعد أن فتح العالم وجمعه تحت سلطته بجداول الدم المراق. لقد حاول تجذير حكمه في المعتقدات الدينية للشعوب التي أخضعها. لهذا، وهو (الإسكندر) الهلّيني القح، ضحى لآلهة مصر في هيكل ممفس، وقاد جيشه عبر صحاري ليبيا الحارقة ليستشير عرافة زيوس آمون في واحة سيفا (Siva). لقد حياه القساوسة المذعنين باسم ابن «الإله الأعظم» وقدموا له التبجيل الإلهي. وهكذا أصبح الإسكندر إلها، وظهر أمام الفرس في حملته الثانية على داريوس كسليل زيوس آمون العظيم. نستطيع هكذا فقط تفسير الإخضاع التام للإمبراطورية الهائلة من قبل المقدونيين، وهو أمر لم يستطع حتى الملوك الفرس تحقيقه بنفس القدر.
لقد استعمل الإسكندر هذه الوسيلة فقط لتحقيق خططه السياسية، لكنه تخدر بالتدريج بشبهه الإلهي حتى أنه طلب التبجيل ليس فقط من الأمم التي أخضع، بل حتى من بني جلدته، والذين، ليس هناك بدّ من أن هذا المعتقد، بقي غريبا عنهم، لأنهم عرفوه كابن فيليب فقط. كانت أبسط أشكال معارضته لتقوده إلى الجنون، وحدث وقادته إلى اقتراف جرائم شنيعة. لقد أزاحت رغبته النهمة في توسعة رقعة سلطانه أكثر، وقوّتها نجاحاته العسكرية،أزاحت كل حدود تقديره لذاته وأعْمته عن الواقع. أدخل إلى بلاطه احتفالات الملوك الفرس، التي رمزت إلى الإخضاع التام لكل البشر لإرادة المستبد الحديدية. لقد حقق «الهلّين» و جنون عظمة الاستبداد البربري في شخصه أسمى درجات التعبير عن الذات.
كان الإسكندر أول من زرع القيصرية وألوهية الملِك في أوروبا، لأنها ازدهرت حتى حينذاك في الأرض الآسيوية، حيث تطورت الدولة بأقل العراقيل، وكذلك حيث وصلت العلاقة بين الدين والسياسة إلى نضجها المبكر. يجب أن نستخلص من هذا على كل أن اهتمامنا يحوم حول نزعة العرق. إن سيطرة القيصرية التي احتفظت بها أوروبا منذ ذلك الحين لدليل اعتراف على أننا نتعامل هنا مع نوع خاص من غريزة التبجيل الديني الذي قد يظهر تحت ظروف كهذه بين كل أعراق وأمم الإنسان. وعلى كل، لا يصح إنكار أن شكلها الخارجي على ارتباط وثيق مع شروط محيطها الاجتماعي.
لقد أخذ الرومان القيصرية من المشرق أيضا، وطوروها بطريقة بالكاد تُلحظ باكرا في أي بلد آخر. استولى يوليوس قيصر على ديكتاتورية روما، وحاول تجذير سلطته في المفاهيم الدينية للشعب. لقد أقر بأنه سليل الآلهة، وأعلن أنه سليل فينوس. كانت كل جهوده منصبة على جعل نفسه الحاكم الدنيوي المطلق، وموجها كذلك لتأليه نفسه، تأليها لا ترقى إليه أي علاقات ارتباط مع الفانين من البشر. أقيم له تمثال بين ملوك روما السبعة، وعمل مريدوه على نشر إشاعة مفادها أن العرافة سَمّتهُ الحاكم الوحيد على الدنيا، ومن أجل إخضاع البرثيين (الفرس القدامى) الذين كانوا حتى ذلك الحين ينازعونه السلطة. وُضعت صورته بين صور آلهة البومبا سيرسنسيس (the Pompa Circensis) (نشاط سيركي روماني قديم)، وأقيم له تمثال في معبد كويرينوس، وعلى قاعدته نُحتت المقولة: «للآلهة التي لا تُقهر.» وأقيمت مدرسة على شرفه في لوبيرسي، وعُيّن لخدمة معبده قسس خاصون.
ل