قبل الدخول في الموضوع، أودّ أن أوضح بعض المفاهيم الأساسية في نظرية التطوّر وعلم النفس التطوّري. إنّ هدف أيّ نظرية هو تفسير ظواهر معيّنة في العالم، وبعض النظريات –ومنها نظرية التطوّر- مدعومة بعدد كبير من الأدلّة. يعتبر مبدأ الانتخاب الطبيعي حجر الأساس في نظرية التطور، وهو مبدأ يُعنى بتفسير أصول الكائنات الحية من خلال قدرتها على التكيف مع البيئة المحيطة والتغيرات التي طرأت عليها نتيجة لهذا التكيف عبر الزمن. وهناك مبدأ آخر مهم تقوم عليه نظرية التطور وهو مبدأ الانتخاب الجنسي. نشر تشارلز داروين كتابه أصل الإنسان عام 1871 وتحدث به عن مفهوم الانتخاب الجنسي محاولاً سد ثغرات لم تكن قابلة للتفسير حسب مبدأ الانتخاب الطبيعي. تقوم فكرة الانتخاب الجنسي على أن السلوك الجنسي عند الكائنات يفرض قواعد محددة لاختيار الشريك أو الزوج، وهذا يعني أن الحيوانات ستختار وتتنافس فيما بينها ليتم اختيارها. وكقاعدة عامة عند الغالبية العظمى من الحيوانات، تقع على الإناث مسؤولية الاختيار، والذكور يحاولون إبراز صفاتهم المميزة ويتنافسون فيما بينهم ليتم اختيارهم.
اعترض عدد من المنظرات للحركة النسوية على علم النفس التطوري، زاعمات أنه يدعم القوالب الجندرية الجاهزة والأدوار المفروضة على الجنسين. من الاعتراضات المهمة أن علم النفس التطوري يقدم رؤية جامدة لصالح الذكور فيما يتعلق بالأدوار الجندرية. تقول البروفيسورة لوريت لايسن(1): “يعتمد علم النفس التطوري على افتراضات تقلل من شأن مرونة العمليات السيكولوجية” وترى أن العلماء المؤيدين للنسوية قد وجدوا عدداً من الأخطاء عند علماء النفس التطوريين ووضعوا فرضيات ورؤى جديدة لتفسير سلوك الذكور والإناث. لا تقبل النسويات افتراض علم النفس التطوري وجود طبيعة بشرية كونية (صفات مشتركة بين جميع البشر فيما يتعلق بالسلوك الجنسي)، وبرأيهن أن هذه الفكرة هي وهم يصب في صالح الرجال لتبرير هيمنتهم على النساء.(2)
يعتقد علماء النفس التطوريون أن بعض الفروق بين الجنسين نتجت عن الآلية التي يقوم عليها الانتخاب الجنسي. واجه الرجال والنساء ظروفاً مختلفة للتكيف مع البيئة (خذ مثال ذلك اضطرار الرجال للتأقلم مع وظيفة الصيد والنساء مع جمع المحاصيل)، واختلفت معايير اختيار الزوج بينهم. في نفس الوقت ينبغي التأكيد على أن العديد من التحديات كانت مشتركة بين الجنسين، كتجنب الحيوانات المفترسة وتأمين مكان آمن للسكن والانخراط بعلاقات اجتماعية مع الآخرين. يهتم الانتخاب الجنسي بطريقة الوصول للجنس الآخر؛ إما من خلال محاولة نيل الإعجاب (على سبيل المثال يمتلك ذكر الطاووس ذيلاً “مغرياً” لجذب الإناث)، أو من خلال التنافس بين أبناء الجنس الواحد (تصارع الثيران فيما بينها للظفر بأنثى مثلاً). هناك ما يعرف بنظرية الاستثمار الأبوي التي تقول إن الجنس الذي يستثمر وقتاً وجهداً أكبر في إنجاب وتربية الأبناء يتأنى أكثر باختيار الشريك، بينما الجنس الذي يستثمر أقل في الإنجاب والتربية هو الذي يسعى لنيل إعجاب الجنس الآخر والتنافس عليه. في الغالبية الساحقة من الفقاريات، الإناث هن اللواتي يبذلن الجهد الأكبر في التربية، وبالتالي تتأنى الإناث باختيار شريك حياتهن بينما يسعى الذكور للظفر بانتباه الإناث ونيل إعجابهن.(3)
هناك مثالان مهمان للدراسات التي تفحصت مبدأ تطور الاختلاف بين الجنسين. قام البروفيسور الأمريكي ديفيد بوس عام 1989 بدراسة أسس اختيار شريك الحياة عند الرجال والنساء(4). وقد وجد أن النساء بصفة عامة تفضل الرجل ذا الحالة الاجتماعية المرموقة والدخل المادي الأعلى، بينما يهتم الرجال أكثر بالجمال الجسدي. وقد فسر بوس هذا الاختلاف من خلال مبدأ الانتخاب الجنسي؛ حيث يمكن تفسير اهتمام الرجال بالجمال والصفات الجسدية بأن لدى النساء مدة محدودة يقدرن فيها على الإنجاب، مما يؤدي إلى أن يفضل الرجال جمال المرأة وجاذبيتها المتعلقين مباشرة بنضارتها وقدرتها الإنجابية. في حالة النساء، فإنهن يبذلن المجهود الأكبر في الاعتناء بالأطفال وبالتالي تحتاج الأنثى إشارة على أن شريكها قادر على توفير أصلح بيئة ممكنة لهذه التربية (الحالة الاجتماعية الأعلى تدل غالباً على هذه القدرة). الدراسة الثانية(5) قام بها البروفيسور البريطاني جون آركر، وقدم من خلالها أدلة على أن الفرق بمستوى السلوك العدواني والعنيف بين الجنسين هو نتيجة لمبدأ الانتخاب الجنسي بشكل أساسي وليس نتيجة التعلم من خلال التربية، حيث أن الذكور عامة هم الذين يتنافسون على الإناث مما يقلل من عتبة السلوك العدواني ويزيد احتمالية اللجوء للعنف عند الذكور. يرى آركر أن مبدأ الانتخاب الجنسي يقدم تفسيراُ قوياُ لهذه الظاهرة ويذكر دراسات عدة تدعم رأيه.
لاحِظ أن هذه الفروقات التي يشير لها علم النفس التطوري (سواء في معايير اختيار شريك الحياة أم في السلوك العدواني) لم تكن نتيجة للقوالب الجندرية أو التأثير المجتمعي بل كانت نتيجة فرضيات استلهمت مبدأ الانتخاب الجنسي. تعتبر النسوية أن الكشف عن هذه الاختلافات هو تمييز ضد الإناث، وهذا في منتهى الغرابة حيث لا ينبغي انتقاد العلم لكشفه اختلافات موجودة أساسها التطور والانتخاب، والاختلاف لا يعني أن جنساً أفضل من الآخر. هل الحيوان المنوي أفضل من البويضة؟ هل الإستروجين أدنى مرتبة من التستوستيرون؟ إنها أسئلة بلا معنى.
هناك اعتراض محدد توجهه النسوية لعلم النفس التطوري، وهو أن علماء النفس التطوريين يصدّرون رؤية متحجرة للأدوار الجندرية. إن الاختلافات بين الجنسين في مسألة اختيار الشريك والسلوك العدواني واضحة وعالمية. بالطبع يتداخل سلوك الأفراد أحياناً وتتنوع استجابات الذكور والإناث، فعلى سبيل المثال هناك إناث عدوانيات وإناث يبادرن الرجل ويسعين لنيل إعجابه، وهناك ذكور مسالمون ويهتمون بتربية الأبناء أكثر من إناثهن، لكن المهم هنا أننا معنيون بالصورة العامة التي تسود وتنطبق على المعظم. ومع وجود اختلافات بين المجتمعات إلا أنه لا يوجد دليل على وجود أي مجتمع ذي أدوار جندرية معكوسة(6). ليست آراء علماء النفس التطوريين جامدة أو متحجرة، لكنها تشير إلى الاختلافات العامة الناتجة عن مبدأ الانتخاب الجنسي.
ترتكب العديد من النسويات مغالطة أخلاقية عند انتقاد علم النفس التطوري، ويعني هذا افتراض أن الأشياء التي نراها مرغوبة أو جيدة لا بد أن تكون صحيحة وما لا نوافق عليه لا بد أن يكون خاطئاً. لا أنكر أن النسوية قامت بجهد مهم في الوقوف بوجه الهيمنة الذكورية والمناداة بالعدالة الاجتماعية، لكن هذا لا ينبغي أن يؤدي لرفض الحقائق العلمية لمجرد الاختلاف مع تبعاتها. أستطيع أن أتخيل بوضوح لماذا تتمنى بعض النسويات اختفاء الأدلة العلمية على وجود اختلافات بين الجنسين، حيث سيسهل هذا الأمر ترويج فكرة المساواة بين الرجال والنساء ما دمنا متشابهين جميعاً. لا يجب أن يُنظر للاختلاف كمانع لتحقيق المساواة كما لا يجب أن نبني رؤانا الأخلاقية أو السياسية اعتماداً على نظرية التطور.
هل يمكن أن ينتهي الخلاف بين النسوية وعلم النفس التطوري؟ تشير الباحثة البلجيكية غريت فاندرماسن(7) إلى أن للنسوية والعلوم الحيوية (خاصة علم النفس التطوري) فرصة للتوافق والانسجام. كما ترى أن رؤية الحياة بعيون تشارلز داروين حاجة ملحة أمام الحركة النسوية تستنير بها في معالجة أكثر قضايا النسوية أهمية. لا يزال الطريق طويلاً أمام هذا التوافق بالطبع.