الأگنوتولوجيا (Agnotologie)، مقتبسة من الكلمة الانكليزية (Agnotology)، المنحدرة من اللسان الإغريقي وتتكون من السابقة (a) وتفيد النفي، وكلمة (gnôsis) وتعني المعرفة وكلمة (logos) وتعني الدراسة أو العلم.
الأگنوتولوجيا، أو علم الجهل، علم يعنى بدراسة الإنتاج الثقافي للجهل. وقد صاغ هذا المصطلح مؤرخ العلوم روبرت بروكتر (Robert N. Proctor) عام 1992، ومنحه رؤية جديدة لدى تيار تاريخ العلوم وجعل من الجهل ذاته موضوعا للدراسة. بدلا من ذلك السؤال التقليدي، ما هو العلم؟ (السؤال الكلاسيكي للابستيمولوجيا) أو ما هي الظروف الاجتماعية والتاريخية لمعرفتنا؟ (السؤال الكلاسيكي للسوسيولوجيا وتاريخ العلوم)، هذا المؤرخ انطلق من السؤالين التاليين: كيف ولماذا “لا نَعْرف ما لا نعْرف”؟ بيد أن الشروط متاحة من أجل تحصيل معرفة موثوقة ومأمونة الجانب. ووفقا لهذا المؤلف، فإن علم الجهل ليس فقط دراسة الجهل، ولكنه يعني أيضا دراسة الممارسات التي تسمح بإنتاجه[1].
كما يشمل هذا المفهوم الإنتاج الثقافي للجهل – كما هو شأن البيولوجيا التي أحاطت في وقت واحد بدراسة الحياة وبالحياة نفسها. علينا أن ندرك أن الجهل ليس مجرد فراغ يتم تعبئته بالمعرفة ولا حدّا لم يعبره العلم بعد. هناك سوسيولوجيا الجهل، سياسة الجهل؛ لها تاريخ وجغرافيا – ولها بشكل خاص- جذور وحلفاء أقوياء. صناعة الجهل لعبت دورا هاما في نجاح العديد من الصناعات [2]. ذلك أن الجهل قوّة، وهي قوّة لا يمكن مجابهتها إلّا بعلم الجهل عبر تحليل الميكانيزمات المعرفية القادرة على بث روح الارتياب في الرأي العام، وخاصّة تلك الطرق الّتي تستخدمها جماعات الضغط عندما تكون مصالحها مهددة بفعل الاكتشافات العلمية.
يتعلق الأمر بأن ننظر إلى الجهل ليس فقط بوصفه أمرا محتوما، أو كمحصلة ضروريّة من أولويات برامج البحوث لدينا، ولا حتى كفشل جزئي للنسق التعليمي، كما يريده نموذج “الإفلاس” (deficit model)، ولكن أن ننظر إليه بوصفه ناتجا أحيانا عن فعل ما (action).
يمكن إنشاء الجهل من كلّ العناصر، من خلال استراتيجيات التضليل، والرقابة، أو يمكن صيانته من خلال استراتيجيات الطعن في مصداقية العلوم ومن خلال فاعلين أفرادا أو جماعات، سواء كانت دولة، مؤسسات أو جماعات الضغط …
أن نصوغ السّؤال، نفتح بالتالي آفاقا غير مطروقة في مجالات متنوعة مثل صناعة التبغ، الأمينات والاحترار المناخي، واستخدام بعض أنواع البلاستيك، وهجرة الخبرات من المستعمرات إلى الميتروبولات واضطرابات الغدد الصمّاء، الخلايا الجذعية، وكثير من الأمراض الناجمة عن مواد الاستهلاك التي لا تحترم معايير الجودة ولاسيما في البلدان المتخلفة.
في مجال الفكر والسياسة لدى النخب العربية والناطقة باللّسان العربيّ، أن نصوغ السؤال، سنعرف لماذا لم نعرف أسباب تخلفنا وسنعرف كيف لم نعرف، ومن ثمّة سنعرف أن قسطا وافرا مما كنا نعتقد أنّه علم هو في حقيقته أسوأ من الجهل.
الجهل أصل كلّ الشرور كما قال أفلاطون، بسبب الجهل ينجم الثراء الفاحش والفقر المدقع بشكل محايث، وينجم الطغيان والخضوع بشكل محايث، وبسببه قد ينجم الاستبداد أو الفوضى. الجهل هو أساس الفساد وعدو الإبداع/الخلق، الفساد السياسي، الفساد المالي، الفساد الفكري والروحي، الفساد السلوكي والفساد الأيكولوجي.
يجمع كلّ المشتغلين في الحقول المعرفية أن المعضلة الكبرى الّتي تهدّد المجتمعات، أمنيا وتنمويا، وتحرمها حقها في التطور، بل تحرمها من الاضطلاع بواجبها في فهم شروط التطور عبر الاستعانة بالمجتمعات المتحضرة، هو أنّ نخب هذه المجتمعات لم تتحرر من الجهل، وهذا هو العامل الأول الذي يجعل المجتمعات الّتي لم يتأسس فيها علم الجهل تستمر رازحة تحت أوهام المعرفة، لأنّها لم تتمرس بالعلم الّذي يكشف لها مواطن جهلها.
لاحظ سقراط أنّ النّاس يعيشون مغمورين في ظلمات الجهل بينما يتوهمون أنّهم يعرفون كلّ شيء فلا يترددون في الإفتاء في أي شأن وإصدار الأحكام على أي أمر، وبالتّالي يعملون على تعميم الجهالة.
لم يكن سقراط يدعي الحكمة بل كان يتظاهر بالجهل، ويطلب من الآخرين أن يسعفوه بما لديهم من معرفة، فيوقعهم في الفخ، ومن هذه الوضعية الّتي يورطهم فيها يضعهم أمام جهلهم وجها لوجه، ومن ثمّة يحرضهم على التعلم.
لقد لاحظ سقراط أنّ النّاس في كلّ مكان وزمان يتداولون الألفاظ ذات المساس الجذري بحياتهم، دون أن تتحدّد معانيها بدقّة في أذهانهم مثل ألفاظ: العدل والظلم والشّرف والعار والمثل العليا والقيم والأصالة والحقّ والباطل والخير والشّر … فكان سقراط يطلب من النّاس أن يحدّدوا معاني هذه الكلمات وغيرها تحديداً دقيقاً. لأنّ الإدراك الصحيح يتوقف على هذا التّحديد الدقيق. كما أدرك بعض العلماء من ذوي الرؤية الفلسفيّة من أمثال برتراند راسل وكارل بوبر وباشلار ونيتشه وهايدغر، بأنّ التّصورات السّابقة للعلوم تقف عائقاً منيعاً في وجه المعارف الممحصة وعن رأي باشلار يقول الدكتور فؤاد زكريا في كتابه (نظرية المعرفة): يرى باشلار أنّ نمو العلم يحدث من خلال صراع مستمر مع الخطأ؛ فالحقيقة العلميّة خطأ تمّ تصحيحه، فليس ثمّة قيمة كبيرة لتلك الحقيقة الّتي تظهر منذ البداية واضحة ساطعة متميزة عن كل ما عداها. بل إنّ الخطأ كامن في قلب الحقيقة.
وكان تشارلز ديكنز قد كتب عام 1848، متحدّثا عن صرامة القضاء مع الأطباء غير الأكفاء وتعويضهم لمرضاهم الّذين يتسبّبون لهم في عاهات مستدامة، مُنبّهًا ومتسائلا عن مصير مئات الآلاف من العقول الّتي شوهتها إلى الأبد الحماقات الحقيرة الّتي ادّعت تكوينها. ويعلّق (Thomas De Konink) الّذي أورد ملاحظة ديكنز، في كتابه (الجهل الجديد ومشكلة الثقافة)، قائلا: «والحقارة المجرمة تتعمم اليوم وتخترق كل مكان، والعقبة الرئيسيّة أمام “إصلاحات” الثقافة… هي هذا الجهل الجديد الّذي يؤثّر في ثقافة محيطنا»[3].
الأحد سبتمبر 23, 2018 3:21 pm من طرف حمادي