هو أيضاً من نثر المدينة (1)
في
موضوعته (نثر المدينة)
1 أشار الكاتب والناقد "منصور
أبوشناف" إلى أن الشعر نتيجة طبيعية للبداوة، بينما المدينة فرضت النثر
(وهو يقصد القصة) شكلاً لأدبها.
لقد
احتاجت المدينة النثر أكثر من حاجتها للشعر، فالنثر في المدينة أكثر من
ممارسة، إنه فعل اتصالٍ تواصلٍ ومصالح.. لذا فـ(قصيدة النثر) هي من هذا
المنشأ المديني، إنها نص مديني، أوجده مناخ المدينة، والظرف الحافِّ لها،
الذي عنى مناخاً أكثر للممارسة والتجريب، وعيناً أبعد في آداب الغير وقدرة
على محاورته.. ويمكننا القول أن الشعر أيضاً من نثر المدينة، بمعنى البث
والنشر، فهو ابن شرعي لها ولثقافتها التي تخرج عن طبع الاستقرار والرتابة.
هذا
النثر الجديد المختلف، كان أثراً مدينياً خالصاً، شكلاً لا يعني التغير
بقدر ما يعني الثورة على الشكل القديم، وتكسير حدود التراتب إلى حدود الوصل
والقطع.. لقد تمت العملية في بلادنا شكلية.. بمعنى الانبهار بهذا الشكل
وإمكانيته بالخروج بالشعر/الشاعر من حدود الوزن إلى حدود الإيقاع كوحدة
(وحدة بناء) ومن ثم إلى النص خالصاً (المُخلص للنثر)، ولعل الدليل في هجمة
أنصار القصيدة التقليدية ونعتهم هذا الخروج بالاستسهال وضمور الموهبة..الخ.
وبعيداً
عن هذه الدَّوشة، سنلاحظ أن بدايات قصيدة النثر في ليبيا
2 (نتجاوز هنا الشعر الحر أو قصيدة التفعيلة) هي بدايات الانبهار بالشكل، أو
ما يمكن تسميته بـ(صدمة الشكل) في خروجه عن المعروف، وقدرته على القول،
فكان الاتصال الأول هو اتصال اختبار ومحاولة وقياس لإمكانية هذا الشكل،
ويمكننا أن نقف في تجارب قصيدة النثر الأولى على الكثير من محاولة منح النص
المكتوب سمتاً إيقاعياً، من خلال المراوحة في التفاعيلات، أو اعتماد
(النسق السماعي).. بحيث لا يدخل القصد باعثاً على كتابة هذا النص، إنما
الرغبة في اختبار الشكل ومحاولته، دون وعيٍ حقيقي بأبعاد التجربة.. هذه
الصدمة قادت جماعة الشعراء للتجريب بغية قراءة حس التلقي الداخلي وصداه
الخارجي في التَّلقي، وهكذا بدأت متابعة هذا النص الجديد، ومراقبة إنجازاته
في النتاج العربي، وانعكاس الغربي على الأوربي، يعني أن النتاج المحلي
لقصيدة النثر إنما كان اختبار ومحاولة للنتاج العربي المقدم، دون قصدية أو
تعمد لكتابة قصيدة نثر خالصة، وعليه كانت الأشكال أكثر إثارة من النص ذاته،
ومن غاياته، إنها محاولة الاقتراب من نتاج أكثر من إنتاج.. إن النصوص التي
تدفق منشورة ومطبوعة كانت نتيجة مباشرة، حاولت أن تستهلك كل الأنماط التي
حاورت قصيدة النثر، خاصة وأن فترة السبعينيات والثمانينيات شهدت الكثير من
محاولات التجريب على الصعيد العربي.
نص/
إرهاصات زمن السقوط3/ الشاعر:
عبداللطيف المسلاتي:هذا
زمن فيه يغاث الناس
وفيه
تعود الأرض –لزخرفها-
هذا
زمن الفقراء
لا،
زمن الإرث المثقل بالتيجان
وبالأمراء
فتلك
وجوه ترى الغضب شواظاً
يعبر
كل مدى
قد يسأل
البعض لماذا التركيز على موضوعة (القصد) في كتابة قصيدة النثر؟.. وإن كنت
أن أرى أنها من الموضوعات المهضومة سلفاً، إلا أنني أوجز، أن القصد في
قصيدة النثر هو المحرك الأساسي لهذا الشكل، الذي يعني امتلاك القياد لكتابة
نصٍ خارج ما هو معروف، والاستفادة من إمكانيات البديل، للتجاوز به.. وربما
من مبدأ الإخلاص للنص، قفز قصيدة النثر في ليبيا قفزتها التي خرجت بها من
دائرة الاختبار والمحاولة، إلا دائرة التجريب خارج الأشكال، بالاتجاه
إمكانات النص الأخرى، وتفعيل الأدوات المغْـفول عنها، فكانت اللغة الأكثر
وهجاء واشتغالاً.. ولعلي بالاتكاء على هذا الملمح أعود للوراء قليلاً،
لأقول أن مراقبة تقنيات اللغة في بدايات قصيدة النثر في ليبيا وما تلاها
(في البدايات) يكشف بحق الجفوة بين النص ولغته، حيث الإخلاص للشكل كانت
ضريبته اهتمام بالحالة أكثر من تفصيل اللغة المقولةُ بها.
إنه
يمكننا القول أن تسعينيات القرن الماضي كانت البدايات الحقيقة لقصيدة النثر
في ليبيا، وهي ذات الفترة التي أعادت فيها قصيدة النثر قراءة نفسها عربياً
وعالمياً.. لقد بدأ العمل على النص مباشرة، على تفاصيله وآلياته
والاستزادة أكثر مما يمكن أن يأخذه النص من الحياة، أو التجربة.. إن هذا
الإخلاص للنص بقدر ما حبس الشاعر ضمن دائرة نصه الواحد بحيث لم يخرج عنه،
مكنه بذات الوقت من إعادة اكتشاف نصه، ومحاولة إضافة الجديدة في كل مرة..
إن النص في هذه الدائرة (دائرة الإخلاص) يظل حبيس شكله، بينما داخله ينمو
ويتجدد، حتى إن ليضيق بشكله المحدد.
(2)
المدينة
وهي تفرض إيقاعها الخاص، وتستأثر بساكنها وتخصه نفسها، كان على ساكنها أو
ممارس فعل فيها أن يتقيد بشروطها وأوليات خطابها المتمثل في منطق (الأخذ
والعطاء/ السؤال والجواب/ الإرسال والاستقبال)، أو الاتجاه صوب الخطاب
والجمل الإنشائية التي تفترضها الحياة المدينية.
والإنسان
العربي الذي طبعه الترحال والانتقال دون الاستكانة في مكانه طلباً للماء
والكلأ، كان عليه في المرحلة المقبلة التخلي عن حداءه للغناء بين جدران
المدينة التي صارت تضمه، وصار النثر في هذه المرحلة أكثر توطَّداً، ليترك
الشعر للمجالس والسهرات.. وهكذا من مجرد الكلام إلى الكلام المكتوب، القادر
على الحمل والإيصال من مجرد الصور والمجازات، وأخفي في هذا النثر الكثير،
وحمل الكثير.. وكلما كبرت المدينة وتمكنت من أهلها وقدرتها على ربطهم بها،
تفككت أشكال النظم والاتصال، من اتصال الوحدات إلى الوحدة، ومن الوحدة غلى
المفردة أو اتصال المفردات ضمن دائرة الاتصال والانقطاع والدلالات.
بالاعتماد
على جزء الموضوع الأول.. فإن (قصيدة النثر) عرفت تجربتها الحقيقة بداية
تسعينات القرن الماضي، حيث بدأت تخلصها من إسار الشكل أو العمل على
الأشكال.. (صدمة الشكل) بدأت تفقد بريقها أمام التجارب العربية المطروعة
والمتطورة، أو من خلال الطروحات التنظيرية العربية أو في مصدرها الأصلي
(الغربي).. حيث بدأت القصيدة/الشاعر يعيد قراءة نصه في ضوء المقدم، وعلى
خلفية (صدمة الشكل) واختبار الشكل والمجاولة، تمكن الشاعر من امتلاك قصدية
الفعل لكتابة نصَّ.. (قصيدة النثر) في هذه المرحلة تنطلق من قصدية ونية
مبيتة للكتابة، لكتابة نصٍ مختلف، بإيمان قدرته (دون التعويل على الأوزان
والتفعيلات) على القول.
نص/
من يرفد الجمر4/ الشاعرة: فوزية
شلابي:كلما
كشف زبد الاحتمال
صعوبته،
سقط
الوقت.
وبين
رذاذ البحر
وحمأة
الأرجواني،
لثغة
وأعقاب سيجارة.
فمن
يرفد الجمر،
وحبّة
الخوخ
تستبيح
أول السر
يا
سمحة الدهواره.
في هذه
المرحلة بدأت النصوص تتخلص من شبهة الشكل الواحد، الشكل الواحد الذي قام
عليه النص نتيجة وحْدة التوجه والتعامل مع التجربة.. فبغض النظر عن (هندسة
النص) المعتمدة التفقير (الفقرات) والجمل المرسلة والمقطَّعة، جاءت الجملة
الشعرية متشابهة في نصوص الشعراء، في نظامها وتركيبها.. نظامها الأدائي
المتجه مباشرة للإمام، وتراكيب الصور وتقنيات المجاز، وهذا يؤكد إلماحنا
إلى سيطرة الشكل على التجربة، حيث الغلبة للشكل أو للبصر في انتظام وحدات
النص وقياس اتزانه.. وبالدراسة سنكتشف أن ثمانينيات القرن الماضي كانت أغنى
فترات (قصيدة النثر) وأخصبها شعراً وشعراء، والذين تواصلت بهم التجربة إلى
تسعينيات القرن ذاته (باحتساب بعض الاستثناءات والإضافات)، حيث من مدخل
القصدية والنية المبيتة كانت قصيدة النثر المنتجة نصاً خالصاً لتجربة
النثر، حيث بدأت النصوص تتخلص لإشكالها الجديدة التي أفنى فيها الشعراء
معرفتهم وتجربتهم.
نص/
لساعة القلب أنت5/ الشاعر:
عبدالرحمن الجعيدي:تدقّ
ساعة القلب
ينبض
قلبك
بمجيئك
ورحيلك
تتكحل
المواعيد
تدق
الساعة منتصف الليل
كوردة
تسافرين في دمي بأول رحيل لليل عن النهار
...
حيث
تخلص النص من رهبة الشكل وأسره، واحتمى بالشاعر، فكان صوته وأداته التي
ينطق بها أو يقول بها، والقول من أهم محركات النص، والبحث في النص هو بحث
في القول أو كيفيته في شكلٍ بعيد عن تقليدية القول (المقصود الشعر)، شكل
يتجاوز الإجراءات إلى الأبعد، أفق أكثر حرية للقول والانغلاق، فلن ننكر
رغبة الشاعر في الانغلاق على ذاته، بعيداً عن ربكة الحياة، وكأنه يتخذ النص
تميمة للمقاومة، إنه بصورة أخرى يتحول إلى سارق نارٍ مختلف.. في هذه
النقلة سوف نتحدث مباشرة تحت عنوان (قصيدة النثر)، محاولين مقاربة هذا
الشكل النثري المديني، الذي احتوته المدينة ومنحته الكثير من همها ومن كل
منجزاتها..