ترجمة شوقي عبد الأمير
للإجابة عن مثل هذا السؤال -بكلمتين، أليس كذلك؟- يُطلَبُ إليك معرفةُ كيفية التخلي عن المعرفة. إن معرفةَ ذلك وعدم نسيانه، يسرِّح جيوش الثقافة. ولكن ما تضحِّى به أثناء ذلك وأنت تعبرُ الشارع، عليك ألاَّ تنساه أبداً في خضمِّ جهلك العلمي.
من يجرؤ على أن يسألني ذلك؟ وحتى لو لميَبْدُ شيء من ذلك، لأن الاختفاء هو قانونُهُ فإن الإجابة منصوص عليها. أنا إملاءٌ -يقول الشِّعْر- احفظني عن ظهر قلب، انسخْ واسْهَرْ وحافظْ عليَّ، انظر إليَّ إملاءً تحت النظر: شريط صوتيٌّ –استَيْقِظْ- أثر نور، صورةُ عيد في حِداد.
ومن المنصوص عليه أن يكون الجوابُ شعريّاً. ولذا فهو مدعوٌّ لمخاطبة شخصٍ ما،وخاصةً أنت ككائنٍ ضائعٍ في الغفلةِ أو الخَفاء، بين المدينة والطبيعة، سرٍّ مُقْتَسَم، هو في آن معاً عامٌ وخاصٌ، قَطْعاً هذا وذاك، مُبَرّأٌ من الخارج والداخل، لا هذا ولا ذاك، الحيوان المُلْقى على الطريق، مُطْلق، مُتَوَحِّد، ملفوف على شكل كرة قرب الذات. ويمكن له أن يتعرَّضَ للسحق أو الدهس، بالضبط لهذا السبب، أي لأنه أشبه بالقنفذ.
و إذا ما أجبتَ بشكل مختلف -حسب الحالة- آخذاً بعين الاعتبار المكانَ والزمان الممنوحَين لك مع هذا الطلب «طبعاً أنت تتكلم الإيطالية»، وبواسطته بالذات، ووفْقَ هذا الحساب ولكن أيضاً في رحابة رحلة خارج الذات، يُغامر بها المرءُ نحو لغة الآخرَ سعياً وراء ترجمة مستحيلة أو مرفوضة بالضرورة ولكن مرغوبة ومشتهاة مثل موت؛ تُرى ما علاقة هذا كله، هذا الذي انتهيتَ سلفاً من الهذيان به، ما علاقَتُهُ، مذ ذاك -بالشِّعْر؟ وما علاقته بالشِّعريِّ بالأحرى، لأنك تزمع الحديثَ عن “تجربة”، كلمة أخرى مرادفة لكلمة رحلة، وهي هنا نزهة راجلة محتَملة لمسيرة ما، المقطع الشعريُّ الذي يدور ولكنه لا يفضي أبداً إلى الخطاب، ولا إلى الذات، ولا يقتصر أبداً على الشِّعر المكتوب والمنطوق وحتى المُغَنَّى.
وإليكم على الفور الجواب في كلمتين -لكي لا ننسى.
1- اقتصاد الذاكرة: ينبغي للقصيدة أن تكون موجزة، بواسطة نزعة إضمارية أيّاً ما كان المدى الموضوعي أو الظاهري. وذلك هو اللاوعي العلمي للتكثيف وللانسحاب.
2- القلب: ليس هو القلب في وسط جُمل تَمُرُّ بلا مجازفة بين الطرقات وتسمحُ بترجمتها بكل اللغات. ليس هو بكل بساطة قلب أرشيف تخطيط القلب، موضوعة المعارف والتقنيات والفلسفات والخطابات البيو -أخلاقية- قانونية. وقد لا يكون قلبَ الكُتبِ المقدسة أو قلْباً بأشكال، بل ولا حتى قلب هايدغر. كلاَّ، إن تاريخ “قلب” مغلَّق شِعْريّاً في مصطلح «الحفظ عن ظهر قلب»، مصطلحِ لغتي أنا أو مصطلح لغة أخرى.. إنها الرحلة نفسها ولكن طرق متعددة.
اثنان في واحد: المُسَلَّمة الثانية تنطوي داخل الأولى. فلنقُلْ أن الشِّعْر هو ما ترغبُ في تعلُّمه، ولكن من الأخرى وبفضلها وتحت إملائها، عن ظهر قلب. أليست تلك أساساً هي القصيدة، عندما يُعطى ضمان، وعند وقوعِ حَدَث، في اللحظة التي يكون فيها عبورُ الطريق المسمّاة ترجمةً بعيدَ الاحتمال مثل حادث، مع أنها مطلوبة ولازمة هناك حيث يظلُّ ما تَعِدُ به دائماً غير مُرْضٍ؟ اعترافٌ ينحو نحو ذلك بالذات ويُشيرُ هنا إلى المعرفة: بَرَكَتُك قبل العلم.
أسطورةٌ قد تستطيعُ روايتَها باعتبارها هبة القصيدة؛ إنها لقِصَّة رمزية: أحدهم يكتب إليكَ، لكَ، عنكَ وحولك. كلاَّ، هي علامةٌ إليكَ مُوَجَّهَة ومُعطاة ومُقدّمَة، مُرفَقةً بإيعاز في الواقع يُقلِّدُ نفسه بهذه الطريقة نفسها التي تقومُ بدَورها بتشكيلكَ، مُعيِّنةً أصلَكَ أو مُتيحةً الفرصة: دمِّرني، أو بالأحرى اجعل مساعدتي غير مرئية في الخارج، في العالم «تلك هي أساساً سمةُ كل الانفصامات، وقِصّةُ التفوُّق والتجاوز»، اجهدْ على أن يبقى مصدر العلامة من الآن فصاعداً مفقوداً أو من المتعذَّر معرفتهُ. عِدْني بأن تتحرف وتُغير شكلها أو لن تكون هيئتها غيرَ محددة، وستسمع تحت هذه الكلمة ساحلَ الانطلاق مثلما ستسمع المدلولَ الذي إليه يدلُّ استعمال معين. كُلْ، اشربْ، ازْدَرِدْ رسالتي، الْبَسْها، انقلها واحملها في داخلك مثل قانون كتابةٍ أصبحَ جَسَدك. الكتابةُ في نفسها خديعة الإيعاز، يمكن لها أولاً أن تستلهمَ من مجرد إمكانية الموت، ومن الخَطَر الذي تمثّلُه عَرَبَةٌ أو سيارة بالنسبة إلى أي كائن فانٍ. ستسمع دبيب الكارثة الوشيكة. ومنذ أن تغدو مطبوعة في القَسَمات نفسها، ومنذ أن تَنبُعَ من القلب، فإن رغبة الإنسان الفاني ستوقظ في نفسك الحركة «متناقضاً، ستتبعني بدقَّة، إرغام مزدوج وإكراه شَكَّاك» بأن تَقِي من النسيان هذا الشيء الذي -في الوقت عينه- يُعرِّضُ نفسه للموت ويحمى نفسه، وبعبارة أخرى: البراعة، انسحاب القنفذ، مثلما على جادّة يتكور حيوان على نفسه على شكل كرة. وقد يروم المرءُ أن يأخذه بين يديه، أن يتعلّمه وأن يفهَمَه، وأن يحتفظ به لنفسه وبجواره.
أنت تُحبُّ المحافظة على ذلك في شكله المتفرد، وقد يُقال هذا بحرفية الكلمة المتعذَّر استبدالُها إذا كان الحديث يدور عن الشِّعْر وليس فقط عن الأدب بشكل عام. بيدَ أن قصيدتنا لا تؤدى دوراً مناسباً عن طريق الأسماء، ولا عن طريق الكلمات. إنها قبل كل شيء مُلقاة على الطرقات وفى الحقول، شيء أبعد من اللغات، حتى ولو اتّفق لها أن تذكرتْ عندما تجتمع، متكَوِّرةً على شكل كرةٍ على مقربة من النفس، مُهَدَّدَةً أكثر من أي وقت بانسحابها: إنها تعتقد حينئذ بأنها تدافع عن نفسها، في حين أنها تضمحل.
حرفيّاً: قد تريد أنت أن تحفظ عن ظهر قلب شكلاً فذّاً تماماً، حَدَثاً لا يُفصل تفرُّدُه المقدسُ عن المثالية، المعنى المثالي -كما يُقال- عن جسم الحرف. الرغبة في عدم الانفصال بشكل مطلق “االلامطلق المطلق” توحي إليك بمنبع الإبداع الشعري. ومن هنا تتأتى المقاومة اللامتناهية لنَقْل الرسالة التي يطالب بها الحيوان -مع ذلك- باسمه هو. إنها استغاثةُ القنفذ. ما معنى الشدة والضغط؟ ذلك معنى صارم يدعونا إلى الحذر. من هنا النبوءة: تَرْجِمْني، اسهرْ، قِني بعضَ الشيء، انْجُ بنفسك، ولتدرك الجادّة.
هكذا يُشرق في نفسك حُلم الحفظ عن ظهر قلب.. وأن تترك قلبَكَ يُغزى ويُخترق بالإملاء. بجَرّةِ قلم واحدةٍ، ويكون المستحيل، تلك هي التجربة الشعرية. ما كنت تعرفُ -بَعْدُ- القلب. وها أنتَ تتعلّمه هكذا، انطلاقاً من هذه الخبرة ومن هذا التعبير. وأنا أدعو قصيدةً كلَّ شيء يعلّم القلب، ويخترع القلب، وكلَّ شيء يبدو أن كلمة “قلب” تريد أن تقوله وكلَّ شيء يصعب عليَّ في لغتي أن أميِّزَهُ عن القلب. القلب، في قصيدة «احفظ عن ظهر قلب» لا تعني فقط الدخيلة المحصنة، العفوية المستقلة، وحريةَ أن تتصنَّع بنشاطٍ إعادةَ إنتاج الرسم المحبوب. إنَّ ذاكرةً «عن ظَهْر قلب» تكشِفُ عن نفسها مثل صلاة «هذا أكثر من مؤكد»، لخارجانية معيَّنة من الإنسان الآليِّ، ولقوانين تَقْوية الذاكرة، ولهذه الطقوس التي تُقلِّد عند السطحِ الآلةَ، وكذلك للعجلة التي تباغت شَغَفَك وتَدهَمُك كما لو كانت تأتي «عن ظَهْر قلب» “answendig”بالألمانية.
إذن: فقلبُك ينبض بالحياة، ولادةُ الإيقاع، بعيداً عن التناقضاتِ، والداخل والخارج، والتمثيلِ الواعي والأرشيف المهجور. هو ذا قلبٌ هناك بين الأزقة الضيقة والشوارع الفسيحة، خارجَ حضورك، متواضعاً، لصيقاً بالأرض. رَدِّدْ هامساً: لا تكرّرْ أبداً… وبحرف واحد، تُختتم القصيدةُ «احفظها عن ظَهْر قلب» دفعةً واحدةً، المعنى والرسالةَ، مثل إيقاعٍ ذي حَيِّزٍّ وقتيٍّ.
للإجابة بكلمتين، إيجاز –مثلاً- أو اصطفاء، قلب أو قنفذ يتعيَّن عليك أن تعطِّلَ الذاكرةَ، أن تنزعَ سلاحَ الثقافة، وأن تعرف نسيانَ المعرفة، وأن تُضرمَ النارَ في مكتبةِ الشِّعْر والشُّعراء. إن وحدة القصيدة مُعَلَّقَةٌ بهذا الشرط. يجب علي إحياءُ الذكرى، يجب عليك الاحتفالُ بنسيان عبارةِ عن «ظهر قلب» ووحشيَّتِها، بل وحتى حماقاتِها: القُنفذُ. إنه ينبهرُ ويَعْمى، ويندفع مُكَوَّراً، منتصبَ الأشواك، سريعَ العطب وخَطِراً، ماهراً في التخطيط وغير متكيِّف «لأنه يكوِّر نفسه على شكل كُرة، مُوجِساً خيفَةً من الخطَر الذي يترصَّده على الطريق السريع، إنه يُعَرِّض نفسه للحوادث». ما من قصيدةٍ من غير حادث، وما من قصيدةٍ لا تُفْغَرُ مثل جرحِ، ولكن لا تكون جارحةً بالقدر نفسه. ستدعو الرُّقْيَةَ الصامتةَ قصيدةً، وهو الجرح عديم الصوت الذي أرغب أن أتَعَلَّمه منك عن ظهر قلب. لقد وُلدتْ إذن -في مُجْملها الأساسيِّ- من دون أن يصنَعَها أحد. إنها لا تُبدي أي مقاومة، إنها تُسْلِمُ زِمامَها من غير جهد ومن غير عمل، وتبدأ بالأسلوب الأكثر رزانة، بعيدةً عن كل صُنع، وبعيدةً -بشكل خاص عن الخلق أو الإبداع. تأتي القصيدةُ وتَحْدُث مباركةً قادمة من الآخر. إيقاعٌ ولكن مع عدم تَناظُر. ليس هناك سوى قصيدة، أما الشعر فيأتي لاحقاً. حاذر بشكل خاص أن تأخذ القنفذ إلى السيرك أو إلى أرجوحة الشعر. فما من شيء يصنع الشعر أو “الشِّعر المحض” أو البلاغة المحضة ولا الملكة سبارش (sprache) ولا “استخدام الحقيقة”. فقط تصنعه العدوى ومفترق الطرق وهذا الحادث.
هذا الصَّرْحُ هو انقلاب هذه الكارثة. إن هِبَة القصيدة لا تذكر شيئاً، وليس لها أيُّ عنوان، ولا تمثِّل أي دور.. إنها تأتي على غير انتظار منك، وتقطع الأنفاس، تُهشِّمُ الجسور مع الشِّعْر الاستطراديِّ وخاصة مع الشعر الأدبيِّ. أي في رماد هذه السلالة. ما من عنقاء ولا نسر؛ إنه القُنفذ ملتصقاً بالأرض. وما من قصيدة رائعة ولا معنوية ولا ملائكية لبعض الوقت ربما. من الآن فصاعداً ستدعو الشَّغَفَ بالأسلوب المتفرِّد قصيدةً، وكذلك التوقيع الذي يعيد تشتُّتَه الخاص في كل مرةٍ بعيداً عن “اللوغوس” (logos anhumaine) المستأنَس بالكاد، وغير القابل لإعادة التملُّك في عائلة الموضوع: حيوانٌ منضوٍ، مُكَوَّرٌ، مُقْبلٌ نحو الآخر ونحو النفس؛ شيء في مُجمله متواضع ورصين معفَّر بالتراب أو لصيق بالأرض، أي التواضع بعينه الذي يحملك هكذا إلى الاسم بعيداً عن الاسم.. قُنفذٌ مجازيٌّ، أشواكُه كُلُّها منتصبةٌ تماماً، عندما يسمع هذا الأعمى الذي لا عُمر له، ولكنه لا يرى الموتَ الآتي.
تستطيع القصيدة أن تتدحرج مثل كُرة، ولكنها تفعل ذلك لكي تبثَّ إشاراتِها القويةَ نحو الخارج. بوسعها ولا ريب أن تتأمَّل اللغة أو أن تقول شِعْراً، بيد أنها لا ترجع قَطُّ إلى نفسها وهي لا تتحركُ أبداً من تلقاء نفسها مثل تلك الأسلحة التي تحمل الموت. حَدَثُها يقطع دائماً أو يُفسِد المعرفة المطلقة، والكائنَ القريب من الذات داخل غائيّة الذات. “وحشُ القلب” هذا لا يَقِرُّ له قرار، لأنه يتيه “هذيان أو نزوات”، يضع نفسَه تحت رحمةِ الحظ أو الصدفة، ويترك نفسه بالأحرى ليُجرحَ ويتمزقَ بما من شأنه أن يدهَسَهُ.
بلا موضوع: لعلَّ ثمةَ قصيدةً تُسْلِمُ قيادها، ولكنني لا أكتب شيئاً من هذا القبيل أبداً. أنا لا أضع توقيعي على القصيدة مطلقاً. الآخر يوقِّعُها. والأنا ليست إلاَّ بانتظار هذه الرغبة: الحفظ عن ظهر قلب مطروحٌ لكي يختصرَ نفسَه لعونه الخاص، أي بلا عون خارجي، بلا جوهر، بلا موضوع -فقط مستنداً إلى الكتابة في نفسها- يترك نفسه لاختيار بعيداً عن الجسد والجنس والفم والعيون، إنه يمحو الشواطئ ويُفلت من الأيدي؛ أنت تسمعه بالكاد ولكنه يعلّمنا القلب. إنه نسَبٌ، ضمانةُ انتخاب معطاةٌ كإرث، يمكنه أن يهاجم أيَّ شيء حيٍّ أو جامد، باسم القنفذ مثلاً، بين الحياة والموت، عند هبوط الليل أو عند بزوغ الفجر، مثل كارثة خاصة وعامة، علنية وسرية.
– ولكنك ابتعدت عن القصيدة التي تتحدث عنها، إذ لم يحدث قط أنّها ذُكرت على هذه الدرجة من التعسف.
– لقد قلت هذا آنفاً. ذلك ما كان ينبغي إثباتُه. تَذَكَّر السؤال: ما هي.. ابكِ انقراضَ القصيدة، إنّها كارثةٌ أخرى، وبتساؤلنا عن ماهيتها، فإنّ سؤالاً يأتي ليُرحِّبَ بميلادِ النثر.