ان القراءة النشطة والنقدية لرواية الصديق سالم
شاهين (( رفسة حصان )) تفتح آفاقا ً وفضاءات ممتعة ...فهي نموذج للنص
الروائي المحلي المتفجر في مساحات واسعة .
فالرواية بشخصياتها المحورية الثلاث تنبض بالحركة والأبداع لتنثر ظلالها
على محدودية المكان، ومتوجهة نحو آفاق تتشابك مع شخصيات متوزعة مكانيا ً
وزمانيا ً مع بعضها ، لذلك فالعلاقات التي تربط هذه المجموعة تختلق بحسب
الواقع .
الرواية تهدف الى احداث اثر في القارئ ، وقد يكون المؤلف خطط له مسبقا ً ،
وقد يكون نتيجة للصدمات المتوزعة على مساحة الرواية ، وهذه الصدمات هي
الحافز لأستمرار القراءة وخلق متعة القراءة .. ومهما يكن الهدف فالقارئ
يبحث عن نص يطير به الى اجواء بعيدة ويمنحه تجربة جديدة ، ويريه مملكة من
الأبداع وقبول هذه المملكة يكون من خلال النص الجديد المتوهج وليس النص
المنعكس من مرآة التقليد والأعارة ، وغياب الخلق والأبداع ، فرواية رفسة
حصان ، هي ضغط الواقع على الأنسان في المجتمع على الرغم من قدم احداثها
التي سجلها الخيال ورددتها الذاكرة فتلك الأحداث تتكرر بشكل او بآخر .
ان هذا النص الروائي وان كنت تجد فيه ثغرة هنا او هناك لكنه في المحصلة
النهائية انجاز ادبي رائع .
انه عطاء فيه شاعرية اللغة ، وتوزيع الأحداث والشخصيات المتناسقة ضمن
مكانين هما البيت والخان فضلا ً عن مركز الشرطة ، فالبيت والخان يشكلان أهم
عنصرين مكانيين ،لأرتباط البيت بطقوس مثيولوجية يفيض فيها المعتقد بالجنون
حينا ً والشفقة والحلم حينا ً آخر . .
لذا كانت هذه الطقوس تمتد في اللاشعور فتؤجج المشاعر الحزينة وتمزج الألم
بالحزن والأمل باليأس . . . انه تداخل غريب مع الغائب الذي يصحو عى الأصوات
المرتفعة ليمارس الثلاثة الطقوس دون وعي منهم ، الا أن سعدان الذي يمثل
الجانب المرفوض من الأنسان الرث / البخيل / الأنطوائي / الجشع ، ومع كل هذه
الصفات نجده يعطف على اخته نصرية ويدخل جزء في ممارسة الطقوس الغريبة حيث
يتصاعد الحلم ويدور حول السدرة ، فيطفو الوهم حولهم وترتد اصداء المناجاة
الجريحة في فضاء البيت .
واذا حاولنا تفكيك النص يعود ليلتم من جديد في الذاكرة منسقا ً هذا العمل
الأبداعي ليكشف لنا عن عين وذاكرة تبوح بسر نجاحه واستمرار بقائه ويدفعنا
هذا الألتمام لقراءة ثانية وتنسيق العمل وفق رؤية تتصاعد الأحداث فيها عبر
النص الآخر ، الذي خلقته ذاكرة القراءة والتفكيك والألتمام الجديد ...
فالمؤلف نجح بشكل جميل في توظيف اشكال التاريخ في النص ضمن تمفصل انتاج
الأدب الروائي اولا ً،فالحدث التاريخي ارتبط زمنيا ًبالواقع لذلك ؛اصبحت (
دكَة العميان ) محطة تأريخية وسنة يتذكرها كبارالسن بنوع من السخرية على
الرغم من حدوث جريمة قتل قام بها اذكى العميان بقتل صاحب العصا الذهبية .بل
ان هذه الحادثة اصبحت تأريخا ً للميلاد ، ففلان ولد في سنة ( دكَة العميان
) ومن هنا فالرواية اشارت الى سنوات مهمة في تاريخ المدينة وانتفاضاتها
تضامنا ً مع الأحداث المهمة التي مرت كعام 1948 وعام 1956 وغيرها .
ان هذا التوظيف منح الرواية بعدا تاريخيا لأنها سجلت الحدث التاريخي ادبيا ً
دون انحياز الى جهة محددة ، لذا فهي تمنحنا صورة التاريخ النقي الأبيض
الذي لم يلوثه الأنحياز ، فقد كان انحياز المؤلف الوحيد لعمله الأبداعي ،
لذلك كانت رقابته على ابطاله ، موقفا ً اخلاقيا ً وتأريخيا ً مع الحفاظ على
الكتابة في فضاء الأبداع والتخيل المقبول .
ومع كل الخطوات التي رسمها المؤلف كانت الأحداث تتداخل وتنبض بالتوترات ،
فيرتب المؤلف خطوات وحركات ابطاله ويملك زمامها لتبقى ضمن محاورها ، فهناك
شخصيات رئيسة مثل سعدان ونصرية وذويب وهم رموز لشرائح الواقع ، وكذلك هناك
شخصيات ثانوية كالعميان الذين قتلوا صاحبهم،وزوجة العطار، وصانعه، والشرطي
،والمحقق الخ ....
ولعل رسم حدود وابعاد الشخصية يمنح المؤلف رؤية قوية لأي عمل ينتجه .
ان نجاح كل روائي يكمن في خياله الخصب ورؤيتة الواسعة وسيطرته على حركة
ابطاله .
والمؤلف سالم شاهين كان قاسيا ً على بعض شخصياته الثانوية ، لذلك لم يمنح
هذه الشخصيات سوى ومضات ولعل هدفه كان الحد من تمرد وضياع دور ابطال
الرواية، فالرواية على مستوى دائرة النص الشعري قد حققت الوظيفة التعبيرية
في اهدافها والتي تهدف ( الى تعبير مباشر عن موقف الفاعل تجاه ما يتكلم
عليه ) وهذا النجاح هو ثمرة ثقافة المؤلف في ايصال افكاره ، اذ انه مارس
كتابة الشعر قبل دخوله عالم المسرح والرواية ، والتركيب اللغوي الشعري عنده
ليس فيه تشويش او معوقات لفهمه .
وهكذا حقق الوظيفة الأدراكية اي الأرجاعية المركزة على السياق والوظيفة
التوكيدية التي حافظت على ابقاء القارئ متواصلا ً مع النص الروائي فضلا ً
عن الوظيفة الشعرية التي ارتبطت بذات النص الروائي دون قصد او اقحام مفتعل
من قبل المؤلف .
اما عن طبيعة الشخصيات اذا استثنينا شخصية العطار ، فتكاد تكون جميعها
مفعمة بالسلبية ، اذ كان العطار يعي الأحداث بمنطق ايماني يمثل طيبة اهل
المدينة عامة .
ان قوة ذويب التي يتوهمها اهل المدينة على انه يستطيع ان يقتل ثورا ً برفسة
، بل كان الناس ينسبون اليه الخوارق من الأحداث ليبعدوا ابناءهم عنه .
وأكد هذا الوهم الحرص على عدم خروجه الى الشارع سوى ثلاث مرات في حياته .
المرة الأولى عام 1947 والثانية عام 1956 ، اما الثالثة كانت يوم ( دكَة
العميان )
وذويب هو احد الشركاء الثلاثة الذين ورثوا عن ابيهم بيتا ً اثريا ً فيه
سدرة كبيرة تقع وسط البيت وحول ساحة البيت تتوزع الغرف ذات الشبابيك
التراثية لتلتقي مع صورة الخان وبنائه الأثري الذي كان هو الآخر قد ورثه
الثلاثة ، وكان مأوى الغرباء واهل الكدية ،ببابه الذي رسمته انامل النجارين
في القرن التاسع عشر ..
وبين الخان والبيت تدور الأحداث وتتصاعد مع كل يوم ، فنصرية تمارس طقوسها
مساء كل خميس تدور حول السدرة وهي تلبس ثوب زفافها املا ً في عودة الزوج
الذي هجرها ، ولما وصل اليأس حد الأنفجار ثارت على جنونها ومزقت ثوبها ،
ودمرت كل احلامها المريضة .
وسعدان ورث مع الخان والبيت اموالا ً حافظ عليها وكانت متعة عدّها ونثرها
على فراشه بعد غلق باب الغرفة على نفسه ، ثم احترقت الدنانير يوم احترق
البيت ، وذويب كان خائفا ً ينفذ ماتأمر به نصرية ، وما يأمر به سعدان فهو
تابع مسلوب الأرادة .
اعتقد ان المؤلف اكد الجانب التراثي الفلكلوري في الرواية كما كان مع العدل
الألهي، فالقاتل يُقتل منطلقا ً من مفاهيم القرآن الكريم ، فإبن المقتول
ينتصر على قاتل ابيه . انه القصاص الذي اشار اليه القرآن الكريم .كما اشار
المؤلف الى صور الفساد الأداري اذ ان المحقق سرق العصا التي ملأها المقتول
بالليرات الذهبية هي صورة تدل على ذلك الحكم البائد والأنحراف الذي كان
انعكاسا ً لطبقة الحكم في زمن امتدت النزاهة والطيبة في قلوب الناس .
كما يمكننا القول ان ( رواية رفسة حصان ) للمؤلف سالم شاهين هي قفزة نوعية
تمنح القارئ متعة ونفعا ً ، لاسيما وقد تداخل النص التاريخي بالنص الأدبي ،
فذكـّرنا بالأمس ولكن بلغة فنية وعمل ابداعي جميل .