يجري الحديث في بعض الأحيان عن أزمة الأغنية
الجديدة بمعنى الطريق المسدود . وسواء كان هذا التعبير صحيحاً أم مجانباً
للحقيقة فلا علاقة لمارسيل خليفة وإنتاجه به . فهو فنان لا يكف عن الإختلاف
، حتى عن نفسه في كل مرة يقدم فيها عملا جديداً ، وهو أيضاً لا يفتر عن
تقليب الحقائق الفنية التي بين يديه على أوجهها المختلفة ، ويبدو أنها أوجه
لا نهاية لها ، لأن تلك الحقائق لا تنفك تغتني بالمعطيات الجديدة ، ولأن
قلق الفنان الحقيقي يقود دائماً الى طرق جديدة . في هذا السياق يتأكد لمن
تأمل في منجز مارسيل خليفة بأنه كان دائما على موعد إشكالي مع المجهول /
المعلوم . فهو يعي تماماً أن التكرار قبر ،ولهذا لم يكرر ذاته منذ ألبومه
الأول "وعود من العاصفة" الصادر في ديسمبر 1977م ، مروراَ بمجموعته
الغنائية "أعراس" في 1979م ، و"عالحدود" في 1981م وحتى عمله الملحمي
"غنائية أحمد العربي" في 1984م .
وطالما
حدث خلط عند الحديث أو الكتابة عن أولوية ما قدمه مارسيل خليفة : هل هو
ألبوم "وعود من العاصفة" أم "أعراس" ؟ ، وكلاهما إشترك فيهما الشاعر محمود
درويش . حيث يؤكد دارسوا أعماله أهمية تحديد العمل الأول ، لأن ذلك يفسر
جزئية هامة في أسلوبه الفني ، وقد يرجع سبب الخلط الى أن أغنية "وعود من
العاصفة" كانت عملاً نخبوياً بإمتياز ظهر إبان حمأة الحرب اللبنانية ، فلم
يلتفت إليه ،حينذاك، سوى قلة من النخبة ، بإعتبار أنه عمل عابر لن يصمد
صاحبه في وجه التهجير الذي أدت إليه الحرب . . لكن الفتى الأسمر النحيل ذو
اللحية الخفيفة إلتف حول هذه النخبة وفاجأ الجماهير ،الرازحة تحت الإقتتال
اليومي، بأغانيات تقترب من الحس الشعبي العميق ، حيث غنى باقة "أعراس"
المحتوية على : "الليل اللي ما خافوا منو" لطانيوس دعيبس ، "ياحادي العيس"
لشوقي بزيع ، "ياعلي" لعباس بيضون ، "وطني" لمحمد العبدالله و "يا بحرية"
لفرقة الميادين ـ التي رافقته سنيناً بعد ذلك ـ وهي أغاني توائم بين ما هو
جماهيري وشعبي ونخبوي في آن واحد . إذ يثبت من خلالها أن أي شأن من شؤون
الحياة قابل للتناول الجمالي ، وقابل لأن يتحول عبره الى سلاح ضد الإستجابة
السهلة التي تعمل الموسيقى التجارية على إشاعتها وتنميتها .
من خلال
هذا المدخل الساعي الى إيجاد صيغة فنية جذابة أجتهد مارسيل منذ بداياته في
تكوين جمهوره وإقناعه بتلك القناعات الفنية المتسربلة بالوعي الفكري الحاد
، فلم تلكن تلك الأغنيات ببعيدة عن النبض الشعبي، بل على العكس تماماً إذ
هي رحيق الحس السائد بين العامة . والتي أسس لها شريط أعراس بحزم ، ليمهد
دخوله الى الشعبي والمعاش والمعتاد برؤى موسيقية تصور أحاسيس خبيئة وتتكامل
مع الكلمة والشعر والصوت الإنساني . . بدا مارسيل مركزاً على بقعة محددة
من ذائقة الجماهير ، على تفصيل بعينه تنبثق منه موسيقى غير مألوفة ، بالرغم
من شيوع صياغاتها اللحنية وإنتمائها الواضح الى الذاكرة الجمعية ، ولكن
إحساس الفنان لديه نقل ما هو شائع ليصبح ساخناً ومتحركاً ومنحدراً من
الأعماق في أغنيات : "الشوفيريه" و "الخضرجية" و"بوليس الإشارة" و"بيروت
الحرب اليومية" بمشاركة الفنانة أميمة الخليل . فهؤلاء الشوفيرية أو سائقوا
سيارات الأجرة الذين سحبتهم المدينة من أرضهم ، و أولائك البياعين أو
الأصح المشترين الذين طارت معاشاتهم لدى هؤلاء . ثم اولاد البحر الذين
تمرمرت قلوبهم على ظهر البحر طلباً للصيد والحياة . وقبل تلك الأغاني
إفتتاح موسيقي "طلع الضو" كإنه إشارة الشمس وندائها للعمال و(الشغيلة)
الكادحين لينهضوا ويبدءوا الكفاح اليومي .
نخلص
الى أن تلك الأغنيات أحدثت فعل السحر لدى الجماهير، فالتفتوا نحوها بقوة ،
واهتموا بمغنيها الذي يشبههم ، الذي يبث فيهم طاقة ومشاعر من نوع خاص لم
يعهدوها من قبل .
مع
إنطلاقة شريط "عالحدود" إنطرح سؤال ملح على كل من استمع إلي الأغاني ويقرأ
الكراسة ، فالكلمات التي بثها الشريط كانت تحمل معاناة اللبناني ،
والموسيقي كانت تنبع من قمة جبل لبنان ومن أعماق الجنوب اللبناني ، بمعنى
أنها كانت تعبر عن هموم الناس البسطاء ، رجال المدينة وساسة الدولة وقواها
المحركة ، فلماذا يغني مارسيل للأولاد والأطفال.؟
يمكن
القول أن الأطفال عند مارسيل هم رمز الجيل الجديد، والولادة الجديدة بعد
المخاض الأليم الذي عاشته بيروت تلك الأيام ، ومع أن الأطفال لم يلعبوا في
مأساتها ، إلا أنهم تحملوا العبء الأكبر من التراجيديا بفقد أبائهم وفقد
أمان الحياة ، وعليه فإن هذا العبء سيظل نقطة الجذب في الولادة الجديدة
المنتظرة.، لهذا ربط مارسيل الأولاد بالتراث من ناحية ، وبالأحداث من ناحية
أخري، ربطهم بالتراث لأنه اتكأ علي الموروث الشعبي الموسيقي ( لفولكلوري)
في معظم ألحانه، وربطهم بالأحداث من خلال الكلمات والتعابير التي تعكس حالة
الحزن والفجيعة وتحمل في طياتها بوادر الولادة المنتظرة.
في هذا
السياق، نلمس في موسيقي "إضراب بالمدرسة" : إنها ذات منحى سيمفوني هاديء
فيه أنفاس من تشايكوفسكي "بحيرة البجع" وفي الخلفية يسمع هرج الأولاد
المضربين وربما أصوات تكسير الزجاج كإشتغال درامي صوتي.
كما أن أغنية "توت توت عابيروت" أُخذ مطلعها وإيقاعها من أهزوجة قديمة
متوارثة ومتداولة بين الصبية . . إذن فمارسيل خليفة نجح في ربط القديم
بالجديد من خلال رؤية متفهمة لواقع أطفال لبنان والعالم العربي ، وأن هذا
الربط هو الجواز المروري للعبور الى داخل شرائح جديدة من المستمعين والتوحد
معهم ، الأمر الذي وسع من محيط جمهوره ، وبالتالي مهد لإقتحام آفاق أكثر
رحابة في مختلف أنحاء العالم .
مع صدور
العمل الملحمي "غنائية أحمد العربي" في العام 1984م ، كان مارسيل قد ترسخ
لدى الجماهير العربية كموسيقي وفنان متفرد ، فأعتبرت الغنائية بمثابة
النقلة النوعية على صعيد تجربته التي فتحت له بوابة العالمية . لكن التساؤل
الذي ينبغي أن يطرح هو : هل مثلت الغنائية نقلة على صعيد الغناء أم على
مستوى الموسيقى ؟ أم على مستوى تعامله مع النص الشعري ؟ وعن علاقة الجمهور
بهذا النوع من التأليف الذي تتقدم فيه اللغة الموسيقية وتتراجع فيه الأغنية
، بالمعنى الذي إعتاد عليه المتلقي لأعمال مرسيل السابقة ، خاصة أنه قد
(ربى) هذا المتلقي ـ كما أسلفنا ـ على ذائقة متجاوزة ، أهم سماتها أنها
ذائقة تقبل التأرجح بين المعلوم عن فنه ، وبين غير المتوقع /المتوقع .
خاصة
وأن غنائية أحمد العربي حضرت كعمل له علاقة درامية مسرحية واضحة بالتجسيد
المشهدي للموسيقى ، لا سيما وأن المخرج المسرحي يعقوب شدراوي وضع كتابة
مشهدية لهذه الغنائية منذ العام 1984م ، لكنها لم تنفذ . . يؤكد مارسيل في
إحدى حواراته عنها على أن ( الشكل السائد في الموسيقى العربية هو شكل غنائي
، وبالتالي فإن الشكل الأفضل لتطوير الموسيقى العربية هو تطوير الأغنية
ذاتها ووصلها بالفنون المسرحية والمشهدية ) .
غنائية
أحمد العربي ، إذن عمل ملحمي يتبارى فيها النص الشعري لمحمود درويش مع
الموسيقى التركيبية التي وضعها مارسيل وفق رؤية درامية مشهدية ، موظفة
لبناء إحساس عام بتصاعد عالم صوتي متميز ، يحاول إيصال مضمون فكري ووعي
بعلاقات عوالم حادة ،
وعلى هذا الأساس فهي تعد شكلاً متميزاً
يجمع بين العرض المشهدي والباليه والأوبريت والإلقاء الشعري بطريقة درامية
أقرب الى التلاوة الشعرية المدعومة بخلفية المؤثرات الصوتية.
khalidrabeei@hotmail.com وعود من العاصفة
شعر : محمود درويش
رؤية موسيقية وغناء مارسيل خليفة
وليكن ...لا بدّ لي أن أرفض الموتوأن أحرق دمع الأغنيات الراعفةْوأُعري شجر الزيتون من كل الغصون
الزائفةفإذا كنت أغني للفرحخلف أجفان العيون الخائفةفلأن العاصفةوعدتني بنبيذوبأنخاب جديدةوبأقواس قزحولأن العاصفةكنّست صوت العصافير البليدةوالغصون المستعارةعن جذوع الشجرات الواقفةوليكن ...لا بد لي أن أتباهى بك يا جرح
المدينةأنت يا لوحة برق في ليالينا
الحزينةيعبس الشارع في وجهيفتحميني من الظل ونظرات الضغينةسأغني للفرحخلف أجفان العيون الخائفةمنذ هبّت في بلادي العاصفةوعدتني بنبيذ وبأقواس قزح