قراءتي للشعرِ من منظور الباحثة عن
ماهية الشعر في النص تختلف عن قراءة الباحث عن ماهية الشاعر، فربما انفصل
النص عن كاتبه وانتسب أحدهما إلى قيمةٍ لا تتوافق مع الآخر، ولكن في النص
الذي يقنعني بتكوينه المنفرد لاشك في أن المبدع له يمثلُ الروح الحقيقية
التي تختبئ فيه وتمنحهُ الصورة الإنسانية/ المرآة الواضحة العاكسة لفكره
وشاعريته في مخيلة الآخر. منذ النص الأول الذي قرأته بدأت معرفتي بشاعرية
علي الحازمي.. تلك التي جعلتني لا أوافق الجرجاني حين قال: «الشاعرُ يقولُ
قولاً يخدعُ فيه نفسهُ ويريها ما لا تراه»، لأنني لم أرَ خلاف ما صورته
رؤيته من خلال النص، ولا أتوقع أنه خدع نفسه بقدر ما مثلها في لحظة
التكوين.. فالنص ليس خدعةً يمكن نسجها وتقديمها للمتلقي، كونهُ رؤية
إنسانية عاطفية بحتة يريدُ الشاعر من خلالها إكمال جماليات الحياة من حوله
بجماليات ذاته الحاضرة، وليس إكمال ذاته بالحياة كيفما تشكلت، وإن كانت هذه
العلاقة تفاعلية عكوسة لا ننكر أثر كل طرف فيها على الآخر..!!
ربما يمكن تخصيص قول الجرجاني وحصره في تجارب معينة وسط هذا الزخم الهائل
من الشعراء والنصوص التي ترتفع بها موجة الحداثة المفككة والتقليدية
الجامدة البحتة.. ولكنني أقرأ الآن وأنا على ثقة تامة بأن الشاعر كائنٌ
يجيدُ رسم صورهِ في مخيلة الآخر كما تخلقت في فكره، وهذا ما أنا بصدد
الكتابة عنه كمتلقية.. إذ سأوثق رؤيتي بعد تأملي لديواني الشاعر السعودي
علي الحازمي: «خسران» و «الغزالة تشربُ صورتها».
***
مخيلةُ الآخر
لابد للمتلقي من أن ينسج ما يرد إلى خياله من صور وفقاً لطبيعته الخاصة،
وحجم ثقافته وعلاقته بالأشياء من حوله، ووفقاً لمدى وبعد ما يراه ويؤمن به
ويؤثر فيه، وقلما يكون الناص قادراً على تقديم نص تحتوي أبعاده الحقيقية
روحاً أخرى خارجة عن مدار الشاعر.. وهي ذات المتلقي؛ إذ يكون هذا المحتوى
خاصاً به ويمثله بصورة أخرى، ما يمنح النص ميزة «الإبداع» الذي يرتقي
بمدارك الإنسان وعواطفه من فرد لآخر، أو من متلقٍّ لآخر.
العناصر التي كونت لغة الحازمي الشعرية ليست محصورة في بند خصوصية اللغة
والمصطلح، ولم تكن الفوارق التي جمعت هذه المصطلحات من نص لآخر في
المجموعتين سالفتي الذكر سوى فوارق الطبيعة التي تنقلت في أمثلة مختلفة،
بحسب التدرج الزمني الجميل الذي التقى حول فكرة الشاعر ورؤيته؛ هذه الرؤية
التي حملت «الذاتية، وذاتية الآخر؛ فالمكان الذي يحمل أبعاد الحاضر هو
المكان الذي يحتضن الغزالة ويمتد إلى السهول والنخيل وطين البيوت وطفولة
«عائشة».. وكأن لهذا القارئ مدناً أخرى يعبرُ إليها من دون تكلفٍ من خلال
ما بناه الحازمي في ذاكرته وخياله كشاعر.. ومنحهُ للآخرين كمسافة سفرٍ
ورقعة إقامة مطلقة في هذه المدن الشاهقة.
***
فنياً.. ليس للشاعر أن يقرر ناتج لحظته، ولكنهُ سيكون مهيأً لقراءة الحياة
من خلال هذه اللحظة.. ربما يدرجُ سؤالٌ بين قوسين: ((كيف لهذا المعنى
الوصفي القصير المسمى باللحظة أن يمثل الامتداد الشعري الرحب لقصيدة؟!))،
بينما لحظة الشاعر ليست محددة ببعد معين لأنها ممتدة بحال واحدة لا يمكن أن
توصف بأنها لحظات متناقضة، كونها تترابط وفق خطوط معينة تتواصل في المخيلة
لتنتج الصورة أو الصور التي تلتقي في مشهدٍ شعري/ فني واحد. في قصيدة
«غبطة تجف» من ديوان «خسران» التي بدأت بالإشارة إلى المساء:
«هذا مساءٌ ليس يعنيه امتعاض شفاه من أهدت حرائق روحها..».
تمثل «الليل، الصمت، الشرفة الهادئة، الريح، النخلة، سنابل شعرها..».
وقبالة كل هذه المعاني المقتطفة من الطبيعة لم يكن انعكاس الداخل أو الذات
سوى «الضياء»، حتى في الوهج الذي تبعثهُ الروحُ حين تحترق، وكأن الصور لا
تتجرد من فلسفة الظاهر والباطن، وفي الوقت نفسه هي تقرأ طرفينِ يوصلانِ إلى
فهمٍ أوسعَ لإنسانية القوة والعاطفة التي تنبعثُ من عناصرَ رمزية طبيعية،
ربما لو أخذت بسهولة انكسارها ورقتها لما استطاعت حقيقة أن تكون أكثر قوة
واستمرارية من حجبها عن وجودنا وفضائنا البسيط لأنها جزء من إرادة كونية
أكبر.. وتعبر عن إرادة ذاتية جميلة تتعلق بالحياة وتقع في داخل هذا الكون!
وليس لأي إنسان القدرة على محاكاتها ومحاورتها ذاتياً.. والإمساك بكف
الآخرين لإيصالهم إلى ماهيتها من خلال الإنسان كخيال وإدراك متكامل.
هنا؛ انحيازي للطبيعة وقربي منها ليس خاصاً بي كمتأملة.. وأتشارك مع
الإنسان في كل شخصية متكاملة وناضجة روحياً بهذا الشعور الذي يسمو بخبرتنا
الجمالية، ويمنحنا قدرة التواصل مع الحياة وفهمها والتطلع إلى عكس جوانبها
الحية الإيجابية في ذواتنا، فلا يمكن بأية حالٍ من الأحوال وفي مراحل
مختلفة أن نهمل عمق المعنى لكثيرٍ من الأشياء.. ولا يمكن أن نقع خارج لحظة
الشاعر، فهي ليست مفروضة علينا.. بل محتوية كل عناصر الحياة التي مرت بنا..
وتشكلت كجزء من العاطفة الحرة المطلقة التي تربطنا بها.. لذا تحدث عملية
التوافق مع الرؤى بكل عفوية!
فهذا «المساء» الذي تكرر في أكثر من نص لدى الحازمي لم يكن مفرغاً من
النور.. بل إنهُ وعلى رغم العتم الذي يحكمهُ كصورة ظاهرة.. إلا أنهُ يشكلُ
امتداداً للصبحِ في الداخل الإنساني.. وينتهي بانتظاراتٍ تزاوجُ بين هدوء
الحزن ونقطة الوصول التي يعبر عنها الحلم الواقع خارج الزمان في مدى تحققه!
***
اختصر الحازمي الكثير الذي انعكس على وجدانية نصوصهِ وصورها.. وبرأيي أن
النص إذا بلغ عاطفةَ الآخرين وُفّقَ في رسم ما تصورهُ الشاعر وآمن به في
مخيلات الآخرين أيضاً، وربما أقنعهم بعوالمَ لم تكون واضحة أو مؤثثة في
مداركهم.. ليفتحَ آفاقاً صادقة ورحبة لقراءة الإنسان من خلال الزمن
والطبيعة والوجدان الذي تطوقهُ أعمق الأحاسيس الإنسانية، وتقربه من فهم بعض
جوانب الذات الساكنة لديه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* شاعرة وكاتبة سعودية.