و(الحق ال
مجرد) له هدفان أساسيان يتصلان بافتراضه للشخصية - أحدهما إيجابي والآخر سلبي. الهدف الإيجابي هو تحديد الشكل المؤسسي الذي يجب أن تتخذه الحرية الجماعية، تسبقه مقدمة أن الفاعلين في العالم هم أشخاص. إن فرض هيجل المنهجي هنا هو أنه لو سلمنا بأهمية الشخصية، فإن الحجة التي يصنعها يجب أن تقدم لنا أسباب وجيهة لنشعر بالتوافق مع المؤسسات والممارسات موضع التساؤل. والثاني، هو هدف سلبي (للحق المجرد) وهو أن يوضح أن الممارسة الجماعية للحرية تشمل أشخاص فقط، وأن المؤسسات والممارسات المتأصلة في الشخصية لن تكون قابلة للتطبيق: ما لم يحز الفاعلون الذاتية والعضوية إضافة إلى الشخصية، فإن ممارستهم للحرية ستكون مقوضة لذاتها، بل حتى أن شخصيتهم ستكون في خطر. ويعلن هيجل المهمة الإيجابية بأنها تتمثل في الاهتمام بمؤسسات الملكية والعقد. إن تحليله للملكية يتمركز حول تأكيدين أساسيين: الأول أن الشخص هو موضوع لذاته - أنه ينظر لنفسه - في ملكيته. الزعم الثاني أن هذه الخبرة لكونه موضوع لذاته تسمح للشخص أن يصبح (إرادة فعلية). إنه من خلال نظره لنفسه في ملكيته، فإنه يطور ويعزز طاقاته وفهمه الذاتي الذي يصنع الشخصية.
يؤكد هيجل أن الشخص في ملكيته يمكنه أن يرى دليلا على فاعليته واختياراته. إنه يصنع اختيارات ما، ولحد أن ملكيته لا يتم تقسيمها من جانب أخرين، تسجل ملكيته تأثيرات تلك الاختيارات بطريقة قابلة لأن يتم تمييزها بوضوح سواء بالنسبة إليه أو بالنسبة إلى الأخرين. وفي هذه الطريقة، يرى نفسه على أنه شخص ما لا يأخذ ولا يريد أن يأخذ موقفه على أنه معطى، لكن على أنه يفرض إرادته الخاصة وفعله على ما يحيط به. إن هذا الإدراك لاستقلاله وفاعليته يساعد الشخص بدوره على تطوير شخصيته ذاتها وبقائها، يساعده على أن يصبح (إرادة متحققة). والتأكيد الإيجابي مما يحيطه يدعم معنى أنه حر؛ أي يتمم وجوده الحر. ويتعزز هذا المعنى بشكل أبعد من خلال قبول الآخرين - ويتم هذا بقوة التعاقد - ويصبح هذا ممكناً من خلال الحضور الذاتي للشخص عبر ملكيته. وعلى العموم، فإن موقف هيجل أنه من المهم بالنسبة إلى الأفراد أن تكون لهم ملكية لأنه من المهم أن يطوروا شخصيتهم ويحافظوا عليها. تساعد الملكية على فعل هذا، لأنها تعطي الأفراد والآخرين إدراكا راسخا باستقلال الفرد، الإدراك الذي يؤكد (مباشرة وعبر قبول الآخرين) معنى ذاته على أنه مستقل وهذا جزء أساسي لكونه شخص.
هذه الحجة للملكية هي على قدر علمي حجة مميزة في تاريخ الفكر السياسي. لا ترتكز على الأفكار الجدلية عن خلط العمل أو الصحراء المشهورين عند جون لوك، ولا تستدعي التفكير في الحاجة أو المنفعة. بدلاً عن ذلك، فإن الحجة تثبت اتصالا متطورا بين الملكية والحرية: إن امتلاك حد أدنى من الملكية على الأقل هو شيء محوري لتطوير الطاقات المتضمنة في الفاعل الحر والحفاظ عليها. ومن المثير للسخرية، أن حجة هيجل ربما تجد أعظم استجابة لها ليس في النظريات التالية عن الملكية، بل في النقد الماركسي المؤسس على الاغتراب لعلاقات الملكية الرأسمالية. بالنسبة إلى ماركس، فإن العمال يغتربون تحت الرأسمالية لأن نموذجهم المسيطر من التداخل مع العالم المادي ليس هو ما تُمنح فيه مساعيهم نحو الشخصية الحرة أي تأكيد إيجابي.
وبالرغم من أن مؤسسات الملكية والعقد هي شروط أساسية لتطور الفعل الحر، فإن هيجل يعتقد أنهم يمثلون مجرد مرحلة (مجردة) في عملية التطور على نحو خاص. لقد أكد أن التحقق الكامل للحرية يستدعي مجموعة من المؤسسات الأكثر ثراءً والأكثر واقعية وأكثر كلية بشكل حقيقي، وتشمل الأسرة والمجتمع المدني والدولة. ومن القسم السابق تكون لدينا فكرة ما لما هو مُتضمن في هذا التطور من المجرد إلى الواقعي. المراحل المجردة - مهما كانت ضرورية - فإنها تفتقر الكفاية بذاتها. إنها تابعة للسوالب الديالكتيكية والتناقضات الداخلية، ويجب أن يتم استردادها وجعلها قابلة للتطبيق بتقديم مجموعة جديدة من التحديدات الأكثر واقعية.
لماذا قد تفتقر الممارسة الجماعية للحرية بهذا المعنى؟
أحد الأسباب هو أن البنية المؤسسية تعمل على نحو فعال لو فقط أن القواعد الثابتة للسلوك التي تشكل تلك البنية بشكل جزئي مقبولة ومُتبعة بشكل عام. على سبيل المثال، لو أن نظام الملكية الخاصة المزمع تأسيسه والحفاظ عليه له نتائج مفيدة لتطور الأفراد الذي توقعه هيجل، فإن الناس يجب أن تحافظ على ملكية وشخصية الآخرين بشكل عام، ويحافظوا على عقودهم ...إلخ. وأيضاً فإن اتباع مثل هذه القواعد من السلوك، فإنه يعني قبول الأعباء والتضحيات أو على الأقل الامتناع عن بعض الأفعال التي تسعي لتحقيق مصلحة ذاتية بشكل مباشر. وهذا يفترض أن أحد الأسباب الأساسية التي قد تكون سبب في أن تفتقر البنية المؤسسية الاكتفاء الذاتي هو لو أنها تفشل في إقناع الناس بالنظام لقبول الأعباء والتضحيات المطلوبة للحفاظ عليها وتفعيلها على نحو فعال.
في الجزء الأخير من الحق المجرد يبرهن هيجل على أن الملكية والتعاقد يقنعان الناس بالدوافع والأنظمة التي تقودهم، ليتصرفوا بطرق تقوض مؤسسات الملكية والتعاقد. وكما نعرف، هذه المؤسسات تشجع الفاعلين للتفكير في أنفسهم على أنهم مستقلين في مواقفهم المعطاة وقادرين على الاختيار بأنفسهم. وتنشأ المشكلة من أن شخص مثل هذا يمكنه أن يختار أي سبيل خاص للفعل: مفهوم الشخصية هو مفهوم محايد فيما يتصل بمحتوى غايات الفاعل. وهذه مشكلة، لأنه كما رأينا فإن العملية الفعالة والإبقاء على مؤسسات الملكية والتعاقد تعتمد على فاعلين لهم غايات ما وليس لهم غايات أخرى: لابد أن يحافظوا على العقود ولا ينتهكوا ملكية الأخرين. لو أن الفاعلين هم مجرد أشخاص، وليست لهم دوافع أبعد، وليس لديهم أي فهم أعمق، فإنه من الممكن أن يريدوا حقاً الغايات الضرورية لبقاء المؤسسات المطلوبة للحفاظ على شخصيتهم. وفي هذا المعنى، فإن النجاح الحق للبنية الاجتماعية المكونة من الملكية والتعاقد في تحويل الفاعلين إلى أشخاص يبدو أنه يكفل نهايته الخاصة.
ولذلك، فإن المشروع الهيجلي ليس مشروعاً أفلاطونياً لإيجاد طرق لكبح الشخصية وتعزيز التبعية، بل هو على النقيض إلى حد ما، فإن همه هو تحديد سمات العالم الاجتماعي الحديث التي تخلق روح الشخصية المستقلة وتخلق تبعية مقبولة بطريقة راسخة ومُدعمة بذاتها. وبالفعل، فإن أحد طرق فهم بنية ما هو متبقي من (فلسفة الحق) هو أنه محاولة لتطوير حل تناقض بمؤسسات الملكية والتعاقد. الملكية والتعاقد شرطان ضروريان لتطوير حرية الفاعل، لكن بالإشارة لهما هما مقوضين ذاتياً، ولذلك فإن بعض الجهد الإضافي للبينة المؤسسية مطلوب من أجل تحقيق الحرية المبتغاة.
أحد المؤسسات التي يقدمها هيجل لأجل هذه الغاية هو العقاب: لقد افترض العقاب ليصرف الأفراد عن بعض الغايات وتوجيههم نحو غايات أخرى بفرض إدانة اجتماعية على الأفعال الخاطئة. ويعتقد هيجل بأن هذا هو جزء من حل التناقض الذي حدده في (الحق المجرد) لكنه ليس حل للمشكلة كلها: بقدر ما أن للفاعلين شخصية فقط، وليس لديهم فهم أعمق للذات إلى حد ما، فإن العقاب سوف يظل غير متميز عن الانتقام، وسوف يكون من المستحيل تحاشي الصراع المؤدي إلى عدم الاستقرار.
الجزء الثاني من فلسفة الحق (الأخلاق العملية Morality) بفكرته عن الذات يفترض نوعاً مختلفاً إلى حد ما عن مشكلة الكفاية الذاتية التي تم تقديمها بالملكية والتعاقد. إنها تفترض إن مشكلة استقرار البنية المؤسسية المطلوبة لتطوير شخصية حرة يجب أن تحل لو أن الفاعلين لا يحوزون مجرد شخصية لكن ذاتية أيضاً. إن غايات إرادة الذات تكون من عندها بشكل مميز. إن له أغراض ونوايا ووعي، وهو ذات فقط بقدر ما يكون فعله الظاهر تعبير عن نطاق فعله الباطن. وباعتبار أن له أغراض، يمكن أن نعتقد بأن الذات مسئولة، وباعتبار أنه شخص ما له نوايا، فإننا نعتقد أن له مصالح أزيد أو أقل. وباعتبار أن له وعي، فإن الذات متصلة بفكرة ما عن الخير، والتي ربما تحاول أن تحققها عبر الفعل. في (الأخلاق العملية) تكون لدينا صورة للعالم الاجتماعي الذي يتفاعل فيه الأفراد بعضهم مع بعض ليس فقط كأشخاص عبر مؤسسات الملكية والتعاقد والعقاب، لكن أيضاً كذوات، لهم غايات مميزة تخصهم، وإطار مقترن بها من المسئولية والرخاء والخيرية. إن فكر هيجل هو لو أن الفهم الذاتي الأساسي وتنظيم الأفراد لا ينبع فقط من الشخصية المستقلة، بل أيضاً يتمركز حول إرادة بعض الغايات المحددة، فإن التناقض الذي يصيب (الحق المجرد) سوف يتم حله.
وكما هو الحال مع العقاب، فإن هيجل يتمسك أيضاً بأن الأخلاق والذاتية هما جزء من حل التناقض ولكنهما ليس الحل الكامل. وهناك مشكلتان منفصلتان في طريقة حل التناقض بالأخلاق: واحدة تتعلق بمحتوى الوعي، والثانية بدوافع الأفراد. مشكلة المحتوي هي ببساطة مشكلة ما إذا كانت الغايات والواجبات التي يجد الأفراد أنهم ملزمين بها بعد البحث في وعيهم ستكون هي نفسها الغايات والواجبات التي تدعم البنية المؤسسية المطلوبة لتطوير شخصيتهم وذاتيتهم والحفاظ عليها أم لا. وتتعلق مشكلة الدافع بما إذا كان الأفراد سوف يميلون لأن يتبعوا ما يمليه عليهم وعيهم أم حاجتهم بدلاً عنها. ويؤكد هيجل أن الأخلاق بنفسها غير قادرة على أن تدعم هذه الضمانات المطلوبة لتقديم الكفاية الذاتية للمؤسسات التي قدمها في (الأخلاق العملية)، كما في (الحق المجرد)، فإنه يكون من المحتمل تماماً أن يكون للأفراد غايات محددة ودوافع مطلوبة لتحقيق تطور الحرية.
وما تتضمنه هذه الحجة هو الافتراض بأن القناعات والقيم والدوافع الأعمق للفرد تشكلت من خلال الممارسات الاجتماعية والمؤسسات التي يشارك فيها. ولذلك ربما نتوقع أنه في بيئة اجتماعية حقة، فإن الأفراد سوف يجدون غايات حقة في وعيهم ودوافعهم وسوف يتبعون تلك الغايات. وأيضاً، فإن المشكلة هي أن الأخلاق كما يفهمهما هيجل لا تصنع أي فروض على الإطلاق عن المؤسسات والممارسات الاجتماعية (باستثناء الفروض عن الملكية والتعاقد، والتي قدمت التناقض في المقام الأول). (الأخلاق العملية) هي في الواقع محاولة لحل التناقض الناشئ في (الحق المجرد) بطريقة غير مؤسسية ولهذا السبب بالذات محكوم عليها بالفشل. إلا في بعض المؤسسات القائمة، لا يكون هناك سبب لافتراض أن الأفراد ببحثهم في وعيهم وبالتفكير في دوافعهم سوف يتخذون قرارات ترسخ من البنية المؤسسية التي أقرتها الحجة من قبل.
والتصور الثالث لهيجل عن الفعل ناقشه في (الحياة الأخلاقية Ethical Life)، وهو أطول قسم في (فلسفة الحق)، وهنا يتعامل مع الفاعلين ليس على أنهم محض أشخاص أو ذوات، بل أيضاً أعضاء في مؤسسات اجتماعية معينة: الأسرة والمجتمع المدني والدولة. وتفرض هذه المؤسسات مهام متنوعة على أولئك الذين يشغلون أدوارا نحددها بأنها واجبات: على سبيل المثال، الأبوين وأعضاء الجماعة والمسئولين العموميين والمواطنين. إنها تجعل أعضائها اجتماعيين بأن تكون لهم تنظيمات ذاتية لتدعم وتؤكد هذه الواجبات. (الحياة الأخلاقية) هي نطاق الفضيلة، لأن المؤسسات الأخلاقية تفرض واجبات على أعضائها وتغرس فيهم الميل لانجاز تلك المهام.
إن ما ذكره هيجل عن المجتمع المدني والدولي هو من بين أهم إسهامات هيجل الشهيرة في الفلسفة السياسية. في مناقشته للمجتمع المدني يحدد مجال من علاقات السوق ومؤسسات الأمن والنظام والحياة المجتمعية التي لها التزامات عميقة للحياة الاجتماعية للجماعة، والتي تم الاعتراف بها وتنظيرها بصعوبة في الفلسفة السياسية التقليدية. يؤكد هيجل أن هذا المجال له منطقه وديناميكيته الخاصة به، والتي من المهم أن تكون متميزة عن تلك التي للأفراد المنعزلين أو للعائلة من ناحية، وللدولة من ناحية أخري. لقد تأثر هيجل بشكل خاص بكيف أن نشاط السوق والحياة المجتمعية هما نطاقان يسعي فيهما الفاعل بشكل واع أن يحقق حاجاته الخاصة في حين أنه في نفس الوقت يخدم مصالح الآخرين بشكل غير واع وغير مباشر، ويحقق بعض الظروف لحريته الخاصة.
على النقيض من المجتمع المدني، فإن الدولة وفقاً لمفردات هيجل، تشير إلى مجموعة المؤسسات والممارسات التي تتمركز عن وعي وبشكل مباشر على ما هو عام، حول تحقيق الخير الأسمى من الحرية لكل المواطنين. إن الدولة تتكون من سلطات سياسية وتشريعية وتنفيذية عليها الحفاظ على شروط الحرية للجماعة كلها على أنها موضوع تفكيرها ومعرفتها وتجد الوسيلة وتطبق القرارات على هذا الأساس. إنها أيضاً المجال الذي فيه تشمل التنظيمات الأساسية للأفراد والوظائف العمومية وغيرها الفضيلة المدنية والوطنية. والشيء الأكثر غرابة والأكثر صدمة هو مدحه المفرط للدولة بزعمه أن (الحرية تتحقق بأعلى مستوياتها) في الدولة، حتى أنه يؤكد أن (أن الدولة تتكون من مسيرة الله في العالم). وفي وجهة نظر هيجل، تمثل الدولة قمة نظام الحق الذي طوره خلال (فلسفة الحق). إنها محورية لتحقيق الحرية، ليس فقط أن يخص الأفراد مؤسسات أخلاقية بشكل عام، بل أن يكونوا مواطنين خيرين في الدولة العقلانية.
إن السمة الأخرى الجديرة بالملاحظة في بحث هيجل للدولة هو رؤيته لما يشكل بالضبط دولة عقلانية. إن الدولة كما يقدمها هيجل، هي ملكية دستورية بسلطة تنفيذية وسياسية وهيئة تشريعية. ومثل أفلاطون، كان هم هيجل الرئيس هو التأكيد على أن الناس الذين لديهم معرفة أسمى وفضيلة يشغلون المواقع الأساسية للسلطة. إنه يصف السلطة التنفيذية التي يتم اختيارها بشكل خاص على أساس الفضيلة والتدريب وجعلها اجتماعية من خلال المعرفة والالتزام بما هو عام. ولمنع الانحراف فإن المراجعات والتوازنات المؤسسية المتنوعة مطلوبة. وتشمل تلك عضويات متشعبة للهيئات الرئيسية، فضلاً عن رصد الموظفين العموميين من أعلى من جانب الوزراء المختارين من الملك ومن تحت من جانب المشرع. ويقف هيجل ضد الانتخابات التشريعية المباشرة على أساس أنها تعطي الكثير من الدور الحر للآراء الساذجة لأفراد متشذرين. لكنه يعتقد أن وجهات نظر الناس العاديين يمكن أن تبنى وتتشكل على نحو مناسب عبر المشاركة في جماعات وتجمعات المجتمع المدني، ويؤكد أن السلطة التشريعية يجب أن تتكون من نواب منتخبين من جماعات في المجتمع المدني. هؤلاء النواب يمكنهم أن يلعبوا دوراً مهماً، ليس فقط في فضح الفساد الرسمي، لكن أيضاً في التوسط بين متطلبات وتوقعات المجتمع المدني من ناحية، وقرارات وقوانين الدولة من ناحية أخرى.
ووفقاً لهيجل، فإن التحقيق الكامل للحرية يمكن أن يتم فقط لو أن الأفراد هم أعضاء في مؤسسات أخلاقية. وتتحقق الحرية في الحياة الأخلاقية لأن مؤسسات وممارسات الحياة الأخلاقية المعاصرة هي دور متمم للخلفية الاجتماعية الكافية بذاتها بالشكل الأدنى، والتي فيها يمكن للفاعلين أن يطوروا ويعززوا قدرات الفعل الحر. الحياة الأخلاقية هي دور لا غنى عنه لهذه الخلفية، لأنها البيئة الوحيدة التي يمكن للأفراد فيها أن يتوقعوا بشكل موثوق فيه تحقيق الغايات الأخرى والتنظيمات التي سوف تشجعهم لقبول الأعباء والتضحيات التي يفرضها نظام اجتماعي يعيد إنتاج نفسه ويلائم الشخصية والذاتية. ويستجيب هيجل للقلق القديم عن التأثيرات المزعزعة للاستقرار عن الذاتية، والتي تؤكد أن النظام الاجتماعي يمكن أن يتسامح بدرجة كبيرة مع الشخصية المستقلة والذاتية لكن لو تحقق الشرط المحوري فقط، وهو أن مواطنيه يجب أن يكون أعضاء في مؤسسات أخلاقية تغرس فيهم قيم وأهداف وقناعات، حيث عندما يتشاورون في آرائهم وقناعاتهم عما يفعلوه، فإنهم يعززون ويدعمون هذا النظام بدلاً من تمزيقه، كما حدث في العالم القديم وكما حدث مع الثورة الفرنسية كما يعتقد هيجل.
إن الزعم بأن الدولة الهيجلية جزء ضروري من هذه البنية، يرتبط بقضية أن روابط الوجدان والشعور التي تميز الأسرة، وتلك الروابط من التعاون المشترك والتآخي الموجودة في المجتمع المدني، ليست كافية بنفسها لأن تضمن أن الناس سوف يقبلون التضحيات والأعباء المطلوبة لدعم البنية المؤسسية لتطور الحرية. إن نموذج الأسرة غير قابل للتعميم لأن روابط الشعور والوجدان تمتد فقط للعلاقات القريبة للشخص وللأصدقاء، في حين أن الحفاظ على البنية المؤسسية المطلوبة يتطلب بعض التطوع في قبول الأعباء والتضحيات في التعامل مع عدد لا يحصي من الغرباء الذين يتشارك الواحد معهم في جماعة. المنفعة المتبادلة - مبدأ المجتمع المدني - يمكن أن يكون لها تأثير مروع في سياق اقتصاد السوق المعمول به، لكنها أقل قدرة بكثير عن دعم المفاهيم الأساسية والقواعد والمؤسسات التي تجعل من هذا الاقتصاد ممكناً في المقام الأول. إن روابط الصداقة والزمالة المميزة للحياة الاجتماعية تقترب من استقرار وتوحيد النظام الاجتماعي الملائم للذاتية، ولذلك فإن هيجل يراها كمؤسسة انتقالية بين اقتصاد السوق والدولة. ولكن يظل هيجل معتقداً بأن تلك التجمعات ليست كافية بنفسها لترسيخ نظام اجتماعي ملائم للذاتية، لأن غاياتها تظل (محدودة ومتناهية) وتشمل فقط (مصالح مشتركة معينة)، وسوف تكون هناك أشكال من الصراع وعدم الاستقرار سيكونون غير قادرين على التعامل معها.
عندما يسعي النظام الاجتماعي لتكييف وتعزيز الذاتية على أنها مؤسسته المركزية والشاملة، فإن هذا فقط ما يمكن الدولة الهيجلية كما يتوقع هيجل بأن تكون مستقرة ومكتفية بذاتها. وتنجز الدولة الهيجلية هذه الوظيفة، لأن مؤسساتها المركزية - السلطات السياسية والتشريعية والتنفيذية - تسعى بشكل مؤثر وموثوق نحو المصلحة العامة: المصلحة التي يسعي لها الجميع بأن يعيشوا في نظام مستقر يعيد إنتاج نفسه ويطور ويدعم ويحترم الذاتية الفردية. هذه المؤسسات فعالة بمعنى أن لها قدرة ترسيخ النظام الاجتماعي الملائم للذاتية والحفاظ عليه ضد صدمات الزعزعة والانحرافات سواء كانت من طبيعة داخلية أو خارجية. إن المؤسسات في الدولة الهيجلية موثوق فيها بمعنى أنها تمارس هذه القدرة بدلاً من استغلال سلطانها وقوتها لتحقيق مصالحها الخاصة.
لذلك يعتقد هيجل بأن البداية من التزام أساسي بالشخصية الحرة للفرد ينقل الفرد بشكل محتوم وعبر عدد من المؤسسات والأفكار المألوفة، لأن يصبح متوافقا مع الدولة الحديثة. لو أن الفرد يقبل الفكرة بالحد الأدنى أن العالم الاجتماعي يجب أن يحقق سلطات الأفراد في الشخصية الحرة، فإنه يجب أن يقبل أيضاً المجموعة الكاملة من المؤسسات والممارسات والنماذج التي قدمها هيجل أن يكون حراً، لأن هذه التحديدات الإضافية هي شروط لكون حريته ممكنة.
بإعادة تكوين الحجة الهيجيلية كما عرضتها بشكل مجمل، ستكون لدينا فكرة واضحة عن سبب ربطه الحرية بقواعد محددة من السلوك، وبالمواطنة الصالحة في الدولة العقلانية بالفعل. إن التصورات المفتوحة عن الحرية ليست كافية بنفسها ما لم يلتزم الأفراد بواجبات وفضائل - تبلغ ذروتها في فضائل المواطن الصالح - فإن النظام الاجتماعي المتمركز حول الحرية لن يكون مستقراً أو قادراً على استنساخ ذاته. عندما يدرك فرد ما فضائل المواطن الصالح، فإنه يعمل على استقرار وحماية الخلفية السياسية والاجتماعية المطلوبة، لأن تكون حريته ممكنة. إنه يريد حريته، وفي هذا المعني يتمتع بحرية موضوعية بقدر ما هي حرية ذاتية.