لا يفترض هذا المقال حول الهويّة الحكم المسبّق بسلبيّة هذا المفهوم؛ فمهما كان تصنيف الخطابات حول الهويّة صائبا في وصم جانب منها بالرجعيّة[2]، فإنّها تبقى بمعنى ذلك الأصل الذي ليس هو سوى "ديمومة لا تنفصل عن الصيرورة، إنّها أصل لا ينفكّ عن الابتداء والحضور"[3]. فمن هنا تمثّل الهويّة شرط الولادة المتجدّدة للإنسان في التاريخ التي من دونها لا يكون لوجوده أيّة قيمة. وإذا كانت الهويّة من جهة قيمتها التعريفيّة للإنسان هي ما يجعلنا الشخص نفسه، رغم مرور الزمن بسبب استمرار وجودنا فكرا وجسدا[4]، أو ما يعيّن تفرّدنا أو واحديّتنا، ويجعلنا مختلفين عن بعضنا البعض، فإنّها مصطلح يمكّننا من التفكير في الشخص ذاته خلف تغيّره الحتميّ. هذا ما عيّنه بول ريكور بتمييزه في تعريف الهويّة بين الهويّة الفيزيائيّة العينيّة التي هي كالنواة أو الماهيّة الثابتة في الديمومة، والهويّة الأنيّة التي هي كالأعراض أو النسخ المختلفة المتغيّرة.[5] وفضلا عن هذا التحديد الفلسفيّ لأهميّة الهويّة، فثمّة في علم النفس والاجتماع ما يمنح هذا المفهوم كلّ قيمته وأهمّيته، باعتباره هذا الإحساس الفردي بالانسجام جرّاء الشعور بوحدة شخصيّة وديمومة في الزمن، أو باعتباره إرادة مشتركة في الانتماء إلى المجموعة الاجتماعيّة نفسها.
حينئذ لا يكمن الإشكال الهووي الذي يفترضه عنوان المقال في التعلّق الإسلامويّ بالهويّة[6] ، إنّما في كون الهويّة في المفهوم الإسلاموي تظهر بمعنى النّاجز والمكتمل والمغلق؛ أي بوصفها أصلا لا يعتريه التبدّل والتغيّر. ينطبق تصوّر الهويّة هذا في تصنيفيّة ابن تمسّك على ما يسمّيه تعريفا محافظا للهويّة، وهو التعريف الذي تستمدّ فيه الهويّة "فكرها وفلسفتها (وتحديدها) من خارج الذات وبمنأى عن إرادتها. وقد يكون هذا الخارج وجودا، أو طبيعة، أو إلها، أو تاريخا، أو ثقافة أو عرقا، أو دينا، أو قوميةّ"[7]، ولكنّه ينطبق أيضا من منظور نقدنا للتصوّر الإسلامويّ للهويّة على ما يسمّيه ابن تمسّك مفهوم "حركات الهويّة الفرديّة الحديثة" أو ما يسمّيه تايلور، وساندل وكيمليكا، "الهويّة المتحرّرة"[8]. وإذا كان مفهوم الهويّة المتحرّرة يعني تأكيد "قيم الاختلاف والتفرّد والمغايرة والنسبيّة"[9]، وهو ما تحقّق مع لحظة الحداثة التي لم يعرف الفكر الإسلاموي مضمونها ولم يقبله، فبأيّ معنى نعتبر الهوويّة الإسلاميّة ناجزة، من الجهتين المحافظة والمتحرّرة؟ الجواب عن هذا السؤال، نجد منه جزءا في مدلول الهويّة الحديثة، وفي قصّة ولادتها، من جهة ما تبرزه هذه الولادة من علاقة الإنسان بذاته. يقول ابن تمسّك محدّدا هذا المدلول، إنّ الهويّة الحديثة كانت موضوعا لرهان جديد جاء مع الحداثة، هو "مدى وفاء الذات لذاتيّتها، وخصوصيّاتها، ومدى مقاومتها للبداهات ولأشكال التبعيّة السلبيّة المعطّلة للحريّة والإبداع"[10]. ويروي فتحي المسكيني الأحداث الكبرى لقصّة ولادتها، حين يقول: إنّ "تاريخ معنى هويّة الإنسان المعاصر هو تاريخ معنى موتاته الكبرى التي استمدّت منها الإنسانيّة الحاليّة صلاحيّة وجودها في العالم"[11]، يعيّن المسكيني بقوله هذين الحدثين الرئيسين في قصّة ميلاد الهويّة الحديثة في موت الإله، ثمّ موت الإنسان. وفي الموتتين المجازيّتين ومحصّلة لهما، كان مدلول الهويّة الحديثة ومعناها أن "تتحمّل الأنا الناشئة مسؤوليّة وجود عار من كلّ التحديدات القبليّة الجاهزة.. أن نتحمّل تبعات هويّتنا"[12]؛ فموت الإله تماما كموت الإنسان لم يعنيا الوقوع في الإلحاد، والعدميّة، أو ميلاد فلسفة ضدّ الإنسان، إنّما هو موت جرى من "أجلنا"[13]؛ أي من أجل أن يضطلع الإنسان بمسؤوليّة بناء هويّته خارج كلّ الأطر والتحديدات القبليّة. ففي كلتا الحالتين؛ كان "السالب هو القوّة على "شدّ ما هو ميّت إلى الحياة""[14]، بعد أن قبل الإله المسيحيّ أن يتأنسن، تماما كما كفّت الصورة القروسطيّة عن الإنسان عن أن تكون سجنه التعريفيّ. قد يعيّن هذا وجها لمعنى الناجز في التصوّر الإسلاموي للهويّة، من جهة رفضه لهذه التضحية بإلهه الأرثوذوكسي، كي يتحمّل مسؤوليّة تحديد هويّته. هذا ما تكشف عنه مقولة الحاكميّة المركزيّة في التصوّر الإسلامويّ للوجود، من جهة كونها نظاما ميتافيزيقيّا تتحدّد من خلاله كلّ الهويّات. ولكنّ جزأه الثاني يتجلّى في استكمال قصّة ولادة الهويّة الحديثة كما يرويها المسكيني، في الانعطافة التي شهدتها القطيعة الحداثيّة عن وعدها بترك الأنساق الكليّة. ما الذي حدث حسب المسكيني في هذه الانعطافة الحداثيّة، التي قبل فيها الإله المسيحيّ أن يتأنسن؟
يجيب المسكيني أنّ ما حدث هو أنّ "أنسنة الإله الطويلة قد أدّت إلى أمرين متناقضين: أ- إرساء دولة أمّة تفكّر باعتبارها روح العالم المعاصر وبنيته، انتهت بالدخول في أحلام إمبراطوريّة شرسة، أعادت توزيع معنى الانتماء بشكل غير مسبوق. ب- بلورة لاإنسانويّة تفكّر بشكل ملحد، باعتبارها المقام الأخلاقيّ الجديد لاستخراج كلّ النتائج الوجوديّة التي تنجرّ عن واقعة موت الإله".[15] تعبّر هذه الإجابة عن جزء من واقع الارتكاس الهووي المغاير الذي جلبته الحداثة، وهو الارتكاس الذي أنجزته واقعة الدولة الأمّة، عندما تحوّلت إلى مرتكز جديد للهويّة، ضدّ دعوى الحداثة الأصليّة بنسف كلّ المرتكزات، في أنسنتها العامّة لكلّ المعنى. وبالنسبة إلى علاقة ذلك بالإسلامويّة، من جهة موضوعة الهويّة النّاجزة، فقد مثّل هذا الحدث خلفيّة مضمرة لتبنّيها مفهوم الدولة الإسلاميّة، عن طريق مقايسة وتقليد حرفيّ لمفهوم دولة الأمّة، صيّرت به هذه الدولة منطلقا لكلّ التعريفات بما في ذلك تعريف الدين نفسه. جاءت هذه المقايسة في سياق معارضة، بدأها البنّا ورسّمها أبو الأعلى المودودي، ولكنّها معارضة كرّست القالب النظريّ والطابع الهووي للنموذج الذي رفضته من حيث كانت تنكره. فإذا ما أضفنا هذا - من أجل استكمال معنى الهويّة الناجزة عند الإسلامويّين- إلى أنّ إلههم التوحيديّ لم يمت تلك الموتة المجازيّة عبر تأنسنه، من أجل أن يكون الإنسان المسلم؛ أي من أجل أن يتحمّل هذا الإنسان مسؤوليّته الأخلاقيّة في بناء معنى الحياة، تبيّن مدلول الناجز صفة للهويّة الإسلامويّة.
إنّها بهذا المعنى ناجزة من جهتين؛ فهي ناجزة من جهة كونها تعريفا محافظا للهويّة من خارج الذات حسب تعريف ابن تمسّك؛ فهي لم تمت إلهها الأرثوذوكسي الذي قبل أن يموت من أجل البشر في تجربة الحداثة الغربيّة، ومن جهة ثانية هي الجهة التي أشار إليها المسكينيّ من جهة الدولة التي عاندتها، ولكنّها كرّست منطقها الهووي الكليانيّ بمقولتها الدولة الإسلاميّة.
من ههنا، تصبح الهويّة الإسلامويّة هويّة ناجزة بطريقة مضاعفة، تبعا لانخراطها في نسق الحداثة بتحريف مضاعف أيضا، فأوّله رفض للأنسنة الميتافيزيقيّة التي ودّعت بموجبها معنى الألوهة الأرثوذوكسيّ، وثانيه تبنّ للكليانيّة السياسيّة التي وقعت فيها الحداثة المنحرفة عن وعدها بتوديع كلّ دعاوى الكليّة.
قد لا يصعب في الواقع تفسير هذا الانغلاق الهووي المزدوج من جهة المفهوم المركزيّ الذي يستوعب كامل التصوّر الإسلاموي عن الوجودين النظريّ الأنطولوجيّ، والسياسيّ العمليّ الذي يجسّده؛ أي من خلال مفهوم الحاكميّة[16]. ولكن متى شئنا التثبت من صلاحيّة هذه الفرضيّة (أي فرضيّة الانغلاق الهوويّ الإسلامويّ المضاعف)، بمصطلحات خطاب الهويّة نفسه، أدركناه من خلال مواجهة الخطاب الإسلامويّ بخطابات فلسفيّة تتغيّا إحداث التجاوز الإسلاميّ من منطلق فلسفة الذات أو الهويّة. وفي تونس التي تمثّل المختبر العربيّ الإسلاميّ الرّاهن لإحراجات مفهوم الهويّة تبعا لولوجها تمرين الديمقراطيّة، نعثر على أبرز ممثّلين لهذه المواجهة. من هذه الزاوية، نواجه بين خطاب أبرز ممثّل للخطاب الإسلامويّ في الوقت الرّاهن هو راشد الغنّوشي، وفي مقابله الممثّل الأبرز لخطاب التجاوز الإسلاميّ المطلوب من منظور فلسفة الهويّة هو خطاب فتحي المسكينيّ[17]. ثمّة شاهدان من نصوصهما قد يمثّلان نموذجا مختزلا لفكريهما في الموضوع، تمكّن المواجهة بينهما من إبراز المأزق الهووي الإسلامويّ الرّاهن.
يقول الشاهد الأوّل لفتحي المسكينيّ، واصفا إله الحداثة، وفي سياق هاجسه بمدّ الانغلاق الهووي الإسلاميّ عامّة بنماذج مقارنة تنير له الطريق: "وحده إله الوحي قبل مغامرة التأنسن، ووعد الإنسان بإمكانيّة تحقيق حريّته بواسطة ذاته، وذلك باعتبارها الشكل الوحيد، التاريخيّ، لهويّته المنشودة. لم يصبح الإنسان المعاصر ذاتا مفكّرة، إلاّ لأنّ إله الوحي قد قبل أن يصبح شخصا: الإله الشخص التوحيديّ هو الذي علّم الإنسانيّة الحديثة أن تأخذ الطريق نحو أسئلة الذات، لكنّه لم يضمن لها أيّ نوع مناسب من الخلاص"[18]. وقد أخذ الإنسان الغربيّ "معنى تجسّد الإله المسيحيّ في صلب الإنسان مأخذ الجدّ، حيث إنّ تجربة الزمان التاريخيّ للإنسانيّة الغربيّة.. لم تعد تعني سوى عبارة "إنّ الإله نفسه قد مات "من أجلنا"[19]، لقد فتح هذا الطريق "على موجة جديدة من الأزمنة الجديدة، ألا وهي واقعة تدمير الذات، ليس التدمير العدميّ، بل شجاعة الذهاب في بنية الذات الحديثة إلى أقصاها: أن تتحمّل تبعات موت الإله المسيحيّ، باعتبارها نموذجا كليّا للتدمير الذاتيّ الذي ينجح في شدّ ما هو ميّت في صلبه إلى الحياة. الموت هو تمرين كليّ على الانتماء إلى الحياة الرّوحيّة التي تخصّنا..(إنّه ما سمح للتفكير الغربيّ بالذهاب) في حريّة الانتماء إلى جوهره الرّوحيّ إلى أقصاه"[20]. إنّ إله التوحيد بقبوله التأنسن هو الذي سمح للإنسان الغربيّ بأن يتحمّل مسؤوليّة استكشاف لا تتوقّف لهويّته بوصفها إمكانا مفتوحا على الآتي. من منظور خطاب الهويّة يمثّل هذا الوصف، لتفجّر قمقم الهويّة الغربيّة، تعيينا للممكنات التي أتاحها إله التوحيد في اتّجاه نسف كلّ أساس لأيّ انغلاق هووي. وعلى الرغم من كون التاريخ الغربيّ لم يكن قادرا على الاحتفاظ بهذا الباب المفتوح، فإنّ هذا الانفتاح يقدّم دليلا على الممكنات التي يحملها إله التوحيد، في تحدّ لكلّ أطروحات حتميّة الانغلاق الهووي التوحيديّ من منظور تاريخ الأديان كتلك التي عبّر عنها يان آسمان، لا سيما في كتابيه "ثمن التوحيد"، أو "التوحيد والعنف".[21] مقابل هذا الشاهد الأوّل دليلا على هاجس تحرير الهويّة من كلّ انغلاقاتها، والدور الذي لعبته، ويمكن أن تلعبه ديانة التوحيد فيها، يواجهنا راشد الغنّوشي بقول مناقض، يعبّر عن مصدر كلّ التعثّر الإسلامويّ، في الإنصات إلى الممكنات التحريريّة للتوحيد، لا سيما في فرعه الإسلاميّ. فهنا أيضا يؤخذ التوحيد مأخذ الجدّ، وعلى الرّغم من الطابع التجريدي للإله التوحيديّ الإسلاميّ، المجاوز لمشكلات معنى التجسّد في الإله المسيحيّ، فإنّ هذه الطاقة التجريديّة توجّه في اتّجاه نسف كلّ إمكان تحرير للذات المسلمة من سجن الإله التوحيدي المعيّن في تعريفه الكلاميّ التيميّ. لن يرضى الغنّوشي كسائر الفكر الإسلامي والإسلاموي لهذا الإله أن يموت تلك الموتة المجازيّة المطلوبة، بل إنّه سيضاعف من إحيائه حين يكرّر صورته النظريّة في صورة عمليّة هي صورة الدولة.
يقول الغنّوشي متمسّكا برفضه لهذا الموت، في معرض حديثه عمّا يستحقّ التكفير: "نحن هنا في كثير من الأحيان بصدد ظاهرة أخطر هي تمرّد عن سلطة الشريعة. بناء على تصوّر للكون وللإنسان وللحياة يقوم على استقلاليّة الإنسان عن خالقه "التصوّر اللاّئكيّ الدّهريّ. وعلى موقف مبدئيّ من شريعة الإسلام على أنّها، كغيرها، جاءت لتلبّي حاجيّات مرحلة وظروف معيّنة قد مضت وتجاوزتها حركة الحياة وتطوّرات العلوم.. وقد يمضي هؤلاء أبعد من ذلك إلى الدعوة إلى مناهج بديلة لأصول التفسير تنتهي إلى إفراغ الإسلام من شرائعه، بنوع من التمسيح له على غرار ما تمّ من إصلاح دينيّ أخضع المسيحيّة إلى لمنطق الحداثة والعلمنة".[22] يقول المسكيني للغنّوشي: "أنت عولميّ يا صاح، أينما ولّيت وجهك.. إنّ عصرنا لم يعد يحتمل أيّ تأسيس جديد لأيّ عقل قوميّ منعزل عن المجرى الرّوحيّ للإنسانيّة الحاليّة"[23]، ويقول له علي حرب إنّ العولمة إمكان منفتح يقدّم إمكانات واسعة قابلة للتكييف والتحويل لما يمكن أن يتلاءم معنا، وفي صميم هذا التطويع يمكن للهويّة الخاصّة أن تتمدّد وتتجدّد؛ فالهويّة ليست شيئا ثابتا جامدا، بل هي إبداع مستمرّ وابتكار للذّات والمجتمع، وبثّ للحياة فيهما؛ فالحكم عليها بالثبات يعني الحكم عليها بالموت[24]. لكنّ الغنّوشي يتعنّت ويردّ متمسّكا بصورة إلهه المانع لكلّ ذاتيّة إنسانيّة، إنّ إلهه هو إله القدر والحتميّة التي لا ينجو منها شيء في الكون، هو الإله الذي وصفه القرضاوي بوصفه مقدّر كلّ شيء في الكون، بمراتب، هي علمه بكلّ شيء قبل وقوعه، وإرادته لكلّ ما يحدث في الكون، وخلقه لكلّ شيء، وتسجيله لكلّ حادث في الكون منذ القدم[25] ، إنّه الإله الذي لا يتحقّق الإيمان به إلاّ بإقامة دولته فـ "في الإسلام أصول للحكم صادرة عن اللّه نطقت بها أو تضمّنتها نصوص القرآن والسنّة، وإنّ الاحتكام إليها والتسليم بها ليس واجبا وحسب، بل هو حدّ فاصل بين الكفر والإيمان، على اعتبار ذلك أثرا مباشرا للاعتقاد الإسلاميّ بأنّ اللّه خالق كلّ شيء، وأنّه مالك الملك بلا منازع، وأنّه الأعلم بما يصلح عباده، وأنّ الإنسان ليس صاحب حقّ أصيل على نفسه أو على غيره، وإنّما هو مستخلف أو وكيل. فهو ليس صاحب الأمر والسلطة العليا التي لا تنازعها سلطة، وإنّما هو صاحب حقّ في سلطة محكومة بسلطة التشريع الأعلى الصادرة عن اللّه"[26]. فإذا ما علمنا أنّ دولة الغنّوشي التي تمانع التفريط في إلهها التوحيدي في صورته الأرثوذوكسيّة، ليست إلاّ مسخا من دولة الحداثة الغربيّة، كما تقرّب منها البنّا، وعبّرت عنها مقولة الدولة الإسلاميّة، وأنّ هذه الدولة في مهدها الغربيّ بالذّات مثّلت أحد عوامل الانقلاب على انفتاح الهويّة الحديثة، حين فكّرت "أنّها روح العالم المعاصر وبنيته، وانتهت بالدخول في أحلام امبراطوريّة شرسة، أعادت توزيع الانتماء بشكل غير مسبوق" وادّعت أنّها معنى التاريخ العالمي[27]، بأن لنا مقدار الإنجاز المزدوج للهويّة في خطاب الإسلام السياسي. في صفحة تعريفيّة لفتحي المسكيني على موقع ويكيبيديا نقل عنه قوله: "أشعر دوما أنّ بين العرب والألمان أواصر قرابة مثيرة وغامضة، كلّ منهما له لغة صعبة وذات أصالة خاصّة، وله مجد ضائع ودين خطير قادر على ترجمة مضامينه الدلاليّة إلى آداب مدنيّة صارمة وكونيّة، وله حسّ انتماء عميق جدّا، ولا يقبل التفاوض أو الانصهار في أيّة قوميّة أخرى، لكنّ القوميّة العميقة في لغة الألمان لم تمنعهم من تطوير أخطر وأعظم القيم الكونيّة في تاريخ العقل الفلسفيّ. وهذا ما دفعني إلى اعتبار تقليد الفلسفة الألمانيّة من كانط إلى سلوتردايك، هو ببساطة مجال التجريب المناسب لتفكيري الخاص"[28]. وفعلا يروى عن التنوير الألمانيّ أنّه كان أقلّ معارضة للدين، وأقلّ سياسيّة، كان تنويرا حكيما منضبطا. كانت ألمانيا التي ظهر فيها التنوير تقويّة يحكمها ملك فيلسوف متشبّع بأفكار فولتير، وكان ذلك ربّما من العوامل التي أنشأت فيها جدلا بين العقل والدين، احتفظ من جرّائه الدين بكلّ احترامه الذي فقده مع الأنوار الفرنسيّة والبريطانيّة، ولكنّه كان أهمّ من ذلك سببا في تحويل التجربة الدينيّة إلى مجال الأخلاق.
من هذا المدخل الأخلاقيّ المؤنسن للدين، ربّما كانت قدرة التنوير الألمانيّ على تطوير أعظم القيم الكونيّة، بواسطة أسماء كان شلايرماخر، وكانط، وهايدغر، وغيرهم أبرز أعلامها.
فهل يرينا المسكيني الطريق، تلك التي نكون بها قادرين على استثمار حسّ الانتماء العميق، وهذا الدين الخطير المميّز للعرب، في إنتاج آداب مدنيّة كونيّة، تترجم مضامينه ودلالاته العميقة؟