أستقريت كبحار في نومةٍ هادئة، استيقظت على الأمواج وقد رمتني بعيداً نحو
صخرة ناتئة، أدركت أن لا مجال إلاَّ المواجه، نزعت عني كل الماضي وأخذت
اغتسل بالفجر الذي قادني لصحوه حمّلتني قناعات تقود للنجاة، حينها ظهر
صندوق قادم من عمق البحر ورسى عند حافة سفينتي المنزوية عند تلك الصخرة مثل
مسافر أضاع خطة هدفه، حملت الصندوق لعلي أعثر على ما يهديني للإبحار ثانية
فإذا أجد أوراق مخطوطة بحبر ثقيل، لزوجة الفرحة بوجود كلمات تعينني على
قتل الوقت زادت من شعوري بالسعادة في عثوري على هذا الكنز (خريف المآذن /
باسم فرات) بعد قرأءة الديوان امتلكتني رغبة عميقة في تأمل الانسان وهمه
الذي يخلق معه رغم اختلاف الضرف والزمكان، وكيف يبقى معتقداً أنه لا أحد
يفهم مدى طموحاته ورغباته التي يملكها، لذا هو مثقل دائماً خاصة إذا عاش
المحنة، حينها قلت لنفسي: أيضاً اعيش المحنة، وأصلها أنني أرفض بشدة كل ما
هو مسيس ويحز في نفسي التمنطق السلطوي أياً كان يجري وفي عروقه تعاقب
التعصب، يتمثل السؤال بقدر من المغالطة لفهم مشكلة الارتباط الذي يقود
للإندثار، أما الشاعر باسم فرات له رؤية مختلفة جاءت من عدة زوايا شامخة
منها المآذن، تذكرت كم من المآذن شيدت في هاذا العصر من الحديد المصبوغة
باللون الاخضر؟!، إذن المآذن ليس في خريفها بألوانها الخضراء، أين الخريف
في مآذن باسم فرات؟، قد يكون في الاندثار الذي يعيشه العراق!، عراق شرد
ابناءه في البلاد، طمر منهم الثرى، سوس لبعضهم بالذل وتمجيد الظلم، وابناء
يعيشون محنة العراق في أقصى حركة يؤديها بندول الزمن، وتساقطت شواهق تلك
الشواهد وطعن مناخ العراق المليء بالمآذن، حتى وصل الامر أن كلما ذاب في
تيزاب الحرب شاب يافع نصب مكانه مئذنة، فقد تحول حلمه إلى طيات الخريف
الموحي بالخراب والموت، لأن هناك سلطة لسانها طويل وذراعها اخطبوط يعمر
المدافع لتصيح المزيد المزيد من لحوم البشر ودخانها عمَّ فوضى تلك الايام،
الشاعر باسم فرات أعطى لمفهوم المآذن صفة جديدة، لما من وقع في نفس كل مؤمن
للمأذنة وطفل وأم وانسان لم يدخل ذهنه لحظة أن للظلم خريف قاحل يسود عموم
الحياة ويمحق كل جمال وذكرى مخلدة في معتقده وعقله، استقرت المآذن في ذاكرة
باسم فرات تطارد خيالاته تريد البرهان عن اسئلة ولدت من عناصر عاشها، اب
غيور، سلطة قامعة، حرب عمياء، مآذن لا حولة لها ولا قوة، تلاحقه أصواتها
بين أم حنون وطفولة خجلة معمرة بالحرمان ومجتمع ضاقت به السبل، يرسم من
منظر جمالي لوحاته بألوان غامقة لكنها فتية كأيام عمره المعذبة، فنجده في
قصيدة " إلى لغة الضوء أقود القناديل، يقول:
أي حلم يخفف طفولتي
أي حلم يشق صباحاتي
أنا لا خير في قافلة العزلة
صهيلي يتكئ على صحراء فاض حدادها
في مقطع آخرمن نفس القصيدة يقول:
أنا السومري والإسئلة
متكئاً
أما القصيدة " أرسم بغداد " بالفعل يرسم مفاهيم أكثر حرية في أطياف سماء
أنعشها التصفح في خياله عن تفكك عضلات الذهن حين يربط في فكره بين عباءة
أمه وعباءة النخيل والخراب يرتعش فوق كل ما يحمل صفة الخير والحنان، وكل
تناغم تهبه الحياة الصافية، لكنه يجد في بغداد الندوب والاكفان والسواد
واسئلة أخرى تتهاوى وتعلوا في رأسه حيث يقول:
ماشئت شئت
أسكب الفجر في تلمس ليل غارق بعماه
أكتب تاريخ جنوبيين فوق عباءة أمي
وعبثاً امسح أكفان الأيام المنسدلة من شعرها
مقبرة السنوات تتمدد فوق اسفلت ذاكرة مليئة بندوب الحرب
في مقطع آخر من نفس القصيدة يقول:
بينما الوقت يطرز منفى لعباءات النخيل
أفك أزرارهُ أقرأ: الطفولة اسئلة لا تنتهي- تتشعب-
أو أسئلة تنمو فوق طحلب الايام
في مقطع آخرمنفس القصيدة يقول:
خذلتني أحلامي
منعزلاً في أقصى الضياع
تركتني فاجعتي
ويقودني حطامي
أصبح في ذاكرته مصطلح خاص لدلالاته اللغوية ومفاهيم يحملها أينما حل
وارتحل، نجد ذلك في قصيدة " عانقت برجا خلته مئذنة " في هذه القصيدة يحمل
اجوبة لمرآة مكسورة لتكفها الدموع المتساقطة بسخونة الإنصهار عند اقترب
الافكار حيث يقول:
هكذا
لكي أجتاز الوصول
لم التفت لجراحي
ثيابي أطعمتها النهر
وعيناي تتهجى رائحة غيابي
لم اتحسس غير انتظارهم
في مقطع آخر من نفس القصيدة يقول:
الصهيل يحفر بئراً لإوائي
أسراب الضياء تتخطى بين جفني
بحر الامنيات يغادر رأسي
في مقطع آخر من نفس القصيدة يقول:
فأرضعتني بكاءها وأحلام اليابسة
باسم فرات لا يكتفي بالإلتصاقات ليسدل على الانسجام باقتناص المفردة
واسلوبه الجمالي في قصيدة " دلني أيها السواد " بقوله:
مزدحماً بأحلامي
هي أيضاً منشغلة برتق جنونها
وفيما الأمواج تتدلى من قميصي
ومن راحتي تتساقط نجوم
في مقطع آخر من نفس القصيدة يقول:
دلني.....
كيف أرسم برودي فوق سريرك
دلني أيها السواد
قصيدة " آهلون بالنزيف " تتسم بوجع الشاعر باسم فرات يكمن في هذه القصيدة
البعيد من معركة الغربة وتسارع عالم لا يقبل الجدل، ويكتنفه انتصاب أسد في
صقيع، بقوله:
يخضب سنواتي بذبول مسن
يطرز جداولي بنجوم ما لهن ظلال
الذين أشعلوا أحلامهم بالمنافي
قصيدة " عبرت الحدود مصادفة " حملته أدوات خطاب جديد حيث لا يوجد كربلاء
ولا عباءات الأمهات الحنونات ولا أهوار ونخيل ولا مناخ ممتلئ بالخضرة
والجداول، بل وجد كل شيء في زمكانيته المشتعلة هي الأخرى بما لها من وجه
مختلف، كأن كل شيء فيها متصحر حد الجنون، إذ يقول:
من حفرة الغيوم
أوزع سنواتي على الصحف
رمادها- هذه الحروب- أغلق روحي
وجف زيت طفولتي عند الباب
في مقطع آخر من نفس القصيدة يقول:
أمي ترمم النجوم التي اختلطت بشعرها
وتشرب شاياً تذوب فيه أحزانها
الطرقات تسيل على قدمي
الأشجار
تتدلى ثمارها على الافق
- الافق وهم لوقف العين-
من يمسك بظله؟
أخطاؤنا وطن يتكئ على حربة
وأحلامنا تنموعلى الشرفات
يحاول في قصيدة " عناق لا يقطعه سوى القصف " أن يقرب بالحروف المرسومة
كمئذنة يستدل بها عن جذره لعل ذهنه عند اللجوء إليها أن تمنحه يمنحه شيء من
السكينة، فيعمم استجاباته على نافذة التوازن وتنوعات مشرقة تهضم حزنه،
بقوله:
مأخوذاً بما ستطلقه يداي
من محبة وذكريات، جففها الحصار
أيامي تتناسل سواداً
ها أنا ذا
أطلق المطر والخضرة في خريفي
بينما الحروب تتفاقم فيَّ
تبتل ذاكرتي بالمنافي
بين الرصيف وقلبي
في مقطع آخر من نفس القصيدة يقول:
رماد أيامي
نوافذ طويلة الأمد
كسرت صمتها لتطل ملائكة تغسل الهواء من صخب المدى
باسم فرات شاعر يحمل أكثر من هم وأكثر من قضية تتباعد عند خصائصها المفاهيم
للحرية وتتواجد في أبداعه قضايا سياسية برؤى عاشها ويعيشها تدحض حقيقة
نظام، وتتشكل في قضايا أخرى لمجتمع عاش فيها محنة تشرنق جذر قضيته، باسم
فرات حاول في قصيدة " أقول أنثى... ولا أعني كربلاء " أن يجسد شيء من
التشدد الموجود في الموروث والتراث في الثقافة العربية ويؤيد الاحتفاء
المفرط في موقفه من الارتباط بالأنثى، أما التبعيات الكبيرة التي تؤسس
للكراهية وتزيح معاني الإنسانية في كربلاء التي أصلاً أُسست من أجلها، نجده
مثل بيكاسو يحمل روح مختلفة لكل منظور جمالي وحيوي أتبع طريق الابتعاد ليس
خوفاً بل للتأكيد أن العالم لا يعيش فقط على الالغاز ورموزه إن لم تدفعه
لإتجاهات الحياة، إذن هي ستقيده وتقوده إلى الموت، حيث يقول:
استدرج أحلامي إلى موقد
تترنح فيه اصابعي
مرهقة أبواب الدار من الصراخ
وعباءة أمي راية تلوح بلا أمل
يتآكل الحنين في لساني
ومن لاذ بالصمت لا يستبيح ظلي
ويحرر غاباتي برمله
النرجس يتناسل في يدي
أوقد الغيوم
وأعرف أن للذكرى قوارير شائكة
أحرث السماء بالبحر
وأعرف أن الدمع أكثر زرقة
من بهجتي
أرقب حماقاتي بشغف لتراث
العصافير متاهتي
أنصت للذين يأوون الحرب
من سباتها
فأرى دمي يتدحرج بين الحدود
أتوسل بالكلمات أن تجمعه
على الورق
قصيدة " عواء إبن آوى " استخدم عالي الحساسية في لغته الشعرية التي يدخلها
ميتافيزيقا الروح بين أستئصال حالتين جمالية شعرية معبقة بالابداع المنشطر
من قاعدة النفس المعذبة بإنبعاث لا يقبل التوقف عند حد، ورفض قبول بعض
الرؤية للآخرين وتجسيداتهم المهزوزة ومنها مشروع الفشل، فشل الحرب،سوف آخذ
من بعض مقاطع القصيدة وليس كلها، بقوله:
أمي آيات حناء يغالبها العشق
فترملت
. . . . .
غصن رمان ينكسر من فرط أساه
. . . . .
وإذ يقتل أبي ويحز رأسه
. . . . .
زيَّنت أمي وجه الخلفة ببصاقها
. . . . .
كان في جسده سبعون طريقاً
. . . . .
عاى قباب المذهبة تراتيل الملائكة والسلام
في قصيدة " خريف المآذن.. ربيع السواد..دمنا " تحكيشواهد لا ينكرها التاريخ
ولا يقبل رفضها اي كربلائي، تتجسد فيها معاني كثيرة وطقوس كبيرة، حفرت
قدسيتها بعمق السنين في قلوب مؤمنة بما يحف سماؤها من بخور وأنوار ودماء
زكية هي كربلاء وكربلاء هي، حيث يقول:
أبواب مشرع
ونوافذهم أشاخها الانتظار
قست عليها رياح الشمال
أي سلسبيل قباب الله ومآذنه
أو كلما ابتعدت عنك أزددت قربا
أحمل بوصلتي
فلا تشتهي أن ترتل اسمك
قناديل تغمس ضياءها في قبابك المذهبة
أنت فرودس الدموع
وبهجة النشيج
قصيدة " جنوب مطلق " الشاعر باسم فرات يمازح الألم يقبل كل ثغرة مبتهجة،
كونه عراقي كونه ليس صامتاً، ولأنه عراقي حمل إثم عراقيته، حتى انه أصبح
يجد أن خالقه وحده من يفهم عمق تجربته وامتداد التوسع الغارق فيه، سجل صورة
صادقة لمظاهر الاستبداد ومعاني جميلة بنظرة فاحصة في محاولة التغيير في
زمن تلفه الحيرة والظنون المستمدة من الشعور بالعودة والخلاص، إذ يقول:
... وأقول في أقصي البعيدة
ثمة ما يدعو للتذكر
في المدن التي أنهكها البحر
ـردم أحلامي
لي من الحروف تذكار
وفي البلاد دموع المشاحيف واريتال القصب
تأوهات النخيل
بوح البرتقال
دم الآس
هناك...
تركت على خارطة الطفولة
براءة ثقبتها عفونة العسكر
ومن البيت سرقتني الثكنات
ورمتني إلى المنفى
أنا والله وحيدان