اليوم
نلتقي حيث يعبق الشعر برائحة المنفى، واشتياق الوطن، بوابات السماء التي
تفتح لجناح يمام، قيامته قبل القيامة، أو سفر في معالم الأساطير حتى يستدير
العالم جهة القلب، حين يدق مثل طبول الزولو، لرقص أخاف الظلام، بينما
الكائن يغرق في ألم شفيف، من الذات، من نهج الطين الأوحد، لقارعة تحيل
الروح وعاء لكل الأرواح، من مجد قوس الذات، يبتدئ حتى استدارته الأخيرة،
ككل حفل مرت عليه أفراح الموسيقى و ألامها، جنّاتها وأتراحها، وفيضها الذي
لا يستكين، للأخر وهو يستبيح الذات كجيوش الفاتحين، لجنيات الحب، وهن يسكن
الأرض، يزرعن الأمل إلى حين.
هو
الكائن (موسى حوامدة) في قصيدته "لا ندعي ورعا في الموسيقى" التي ألقاها في
مهرجان جرش من مجموعته الجديدة "سلالتي الريح وعنواني المطر"([1][1])، وقد حمل الديوان عنوان قصيدة من قصائده التي
وردت كخاتمة لنهاية القصيدة ذاتها، ونجد انه أمر يلجأ إليه شعراء العربية
المعاصرون، كما يلجأ إليه القصاصون وحتى الروائيين بتسمية القصة أو الرواية
بأحد فصولها، فكأنه تقليد من تقاليد الفن ذاته.
يرمينا
الشاعر موسى حوامدة في هذه القصيدة منذ البدء بغلالة التأويل الذي يشير إلى
(نحن) المتكلمين الذين لا ندعي، ولسنا نعرف من هم أولئك الذين لا يدعون
ورعا في الموسيقى، ولنا أن نبحر في تلك الحالة الصوفية التي تدعي الورع، أو
ربما حالة من الانقطاع عن العالم من أجل إدراك تجليات الروح التي تشف كلما
وهن البدن وتضاءلت حرارة أشواقه، أضاءت مصابيح الروح، لتتملك الكلي الشامل
في حفنة الطين، الورع هو التحرج، الكف عن المحارم، كما استعير للكف عن
المباح من أمور الدنيا، فما الذي لا تتورع عنه الموسيقى، هل هي حالة
التطريب، أم بث الحزن، أم تلك المشاعر الفياضة التي تصبها الموسيقى في فضاء
روح المتلقي؟
وكذلك
يفضي الإهداء "إلى عبير وعنها" فمن هي عبير، ولماذا تكون القصيدة عنها، هي
من موسى ولكنها ليست عنه، ويكفي، ولكنها عن عبير أيضا وإليها، هل عبير هي
الوطن الحلم الذي تشف عنه القصيدة؟ أم هي المعادل له (المرأة ـ الوطن)،
كذلك هو نهج الشعر عندما تستطير به نوازعه ليلامس كل الأرواح، فهل هي
المقصودة بـ.
" أنْحَني لمليكتي
أجلسُ بين عينيها ونشوةِ
البنفسج
تصيخُ الطرقاتُ سمعاً
لمُناجاةِ القُرنفل
ترتوي شفتايَ من حليبٍ قديمٍ
قديمْ،
تحت داليةِ السماء
يجلسُ إلهٌ صغير
يديرُ خَمرةَ الحُبِّ لوجهِ
الجِناية."
تبتدئ
القصيدة من فعل الذات التي تجل الفضاء، ولكنها لا تجله من اجله، وإنما من
اجل الحمام الذي يحلق فيه، الحمام يحيل إلى تلك الحمامة التي اشتعلت في
مرموزات التاريخ باعتبارها رسول السلام، منذ أن أطلقها نوح لتأتي بخبر
نهاية الطوفان عبر غص زيتون اخضر، وهي أيضا رمز الحرية التي يشكلها الطائر،
في غزل غريب مع حلم الإنسان بالطيران، باعتباره أفق الحرية الذي لا يحد،
ولذا يطل الشاعر نهارا من مواعيد ونبذ، ويمرر جسده من خاتم الغيم، والغيم
لا خاتم له لكن الإنسان هو الذي يمتلك الخاتم، وفعل الإحلال هنا هو الذي
يخلق الصورة الفنية، ليمتلئ قبل الشاعر بالغزل، وينبثق الفعل المضارع (أجل،
أطل، أمرر، يشنف، أدير، تعود، تحيط، تقيم) في فاعلية الذات التي تحيل
العالم إلى طلقة في بيت النار، فاعلية من اجل الشاعر الذي يسخر عناصر
الوجود ليكون, يمارس الشاعر دور ساحر القبيلة في فعل المضارعة التي تحيل
العالم إلى كائنات مداهنة لروح الشاعر، يتملكها عبر ترتيب عناصرها من جديد
من خلال فعل القول.
لا ندَّعي وَرَعاً في المُوسيقى
"إلى عبير وعنها"
أجلُّ الفضاءَ لوجهِ الحَمامْ
أطلُّ نهاراً من مواعيدَ
ونبيذ
أمرِّرُ جسدي من خاتَمِ الغيم
يُشنِّفُ قلبي الغَزَلْ
أديرُ رأسَ الرجاءِ الصالح
إلى جهةِ القلبِ
هنا؛
تعودُ أفريقيا شهيةًً مثلَ
قرعِ طُبولِ الزولو،
تَمائمُ السِحرِ تُحيطُ
جِيْدَ الغزالة،
ترانيمُ الغروبِ
تقيمُ في بيت النار.
بينما
ينتقل بالفعل المضارع ليكون فعل الاستلاب الذي تقوم به الأشياء باعتبارها
كونا مضادا لهجس الشاعر(يسرع، تصيخ، يجلس، يدير، تحط، تختفي) ثم يعاود تملك
الوجود بذات الفعل المضارع (انحني، أجلس، ترتوي، أجيل، أحس)، ليذوب الشاعر
في ذلك الصراع بين الذات وعناصر الوجود التي لا تنصاع، ولكنها تلبسه
الحالة الكلية لأنا الجماعة.
الطوطمُ الأزليُّ يُسرعُ في
رَحْم الفكرة
أنْحَني لمليكتي
أجلسُ بين عينيها ونشوةِ
البنفسج
تصيخُ الطرقاتُ سمعاً
لمُناجاةِ القُرنفل
ترتوي شفتايَ من حليبٍ قديمٍ
قديمْ،
تحت داليةِ السماء
يجلسُ إلهٌ صغير
يديرُ خَمرةَ الحُبِّ لوجهِ
الجِناية.
أمامَ عزلتي
تحطُّ أسرابُ الطيور
ثم تختفي
...
أُجيلُ بَصري بحثاً عن الصورة
تختفي المدينةُ أيضاً،
...
أُحسُّ خَفقاناً في صدري
ريشَ طيورٍ على قميصي.