بقلم : دلال اعواج
العلاقة بين القطيعة الابستمولوجية والبنيوية
|
غاستون باشلار |
إن احتلال الفلسفة الباشلارية مكانه خاصة ضمن الفلسفة المعاصر ، جاءت نتيجة لعدة عوامل منها :
العامل الأول: استجابة الفلسفة الباشلارية لظرفها من تاريخ العلوم وإرادتها في إبراز القيم الجديدة لهذه المرحلة التاريخية . " أي انه الكيفية التي استجابت بها هذه الفلسفة للتطور الكيفي الذي عرفه تطور العلوم ، والمتمثلة في الإعلان عن أرداه الإعراب الفلسفي عن مظاهر الثورة العلمية إعرابا لا يتخذ صورة تأويل ، بل صورة إبراز لما جملته هذه الثورة من قيم جديدة للمعرفة العلمية الخاصة والمعرفة الإنسانية بصفة عامة " (1)
العامل الثاني: رد فعل الفلسفة الباشلارية على الفلسفات السائد في عصرها بانتقادها وبيان الطرق إلى مجاوزتها .
وبالإضافة إلى هذين العاملين . هناك عامل ثالث ساهم في إضفاء القيمة على الفلسفة الباشلارية وهو " إن هذه الفلسفة قد كانت ملهمة لفلاسفة معاصرين تختلف اتجاهاتهم واختصاصاتهم في آن واحد . وقد كونت هذه الاستلهامات نوعا من القراءات والتا ويلات المختلفة للفلسفة الباشلارية ، وهي تاويلات تزداد أهمية كلما كان اصحابها على موقف فلسفي يتعارض مع باشلار " (2)
ومن هولاء الفلاسفة المعاصرين البنيويين ( لوي التوسير ) و( فوكو ) .
أولا : لوي التوسير
|
لوي التوسير (1918-1990) |
لقد استمده التوسير من باشلار مؤرخ العلم الذي يرى" إن الإحداث والفتوح المعرفية خلال تطور أي علم ، توقف التراكم المستمر للمعرفة وتقطع تقدمها البطئ وتدفعها إلى دخول عصر جديد ، وتفصلها عن أصلها التجريبي ودوافعها الأصلية وتنقيها من تعقيداتها الخيالية ، فتحول التحليل التاريخي من البحث عن البدايات الصامتة إلى البحث عن نمط جديد من العقلانية وعن أثارها المتنوعة بكلمات أخرى ، يفترض باشلار وجود حقب علمية يمكن إن تخلق انقطاعات معرفية من ذلك النوع الذي حدده التوسير في إعمال ماركس " (3)
بمعنى أخر أي التوسير " يستعير من باشلار مفهوم القطيعة الابستمولوجية ، لاستخدامه كأداة معرفية تساعد على فهم وتحليل التطور الذي حدث في فكر ماركس والذي كان من نتيجته نشأة المادية التاريخية من حيث أنها ما يميز الماركسية . ولا شك إن موقف التوسير ينطلق من موقف فلسفي يختلف عن ذلك الذي نجده عن باشلار " (4)
أي إن التوسير لا يأخذ هذه الأداة الابستمولوجية مرتبطة بغاياتها ، أي استخدامها للوصول الغايات ، كما عند باشلار . ويبين لنا التوسير إن المهم بالنسبة لتحليل الذي يريد إن يكون علميا هو الغاية التي يريد بلوغها . أي الوصول إليها ، وان هذا التحليل العلمي لن يمتنع عن الاستفادة من اية وسيلة معرفية لمجرد أسباب نسقيه فلسفية .
فالتوسير استخدم مفهوم القطيعة عند باشلار في إعادة قراءة ماكس ، لأنه العلاقة بين العلم والواقع كما يرى التوسير " إن تطور العلم ذاته يؤدي إلى تثبيت هذه العلاقة وتغيرها في آن واحد . ومن هنا شعر التوسير بحاجته إلى نظرية جديدة في القراءة . نظرية يمكن لمبادئها إن تحكم قراءة النص كما تحكم النظرية المتضمنة فيه وتحل محل العلاقة المباشرة بين القاري والنص " (5)
أي " نظرية تحدد طابع النظرية الماركسية والشرط المسبق للقراءة الماركسية ( النظرية التاريخية ) ولقد بدا التوسير في إعادة قراءة المعاني المختلفة للاغتراب في ( مخطوطات 1844 ) و ( راس المال ) مذكرا قارئة بان ماركس رفض الفلسفة في كتابة ( الايدولوجيا الألمانية ) لأنها بلا تاريخ ولا موضوع " (6)
وهذا ما يسميه باشلار بالعائق الإيديولوجي الذي يصبح مصدرا للعوائق الابستمولوجية والقطائع الابستمولوجية . وذلك من خلال إدراك علاقات أخرى للمعرفة العلمية وهي علاقاتها بالايدولوجيا بالظروف المجتمعة .
وان التحليل الذي قام به التوسير لتطور فكر ماركس مستخدما فيه مفهوم باشلار عن القطيعة الابستمولوجية خير مثال عن هذا الذي نقوله ، ذلك ماركس كما لو كانت مجرد قطيعة معرفية فصلت بين المرحلة الإيديولوجية من تطور هذا الفكر وبين المرحل العلمية . ولكنه انتقد نزعته النظرية هذه بداته وكتشف إن ماركس إنما حقق تلك القطيعة بفضل التقدم الذي حققه في تحقيق القطيعة مع أيديولوجيا عينيه هي الايدولوجيا البرجوازية " (7)
كما استطاع التوسير" إعادة النظر فما هو مشترك بين الجدل الهيجلي والجدل الماركسي بفصل ما طرحة الفكر البنيوي من إبعاد جديدة للزمن وما يترتب على ذلك من إمكانية التعاون مع اللحظات التاريخية بوصفها وقائع آنية الحدوث تقع في الماضي . كما تقع في آية لحظة بعينها في كل وقت حاضر فانتهى إلى إن هذين الجدلين يشتركان في شي واحد ، وهو مفهوم التاريخ . أي إذا كانت فلسفة التاريخ عند هيجل أنها تتجلى في مبدأ فريد أزلي فان التاريخ عند ماكس ليس تعبيرا عن جوهر روحي ، بل يتشكل من عديد من الأبعاد المتميزة المتشابكة التي لا يمكن اختزالها في الاقتصاد والسياسة والايدولوجيا والنظرية " (8)
فتوصل التوسير من خلال قراءة ماركس بان هناك فارق بين الجدل الماركسي والجدل الهيجلي وهو إن الجدل الماركسي يتضمن اتحاد الأضداد ، ولكن هذا الاتحاد ينطوي على حتمية متعددة الجوانب ( مركبة ) وان الوحدة الشاملة عند ماركس مثلا هي الاقتصاد ولذلك فهي وحدة بنيوية ، إما الجدل الهيجلي يتضمن هوية الأضداد والوحدة الشاملة عند هيجل تتكون من كليات ، وكذلك فهي وحدة مثالية وأكد التوسير حتمية الجدل على نحو تتراكم فيه المتناقضات . وهكذا التوسير استطاع قراءة الماركسية باستخدامه لمفهوم القطيعة الابستمولوجيه أو المعرفة عند باشلار .
ثانيا : فوكو
|
ميشيل فوكو (1926-1984) |
نستطيع إن نتتبع تطور فوكو الخاص من خلال كتبه " فقد ركزت معظم كتاباته في البداية على الجوانب المنهجية وعلى تأسيس حقب ابستمولوجية للمعرفة ، تم ركزت على اللغويات النظرية ، لتنتقل منها إلى التركيز على مركز القوة في كل حقبة من حقب المعرفة " (9)
فكتابه ( الجنون والحضارة ) يوضح وجود المرض العقلي خلال زمانه ومكانه ومنظوره الاجتماعي . وكتابه ( مولد العيادة ) يركز فيه على نشأة قوة الأطباء في الوقت الذي يؤكد العلاقة بين الدال والمدلول في نصوص الجنون والمرض على نحو تغدو معه السلامة العقلية والخلل العقلي والصحة والمرض ، أي هذه الثنائية لا يمكن إن نفهم احدها دون فهم علاقتها بالأخرى ، ويمثل هذا النوع من البحث عن أبنية المعرفة إلى طرح النزعة التاريخية في دراسة التاريخ . ويفيد من مفهوم باشلار عن القطائع العلمية .
فباشلار" يريد إن يبين إن هنالك في تاريخ العلوم قفزات كيفية تجعل العلم ينتقل بفضلها إلى نظريات جديدة لا يمكن ابد النظر إليها على أنها مجرد استمرار للفكر السابق لها ، وبقدر ما تحقق هذه القفزات الكيفية جدة مطلقة في الفكر العلمي ، فأنها تحقق قطيعة بين هذا الفكر العلمي والمعرفة العامة " (10)
فيرى " (فوكو) في كتابة ( الجنون والحضارة ) أم بنية الجنون تداخلت مع بنية اللغة . من هنا درس العلاقة بين البنيتين داخل حقب معرفية محددة على نحو انتهى معه إلى إن تطور الفكر العلمي خلال العصر الكلاسيكي " (11)
أي مفهوم الحقب المعرفية عند فوكو يختلف عن مفهوم العصر الكلاسيكي . لان فوكو يقسم الفكر الأوربي إلى ثلاثة عصور متتابعة تتعاقب على أساس من انقطاعات ابستمولوجية تنتقل بها المعرفة من حقبة إلى أخرى وهي ( عصر النهضة ) الذي يستمر من القرن السادس عشر إلى منتصف القرن السابع عشر ( عصر الكلاسيكي ) الذي يؤرخ فوكو بدايته بظهور اللحظة الديكارتية في أواسط القرن السابع عشر و ( عصر الحديث ) الذي يبدأ مع مطلع القرن التاسع عشر بظهور مفهوم الإنسان من حيث هو ذات تاريخية .
أي إن الثقافة لها شفرات معرفية معينة يريد فوكو الوصول إليها وإيضاح إلى أي مدى تطابقت اللغة مع الواقع وان كل شفرة مرتبطة بمكان وزمان معين ، كما يقول فوكو " في كل ثقافة بين استخدام ما يمكننا تسميته القوانين الناطقة والتأملات في النظام هناك التجربة العابر للنظام وصيغ وجوده " (12)
ويرى إن في العصر الكلاسيكي كان النظر إلى المجنون على انه روح شريرة وكانوا يشحنون في باخرة ويتم إبعادهم عن الآخرين وفي القرن التاسع عشر ظهر العيادة وتشكل فيه السجن وبالتالي تداخلت بنية اللغة مع بنية الجنون عن طريق التقارير الطبية ، واصبحت اللغة مفهومة بخلاف القرن السادس عشر الذي كانت فيه اللغة غير مفهومة . وذلك كما قال فوكو في كتابه ( الكلمات والأشياء ) . " إن الاستقصاء الاركيولوجي قد بين انقطاعين كبيرين في ابستيمية الثقافة الغربية : انقطاع الذي دشن العصر الكلاسيكي نحو منتصف القرن السابع عشر وذلك الذي طبع في بداية القرن التاسع عشر عتبة حداثتنا . والنظام الذي يفكر على أساسة لا يملك صيغة الوجود نفسها التي يتملكها نظام الكلاسيكيين . وعبثا كنا نملك الانطباع عن حركة شبه مستمرة للعقلانية الأوربية منذ عصر النهضة وحتى أيامنا " (13)
أي إن فوكو هنا يرى بان هناك انقطاعين في بستيمية الثقافة الغربية – انقطاع في عصر الكلاسيكي الذي فيه اللغة غير مفهومة أي يمثل اللغة . وانقطاع في العصر التاسع عشر الذي يمثل الاقتصاد كما انه يشترك مع باشلار في نقده للاستمرارية . ولهذا فوكو " يتقبل فكرة الانقطاع ، ولكنه يرى بعض الاتصال بين الحقب من خلال ما يفترضه من وجود بذور المعرفة الجديدة للحقبة اللاحقة في نهاية الحقبة السابقة " (14)
وهكذا فان الفلسفة الباشلارية قد كانت ملهمة للفلاسفة المعاصرين تختلف اتجاهاتهم واختصاصاتهم ، وهذا ما جعل وجود علاقة بين الفلسفة الباشلارية والبنيوية .
الخلاصة :
إن القطيعة الابستمولوجية ما هي إلا مراجعة للمفاهيم العلمية في الفكر العلمي السابق لها . ولكن هذه المرجعة لا تعني انفصالا ، بل تعني انتقالا جدليا إلى مفاهيم اشمل ، فالمفاهيم القديمة ضمن القطيعة الابستمولوجية لا يتم تركها بصفة مطلقة ، ولكن تتم مراجعتها بالكيفية التي تبين حدود صدقها ، كذلك لا تتم بصورة تجريدية ، بل هناك دائما تعيين للظروف التجريبية التي تسمح لنا بان نعيد النظر في أي مفهوم .
بالإضافة إلى ذلك إن المهام التي أردنا توضيحها المتمثلة في إبراز القيم الابستمولوجية ، وفي التحليل النفسي للمعرفة الموضوعية واثبات اثر تطور المعارف في بنية العقل ، ما هي إلا مهام منهجية التي أنجزتها الابستمولوجيا ، فان هناك مهمة أخرى فلسفية التي أرد باشلار إنجازها من خلال الثورة العلمية المعاصرة ، لأنه مهمة إقامة موقف فلسفي جديد يتجاوز التعارض الذي كان قائما بين الموقفين التقليديين العقلاني والواقعي . أي هي البحث في لاكتشافات العلمية الجديدة ، وفي خصائص ونتائج الفكر العلمي الجديد عن أسس الموقف الفلسفي الذي يريده باشلار إن يكون تركيبا فلسفيا جديدا يلغي الصراع في الميدان الميتافيزيقي بين الموقفين الميتافيزيقيين التقليديين العقلاني والواقعي .
كذلك من خلال عرضنا لمفاهيم الفلسفة المختلفة أتضح إن المشروع الباشلاري لم يختلف بصورة كاملة هذا التجاوز الذي يعلن عنه مشروعها بأنها لم تكن كما أراد باشلار إن تكون ثورة في ميدان الفلسفة . وان أول مظهر للتجاوز الفعلي الذي تحققه فلسفة باشلار هو أنها على العكس ما تقول به الفلسفات العقلانية المثالية ، لا تقول بحقيقة مطلقة . بل الحقيقي عند باشلار نسبية وذلك على مستويين :
المستوى الأول: أنها مظهر لتقدم العلم ، فان تاريخ العلم بين لنا إن ليست هنالك حقيقة تظل ثابتة ونهائية . فالفلسفات العقلانية التقليدية أنها بنت أنساقها الفلسفية على حقائق علمية لفترات تاريخية معينة ، كما لو كان الأمر يتعلق بحقائق مطلقة ونهائية . أي أنها كانت عقلانية تعلن عن انغلاقها . إما باشلار يبحث عن عقلانية التفتح ، أي تعدد في صور المكان والزمان .
المستوى الثاني: تكون الحقيقة نسبية لأنه العلم المعاصر يعلمنا إن المعرفة بالواقع وخاصة عندما يتعلق الأمر بدراسة الجسيمات الصغيرة بان تكون تقريبه ، لأنها معرفة حقيقة لا تأتي نتيجة لنقص في وسائلنا ومناهجنا للمعرفة . كما عند العلم الكلاسيكي بل تأتي نتيجة لتقوية الوسائل والمناهج وتجديدها وتدقيقها .