|
نوفاليس |
الظّاهرة الجديدة في تونس المتمثّلة في الانتحار حرقا ،والتي ازدادت استفحالا بعد أن أقدم الشاب محمد بوعزيزي
يوم 17 ديسمبر 2010 على حرْق نفسه مشعلا انتفاضة شعبّية أدّت إلى سقوط نظام بن علي، تدفع إلى البحث في ما ترمز إليه النّار لدى الفلاسفة والشعراء والمبدعين.
أوّل الفلاسفة الذين بحثوا في مسألة رمزية "النار" هو إنباذقولس الإغريغنتي، الذي ولد عام492 قبل الميلاد بمدينة أغريغنتا بصقلّيّة، والتي كانت آنذاك واحدة من أهمّ مدن العالم الإغريقي. وكان فيلسوفا وشاعرا وطبيبا ومهندسا ينتمي إلى الطبقة الأرستقراطيّة. غير أن ذلك لم يمنعه من أن يكون مدافعا شرسا عن الديمقراطيّة حتى الرّمق الأخير من حياته وأن يصرف جلّ اهتماماته لخدمة مصالح مدينته وكامل جزيرة صقلية.
ولإنباذوقلس نظريّة في نشأة الكون تقول بأن هناك قوّتين تتصارعان دائما وأبدا، وهما الكراهيّة والحب وهما تتأدّيان بالتّناوب إلى الانفصال والاتّحاد بين العناصر الأربعة الأساسيّة والتي هي النار والهواء والتراب والماء، وهو يعتقد أن النار تفتن الإنسان لأنها مدمّرة ومطهّرة في نفس الوقت، فهي بإمكانها أن تحرق مدنا وغابات بأكملها، كما أنها تحمي من البرد فتنعش الناس في فصول الشّتاء، وتساعدهم على تحمّل الصّقيع وعلى مواجهة العواصف، كما أن النار رمز للتّحوّل والتجّدد.
وتقول الأسطورة إن إنباذوقلس فضّل في النهاية أن يلقي بنفسه في اللّهيب، ولعلّه فعل ذلك معتقدا أن النار ستمنحه حياة جديدة بعد أن تحوّل جسده إلى رماد، وفي كتابه الشّهير"الجموع والقوّة"، يفرد إلياس كانيتيالحائز على جائزة نوبل للآداب فصلا بديعا عن النّار ورموزها ودلالاتها وهو يقول بأنّ النّار تنتشر بسرعة فائقة وألسنة لهبها تتفاعل مع بعضها البعض ومن جملة ما تتميّز به هو العنف الذي تتعامل به مع الغابات، ومع السّهوب ومع مدن بأكملها، وحتى عندما تكون هناك مسافة تفصل بين الأشجار أو البنايات، فإنّ النّار تتمكّن من الجمع بينها ملتهمة إيّاها.
النار شبيهة بطوفان نوح
ويضيف إلياس كانيتي قائلا بإنّ النّار مدمّرة غير أنه باستطاعتنا ترويضها ومكافحتها وإطفاء لهبها، والماء عدوّها الأساسيّ، كما أن في الأساطير القديمة يمكن أن ينتهي العالم بحريق هائل أو بطوفان شبيه بطوفان نوح ورغم الخوف الذي تبثّه النّار في قلوب جموع الناس عند اشتعالها، فإن النار تفتنهم أيضا. وهذا ما كان يحدث مع هنود "النافاهوس" في المكسيك الجديدة، فقد كان هؤلاء يوقدون نارا هائلة وحولها يرقصون من غروب الشمس إلى شروقها من دون انقطاع ويؤدّون رقصاتهم الوحشيّة شبه عراة ملوّحين بعصيّ في رؤوسها الرّيش ويضطرّون أحيانا للزّحف على بطونهم للإقتراب أكثر من النّار. كما يحاولون أن يشعلوا الرّيش الذي في رؤوس عصيّهم وعند طلوع الشمس يرقص هنود "النافاهوس" رقصتهم الأخيرة ملقين على أجسادهم العارية الرّماد والجمر وقد بدأ ينطفئ.
ويفسّر إلياس كانيتي طقوسهم هذه قائلا: ”إنّهم -أي هنود "النافاهوس"- يرقصون النّار ذاتها، وهم يصبحون النّار وحركاتهم شبيهة بلهبها وما يمسكونه بأيديهم لكي يشتعل ويمنحهم الشعور بأنهم يشتعلون هم أيضا. ويشير إلياس كانيتي أن التّاريخ يخبرنا أن هناك مدنا في مناطق من العالم تعرّضت للحصار الطويل. ولمّا تيقّن سكانها باستحالة النجاة، أشعلوا النيران فيها ليموتوا وسط الحريق الهائل وهذا ما حدث مع سكّان مدينةتالة التونسيّة. فعندما حاصرهم القائد الروماني ميتيلّوس خلال حروبه مع القائد البربري يوغرطة على مدى أربعين يوما، جمعوا كلّ ما يملكونه من أشياء ثمينة في قصر المدينة الكبير ثمّ أقاموا حفلا بهيجا. وبعد أن أكلوا وشربوا وهم يغنّون ويرقصون، أشعلوا النار في القصر وفي منازلهم وعند دخول جيش ميتيلّوس المدينة، لم يجد غير أكوام من الرماد.
العاشق يموت بنار عشقه
وفي القرون الوسطى كان المتشدّدون المسيحيّون يحرقون أعداءهم لأن النار عندهم ترمز إلى الجحيم الذي هو مأوى الهراطقة والفجّار. ويروي كرابلين قصّة امرأة في منتصف العمر، تعيش وحيدة وكانت مهوسة بإشعال الحرائق منذ طفولتها. وقد حوكمت أكثر من مرّة بسبب ذلك، وفي النهاية أرسلت إلى مصحة للأمراض العقليّة لتمضي فيه عشرين عاما. ومع ذلك ظلّت عاجزة عن السّيطرة على نفسها، فكلّما رأت عود ثقاب استبدّت بها الرّغبة في إشعال النّار، فما كان يفتنها ويستهويها هو رؤية النار. وكان الشّاعر الألماني نوفاليس يرى أن الحبّ شبيه بالنار وهو يشبّهه بجسدي العاشقين عند التحامهما أثناء الجماع باحتكاك قطعتي خشب يتسبّب في إشعال النّار لذلك فإن النار تحيل على الرّغبات المكبوته.
ويجاري الشاعر الألماني راينار ماريا ريلكه نوفاليس في رؤيته للنار ويقول إنها-أي النار-تشبه النار التي تحرق قلب العاشق المتيّم والعاشق الحقيقي هو الذي يشتهي أن يموت بنار عشقه. وهذا ما يحيلنا إلى التراث الشّعبي التونسي حيث نجد العاشق يحترق بنظرة واحدة من الحبيبة. وعادة ما يشّبّه العاشق عين الحبيبة بالنّار التي تحرق قلبه، بل جسده كلّه والعاشق في أغنية شعبيّة مشهورة يقول بإن الحرائق تتوالى من دون أن يتمكّن حريق من إطفاء حريق آخر ويضيف بأن حرائق عشقه تزداد حدّة من يوم إلى آخر. ونعلم أن عاشق حبيبة مسيكة، المغنيّة التونسية الفائقة الجمال، أحرقها أحد عشاقها بعد أن ضبطها مع غريم له في فراش الحبّ لأن الحبيبة التي تخون لا تستحقّ غير ذلك العقاب الأليم.
النار أولى أساطير الإنسان
وفي كتابه "التّحليل النفسي للنّار"،اهتم الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار(1884-1962) بالنّار ودلالاتها النفسيّة والفسفية في الأساطير وفي أعمال الشعراء والفنّانين. ويشير باشلار إلى أنه فتن بالنّار منذ كان طفلا يقرأ على ضوء الشموع والمصابيح في قريته الصّغيرة، وعندما اشتهر كفيلسوف دَرس الأساطير، والأحلام والخيال البشريّ من خلال الماء والنّاروالتراب والهواء.
من هنا يمكن القول إنّ النار ظاهرة متميّزة يمكن أن تفسّر كلّ شيء (…) النّار هي الحيّة دائما، وهي حميميّة وهي تعيش في قلوبنا وتعيش في السّماء وهي تصعد من أعماق "المادّة وتُهدَى كما لو أنها الحبّ وهي تنزل في المادّة وتتخفّى وتكْمن مثل الكراهيّة والرّغبة في الإنتقام. ويضيف باشلار قائلا: "قرب النّار علينا أن نجلس وأن نستريح من دون أن ننام، لا بدّ أن نقبل الحلم الخاصّ موضوعيّا". والنّار بالنسبة لغاستون باشلارهي رمز الشيطان ولهب جهنّم، كما أنها مطهّرة، فهي تحرق الأعشاب اليابسة التي تطلق روائح كريهة.