بعد سنوات طوال ـ من الإبحار في محيطات الآداب العالمية والقراءات الدؤوب التي كان يطالع القاريء بما يجول في باله حيالها في الصحف المحلية وفي الصحف العربية ـ أصدر الكاتب الصحفي والقاص ياسر حجازي مجموعته القصصية الأولى (دهشة التُّفَّاح) . بهكذا عنوان غارق في دهشته لتبثه المؤسسة العربية للدراسات والنشر ضمن كتاب يقع في 147 صفحة من القطع المتوسط ويتألف من 18 قصة كتبت في الفترة 1996-2007.، ومن عناوين قصص باعثة على التأمل والتوتر : إذا الدار انكشفت، المطمئن، وشوشات الزجاج، عام الخيطان، حادثة الدّكان: بعض من قصة عبد السّتار، شجرة المانجو، نشرة الثامنة، كزدورة: لماذا نمشي؟، وأد قصة موتان، البحث عن اليابسة، الواقف الذي يشبه كثيراً من الناس، سنوات الصناديق، ودهشة التفاح. يعالج حجازي في مجموعته القصصية الموشاة بغلاف رسمته شقيقته التشكيلية علا حجازي؛ بلغة متماسكة البنيان؛ شخصيات متأرجحة بين الخوف والجسارة، ذلك الخوف النبيل والوقور في آن واحد ، فلا يؤدي بالشخصيات الى الإرتعاد أو الشكوى أو النحيب، لا تلجأ الشخصيات الى تطمينات من هذا النوع كي تبدد بها مخاوفها، وإنما تعزي نفسها بأن الخوف من سيمياء الحياة ومن حتمياتها الوجودية ، كما جاء في قصّة "الخشب العتيق" بعد أن تبادل السؤال مع صديقة قديمة: هل غادركَ الخوفَ؟ -لم تَزَل فيّ الحياة، فكيف يزول الخوف؟! وأيضاً في قصة "نقطة تفتيش"، يشيع الخوف في ثنايا القصة منذ السّطر الأول، ويحاول البطل تذكّر فيما إذا إرتكب فعلاً سيئاً دفع شرطي المرور أن يوقفه ويطلب رخص سيارته..! يطمئن نفسه في البداية: لم أفعل أمراً سيئاً أو جيّداً هذا النهار. لم أقطع إشارة مرورية، لم أرتكب جنحة. لماذا الخوف إذاً؟ ولا يعرف البطل إجابة طيلة القصة، يستذكر ما قام به منذ أيام، لكنه لا يهتدي لشيء، بل يشكَّ بكل شيء: بيني وبيني لم أستطع أن أبرّئ نفسي من فعل أيّ شيء يحتمل تعارضه مع القانون. لن أتمكّن من الدفاع عن نفسي. عادَ إليَّ الشرطي. أعادَ لِي رخصتي واستمارة سيّارتي..سلّمني قسيمة مخالفة لعدم تجديد الاستمارة. ثم انصرفَ.. وانصرفتُ وبقيَ الخوف جاثماً في أمعائي. شخصيات (دهشة التفاح) عالقة متورّطة قلقة طيلة الوقت، وهي في حالتها تلك تتنقّل بين مواقف وذكريات عدّة مختلفة، تزيد من قلقها فيما تحاول في الوقت ذاته التخفف من عبء عبثية ورطتها، ففي قصة "الممحاة" يجد روّاد المطعم أنفسهم عالقين في المكان كلما حاولوا الخروج، ولم يوضّح الكاتب الخروج إلى أين؟ . القشرة لم تزل تشتّتُ أفكاري، وأنا مازلتُ أتحسّسُ قلقاً يعربدُ فيّ أو في المطعمِ الباردِ، الذي لا نحبّ أنْ نأتي إليه لكنّنا نجدُ أنفسنا بين أحضانه كلّما خرجنا. . وفي قصة "الفرح الثقيل": أحداث الشارع السابع، يجد مجموعة من الناس أنفسهم عالقين في الشارع السابع، طلاب مدرسة، صبية معفّرين بالتراب، رجل يعمل مندوباً لإحدى الشركات الأجنبية، عتّالون، باعة متجوّلون، شرطي. ويحاول بعضهم الخروج من الشارع، لكن منهم من يعرف أن لا خروج: رجلٌ يبدو من ردائه أنّه يعمل مندوباً لإحدى الشركات الأجنبيّة ادَّعى أنَّه مدير الشركة. اقترحنا عليه أن يستريح قليلاً، فأكثر من إلحاحه لمعرفة كيفية الخروج؟ جاوبه الصبيُّ الذي رمى حقيبته: لن تخرج من هنا.
ثم في قصة "ساقية الميدان" يدخل البطل إلى ميدان دائري في قلب مدينة كبيرة، يلف ويدور ولا يرى مخرجاً، يفكر في الميدان، يذكر ذاك الرّياضي الذي طاف على الدراجة الهوائية لأيام عدة، لكنه حين وصل نقطة النهاية ميدان النوافير نسي الوقوف! . البطل عالق في الميدان، ويفكر ما معنى ميدان؟ يتضاعف قلقه بآخر جديد؛ لكن القلق هذه المرّة نوع جديد انه قلق لغوي، هو الذي أكل فلقات من معلّمي اللغة العربية بسبب ضعفه في اللغة: ديدن، ما الدَّيْدَنُ؟ ديدان: .... أوف... هذه آكلة الإنسان. مي دان: مَنْ مَي؟! ...... ياربـّي أين صارت مَي، أما زالت تذكرني؟ دان ودان.... لماذا دان ودان؟ ميد: ما الميدُ؟ الديّان لا يموت والذنب لا ينسى يَدان، يُدان..ارتبك كثيراً بتلك الكلمات وهو يتلفظها، أرعبهُ الميدانُ أكثرَ حينما وصل إلى كلمة: يُدان. تصل الورطات أوجها في عام الخيطان حين تحاصر خيطان الساحة الكبيرة في المدينة، تتزايد تتراكم، تتعالى حتى تصير جبلاً، ولا يعرف أحد سبباً لتراكمها وتكاثرها. مرّت أيّام طويلة لكنّ أحداً من خبراء المدينة لم يقدّم تفسيراً أو حلاً لتلك الظاهرة. قَدَّرتْ أطراف محايدة أنّ عدد الخيطان يزيد عن مليوني خيط ملوّن، أطوالها لم تزل مجهولة، وأنّ العدد في ازديادٍ متسارعٍ. ختمَ التقريرُ ملاحظاته: إنَّ ما يحدث أمراً غرائبياً بحاجةٍ إلى مزيدٍ من البحوث والدراسات من قِبَلِ العالم الأكثر تقدّماً. اللافت أن حجازي لا يعتمد أسلوباً واحداً في الكتابة، ففي قصّتي: إذا الدار انكشفت والمطمئن يظهر روح الشاعر ولغته الغنائية الزّاخرة ، وفي قصّة الواقف الذي يشبه كثيراً من الناس لمحة سيرة في قهوة فهيم وأجوائها. دهشة التفاح قصص تأخذ من دروب الحياة حكاياتها، و تنحرف بمسار السرد والتخييل نحو أجواء فانتازية ونفسية. ولا يقف ياسر حجازي عند حدود واقعية القص بل يعمد إلى تعيمق حالاته ومشاهده بلغة رشيقة قادرة على تصوير خلجات الشخصيات. وتعكس المجموعة قدرة كاتبها على تنويع مواضيعه وإتقانه في تحويل الحكاية اليومية الى بناء فني. |