العودة الأبدية فكرة يكتنفها الغموض، وبها أربك نيتشه الكثيرين من الفلاسفة: أن نتصور أنّ كل شيء سيتكرر ذات يوم كما عشناه في السابق، وأنّ هذا التكرار بالذات سيتكرر بلا نهاية!ماذا تعني هذه الخرافة المجنونة؟
تؤكد خرافة العودة الأبدية، سلبًا، أن الحياة التي تختفي نهائيًا، والتي لا ترجع، إنما هي أشبه بظل ودون وزن وميتة سلفًا. ومهما تكن هذه الحياة فظيعة أو جميلة أو رائعة، فإنّ هذه الفظاعة وهذا الجمال وهذه الروعة لا تعني شيئًا، هي غير ذات أهمية مثل حرب وقعت في القرن الرابع عشر بين مملكتين إفريقيتين فما غيرت شيئًا في وجه التاريخ، مع أن ثلاثمائة ألف زنجي لاقوا فيها حتفهم وفي عذابات تفوق الوصف. فهل كان سيتغير شيء لو أن هذه الحرب بين المملكتين الإفريقيتين في القرن الرابع عشر قد تكررت مرات لا حصر لها في سياق العود الأبدي.
أن نخون هو أن نخرج عن الصف لنسير في المجهول. وهي لم تعرف ما هو أجمل من السير في المجهول.
لنقل أن فكرة العود الأبدي تحدد أفقًا لا تبدو فيه الأشياء كما نعرفها: تظهر لنا من دون الظروف التخفيفية لعرضيتها، هذه الظروف التخفيفية تمنعنا في الحقيقة من إصدار حكم معين. هل بالإمكان إدانة ما هو زائل؟ إن غيوم المغيب البرتقالية تضفي على كل شيء ألق الحنين، حتى على المقصلة.
في عالم العود الأبدي، كل حركة تحمل ثقل مسؤولية لا تطاق. وهذا ما جعل نيتشه يقول" إن فكرة العود الأبدي هي الحمل الأكثر ثقلًا".
إذا كان العود الأبدي هو الحمل الأثقل، يمكن لحيواتنا عندئذ أن تظهر على هذه القماشة الخلفية بكل خفتها الرائعة.
لكن هل الثقل حقا فظيع؟ وجميلة هي الخفة؟
من وحي هذه الأجواء المشحونة بالنبرة الفلسفية، يكتب الروائي التشيكي ميلان كونديرا روايته الأشهر "خفة الكائن التي لا تُحتمل" التي ترجمتها ماري طوق، وصدرت عن المركز الثقافي العربي، وحُوّلت عام 1988 إلى فيلم بعنوان ( L'insoutenable légèreté de l'être) ونقتبس منها المقاطع الآتية:
كانت غير قادرة على إغماض جفن طيلة الليل. أما بين ذراعيه فكانت تغفو دائماً مهما تكن درجة اضطرابها. كان يروي من أجلها بصوت خافت قصصاً يبتدعها أو ترهات وكلمات مضحكة يعيدها بلهجة رتيبة. كانت هذه الكلمات تتحول في مخيلتها إلى روئ مشوشة تأخذ بيدها إلى الحلم الأول .كان يملك تأثيراً خارقاً على إغفائها، وكانت تغفو في الدقيقة التي يقرر هو أن ينتقيها.
لا توجد أية وسيلة لنتحقق أي قرار هو الصحيح، لأنه لا سبيل لأية مقارنة. كل شيء نعيشه دفعة واحدة، مرةً أولى ودون تحضير. مثل ممثل يظهر على الخشبة دون أي تمرين سابق. ولكن ما الذي يمكن أن تساويه الحياة إذا كان التمرين الأول الحياة نفسها؟ هذا ما يجعل الحياة شبيهة دائماً بالخطوط الأولى لعمل فني، ولكن حتى كلمة "خطوط أولى" لا تفي بالغرض. فهي تبقى دائماً مسودة لشيء ما، رسماً أولياً للوحة ما. أما الخطوط الأولى التي هي حياتنا فهي خطوط للاشيء ورسم دون لوحة.
إن كلمة شفقة توحي عموماً بالارتياب، وهي تُعنى بشعور يعتبر أقل منزلة ولا علاقة له بالحب إطلاقاً. أن نحب أحداً شفقة به فهذا يعني أننا لا نحبه حقاً.
إن ألمنا بالذات ليس بأثقل من الألم الذي نعانيه مع الآخر ومن أجل الآخر وفي مكان الآخر؛ ألم يضاعفه الخيال وترجّعه مئات الأصداء.
في اعتقادنا جميعاً أنه لا يعقل لحب حياتنا أن يكون شيئاً ما خفيفاً، دون وزن. كلنا نتصور أن حبنا هو قدرنا وأن حياتنا من دونه لن تعود حياتنا.
كما وأننا نقنع أنفسنا بأن بيتهوفين شخصياً بجبينه المقطب وشعره الآشعث، يعزف من أجل حبنا الكبير لحن: "ليس من ذلك بد".
لم تكن تملك، في مقابلة عالم التفاهة الذي يحيط بها، إلا سلاحاً واحداً: الكتب التي تستعيرها من مكتبة البلدية وخصوصاً الروايات. كانت تقرأ أكداساً منها، ابتداءً بفيلدنغ وانتهاء بتوماس مان. كانت هذه الروايات تمنحها فرصة للهروب الخيالي، وتقتلعها من حياة لم تكن تعطيها أي شعور بالاكتفاء. لكنها كانت أيضاً تعني لها بصفتها أدوات: كانت تحب أن تتنزه وهي تتأبط كتباً. كانت تميّزها عن الآخرين مثلما كانت العصا تميز المتأنق في القرن الفائت.
إذا كنا نفقل القبر بحجر، فهذا لأننا لا نرغب في رجوع الميت. الحجر الثقيل يقول له: "ابق حيث أنت!"
وحدها الصدفة يمكن أن تكون ذات مغزى. فما يحدث بالضرورة، ما هو متوقع ويتكرر يومياً يبقى شيئاً أبكماً. وحدها الصدفة ناطقة. نسعى لأن نقرأ فيها كما يقرأ الغجريون في الرسوم التي يخطها ثفل القهوة في مقر الفنجان.
من يبغي "الارتقاء" باستمرار، عليه أن يستعد يوماً للإصابة بالدوار، لكن ما هو الدوار؟ أهو الخوف من السقوط؟ ولكن لماذا نصاب بالدوار على شرفة السطح حتى ولو كانت مزودة بدرابزين متين؟ ذلك أن الدوار شيء مختلف عن الخوف من السقوط. إنه صوت الفراغ ينادينا من الأسفل فيجذبنا ويفتننا. إنه الرغبة في السقوط التي نقاومها فيما بعد وقد أصابنا الذعر.
يجدر بالضعيف أن يتعلم كيف يكون قوياً، ويرحل عندما يصير القوي أضعف من أن يستطيع إيذاء الضعيف.
إن حياتنا اليومية مفخخة بالصدف وتحديداً باللقاءات العرضية بين الناس والأحداث، أي ما نسميه المصادفات: والمصادفة هي لحظة يقع حدثان غير متوقعين في الوقت نفسه قيتلاقيان. في أغلب الأحيان تمر مصادفات كثيرة دون أن نلاحظها اطلاقاً.
يمكنني القول ربما إن الإصابة بالدوار تعني أن يكون المرء سكران من ضعفه الخاص.. فهو يعي ضعفه لكنه لا يرغب للتصدي له بل الاسترسال فيه. ينتشي بضعفه الخاص فيرغب في أن يكون أكثر ضعفاً، يرغب في السقوط أمام أعين الآخرين في وسط الشارع، يرغب في أن يقع أرضاً، تحت الأرض بعد.
في المقدمة الكذب المحسوس وفي الخلف الحقيقة التي لايدرك كنهها.
أن نخون هو أن نخرج عن الصف لنسير في المجهول. وهي لم تعرف ما هو أجمل من السير في المجهول.
هي تكره الأدب الذي يكشف فيه الكاتب عن حياته الخاصة أو عن حياة أصدقائه الخاصة.. وتفكر أنّ ذلك الذي يفقد حياته الخاصة يفقد كل شيء. وأن من يتخلى عنها بكامل إرادته، إنما هو مسخ. لذلك فلا يؤلمها أن يكون عليها أن تخفي حبها. بل على العكس، هذه هي وسيلتها الوحيدة لكي تعيش في الحقيقة.
يمكن اختصار مأساة حياة "باستعارة" الثقل. نقول مثلاً إن حملاً قد سقط فوق أكتافنا. فنحمل هذا الحمل. نتحمله أو لا نتحمله ونتصارع معه، وفي النهاية إما أن نخسر وإما أن نربح. ولكن ما الذي حدث معها بالضبط؟ لا شيء. افترقت عن رجل لأنها كانت راغبة في الافتراق عنه. هل لاحقها بعد ذلك؟ هل حاول الانتقام؟ لا. فمأساتها ليست مأساة الثقل إنما مأساة الخفة. والحمل الذي سقط فوقها لم يكن حملاً بل كان خفة الكائن التي لا تطاق.
لم تكن تفهم لماذا يرغب الموتى في أن يقام فوقهم ما يشبه القصور. هذه المقبرة هي الغرور ممثلاً في حجر. فبدل أن يكون سكان المقابر أكثر تعقلاً بعد موتهم، فإنهم أكثر حماقة مما كانوا وهم على قيد الحياة. كانوا يعرضون أهميتهم من خلال الأنصاب. لم يكن أولئك الراقدون هنا آباءً أو أخوة أو أبناء أو جدات بل وجهاء وموظفين في الحكومة وأناساً ذوي ألقاب ورتب شرف. حتى أن أي موظف في البريد كان يعرض أمام الملأ رتبته ودرجته ووضعه الاجتماعي – أي قيمته، بتفاخر.
الحب يبدأ في اللحظة التي تسجل فيها امرأة دخولها في ذاكرتنا الشعرية من خلال عبارة.
فإذا كنا نفقل القبر بحجر، فهذا لأننا لا نرغب في رجوع الميت. الحجر الثقيل يقول له: "ابق حيث أنت!"."
لذا وحدها الأسئلة الساذجة هي الأسئلة المهمة فعلاً. تلك الأسئلة التي تبقى دون جواب. إن سؤالاً دون جواب حاجز لا طرقات بعده. وبطريقة أخرى: الأسئلة التي تبقى دون جواب هي التي تشير إلى حدود الإمكانات الإنسانية، وهي التي ترسم وجودنا.
الحب يبدأ في اللحظة التي تسجل فيها امرأة دخولها في ذاكرتنا الشعرية من خلال عبارة.
الأحد أبريل 09, 2017 4:32 am من طرف الكرخ