في روايته "الإنسان الصرصار أو رسائل من أعماق الأرض" التي أنجزها في العام 1864، يبثّ الكاتب الروسيفيودور دوستويفسكي رسائل من أعماق الأرض أو مذكرات من العالم السفلي، متحدثاً عن إنسان ذميم مرفوض ومكروه وحاقد، بلا اسم، في إشارة إلى حالة الاغتراب والإحساس المطلق بالعدم التي يعيشها هذا الرجل، يستشرف من خلالها دوستوفسكي أحوال الإنسان المعاصر وارتهانه البغيض إلى السلطة وآليات الهيمنة والاستلاب.هذا الرجل المتقاعد من وظيفة مدنية بسيطة يسرد مذكراته الشخصية لقراء وهميين، من ملاذ يحميه من ردود أفعال الآخرين، وهو سرداب تحت الأرض، حيث يعيش في مدينة سانت بطرسبيرغ الروسية. يكتب الرجل بحنق شديد "أنا إنسان مريض .. إنسان حقود، إنسان ممقوت. وأظن أن كبدي مريضة إلا أنني، على أي حال، لا أعرف شيئاً عن مرضي، ولا أعرف ما هي علتي. ولست أستشير طبيباً، كما أنني لم أفعل ذلك قط، رغم أنني أحترم العقاقير والأطباء، زد على ذلك أنني متعلق بالخرافات إلى الحد الذي يجعلني أحترم العقاقير، ومهما يكن الأمر (فإنني مثقف إلى حد يكفي ليجعلني لا أصدق الخرافات، إلا أنني أؤمن بها مع ذلك)".
أحس في أعماقي بالخجل من أنني لم أكن غير حقود في الواقع وحسب
الرواية التي غدت واحدة من أبرز نتاجات الأدب العالمي تنقسم إلى قسمين؛ الأول المعنون "تحت الأرض" جاء في نمط مونولوج يقوم فيه الكاتب بتقديم نفسه والتعبير عن أفكاره ومعتقداته. أما القسم الثاني "مهداة إلى الثلج الندي"، فقام فيه الكاتب بقص بعض الأحداث التي وقعت في حياته.
ودوستويفسكي(11 نوفمبر 1821 - 9 فبراير 1881) عوّد قراءه على هذه الأجواء الكابوسية، حيث قدّم شخصياته دائماً في أقصى حالات اليأس وعلى حافة الهاوية.
وقد نقل الرواية إلى العربية أنيس زكي حسن، وصدرت عن دار العلم للملايين في بيروت عام 1959، منها نقتبس من القسم الأول:
إلى : ع . ك. ولست أعرف لماذا...
تقديم:
إنّ كاتب هذه المذكرات، والمذكرات نفسها، وهميان طبعاً، وبالرغم من ذلك، فإنني لا أقول إنه من الممكن أن يوجد مثل هذا الشخص في المجتمع وحسب، وإنما أقول إنه موجود فعلاً، ويستطيع القارئ أن يتأكد من ذلك إذا ألقى نظرة على الظروف التي ينهض عليها مجتمعنا.
لقد حاولت هنا أن أصف أحد أفراد الماضي القريب للرأي العام وصفاً أدق وأوضح من الوصف الشائع المألوف، لأنه يمثل جيلاً ما يزال على قيد الحياة: إننا نرى هذا الشخص مقدماً إلينا نفسه وآراءه في القسم الأول، وكأنه يحاول أن يوضح الأسباب التي أدت إلى ظهوره في مجتمعنا.
أما القسم الثاني، فإنه يحتوي على المشاهدات الحقيقية المتعلقة بشخصه والخاصة بحوادث معينة من حياته.
القسم الأول: تحت الأرض 1
أنا إنسان مريض .. إنسان حقود ، إنسان ممقوت. وأظن أن كبدي مريضة إلا أنني، على أي حال، لا أعرف شيئاً عن مرضي، ولا أعرف ما هي علتي. ولست أستشير طبيباً، كما أنني لم أفعل ذلك قط، رغم أنني أحترم العقاقير والأطباء، زد على ذلك أنني متعلق بالخرافات إلى الحد الذي يجعلني أحترم العقاقير، ومهما يكن الأمر (فإنني مثقف إلى حد يكفي ليجعلني لا أصدق الخرافات، إلا أنني أؤمن بها مع ذلك).
إن حقدي هو الذي يجعلني أرفض استشارة أي طبيب، وهذا ما لست أظنكم قادرين على فهمه، في حين إنني أفهمه جيداً. على أنني لا أستطيع أن أوضح إيضاحاً كافياً من هو الذي أريد إذلاله بحقدي في هذه الحالة، إلا أنني أدرك إدراكاً تاماً أنني لا أستطيع أن أؤذي الأطباء في شيء بمجرد عدم استشارتهم، بل إنني أعرف جيداً أنني أوذي نفسي بذلك ، لا شخصاً آخر. على أن ذلك لا يغير شيئاً من حقيقة أنّ الحقد هو وحده الذي يمنعني من استشارة الأطباء. إن كبدي مريضة، حسناً – لنذهب إلى الجحيم! مر علي وقت طويل وأنا على هذه الحال – عشرون عاماً. أما الآن، فإنني في الأربعين. لقد كنت موظفاً حكومياً، إلا أنني لست كذلك الآن. كنت موظفاً حقوداً شديد الخشونة، لأنني كنت أجد لذة قصوى في ذلك. ولم آخذ رشوة من أحد، ولهذا فأنت تجد أن خشونتي لم تكن غير تعويض عن ذلك، على الأقل. (تلك نكتة باردة، أليس كذلك؟ إلا أنني لن أشطبها. لقد كتبتها ظاناً أنها ستكون نكتة بارعة، غير أنني اكتشفت الآن إنني لم أكتبها إلا لكي أتحدث عن نفسي بطريقة مكروهة، أجل لن أشطبها، لأنني أقصد من ورائها شيئاً).
إنّ الذكي لا يمكنه أن يكون شيئاً خطيراً، وإنّ الأحمق وحده هو الذي يمكنه أن يكون أي شيء
كان الناس يقفون أمام مكتبي للحصول على ما يحتاجون إليه من الاستعلامات، وكنت أصر على أسناني، وأشعر بمتعة عظيمة حين أفلح في إيلام أحدهم، وقد نجحت في ذلك كثيراً. لقد كانوا جبناء خائفين، وذلك أمر طبيعي، لأنهم كانوا يأتون سائلين شيئاً. على أنه كان هنالك ضابط لم يكن في استطاعتي احتماله، لأنّه، وبكل بساطة، لم يكن يريد أن يذل نفسه، وإنما كان يسمعني صليل سيفه بطريقة كريهة، وظللت أحمل بغضائي له طيلة ثمانية عشر شهراً، بسبب ذلك السيف، وأخيراً تغلبت عليه فترك تلك العادة. كان ذلك في شبابي على كل حال.
أتعرفون أيها السادة ما هي الميزة الأساسية في حقدي؟ إنّ المشكلة كلها والجانب المؤذي فيها كامنان في أنني، حتى في أشد لحظات حقدي، أحس في أعماقي بالخجل من أنني لم أكن غير حقود في الواقع وحسب، وإنما لم أكن أشكو من شيء قط، كنت أخجل من أنني لم أكن غير ضارب الأرض بلا هدف، يفزع العصافير الآمنة في طريقه، واجداً في ذلك متعة أي متعة!وقد يصل حقدي إلى حد أن يظهر الزبد على فمي، إلا أنك تستطيع أن تجعلني مطواعاً هادئاً إذا أعطيتني لعبة لألعب بها، أو قدحاً من الشاي فيه قطعة من السكر، بل قد تفلح بذلك في مس أوتار أعماقي. إلا أنني، بعد ذلك، أصر على أسناني وأظل ساهراً الليالي الطوال أعاني من الخجل.
أجل كنت أفعل ذلك. لقد كنت أكذب حين قلت إنني كنت موظفاً حقوداً، كنت أكذب بدافع الحقد. ولم يكن الأمر يتعدى استمتاعي بأولئك الناس وذلك الضابط. أما الحقيقة، فهي أنني لم أكن حقوداً لقد كنت أحس في أعماقي بأشياء أخرى تريد أن تجد لها مخرجاً، إلا أنني لم أكن أسمح لها بذلك! وكنت أصر على عدم السماح لها بذلك! كانت تلك الأشياء تعذبني وتخجلني، وكانت تجعلني أرتجف، وأشعر بالمرض، وها أنا أشعر بالمرض فعلاً !
ألا تظنون أيها السادة أنني لا بد آسف الآن على شيء ما؟ وأنني أطلب الغفران منكم؟ أنني متأكد من أنكم تظنون ذلك، الا أنني أؤكد لكم على كل حال أنني لا أكترث إذا كنتم... ولم يقتصر الأمر على أنني لم أستطع أن أكون حقوداً، وإنما لم أكن أعرف كيف أكون أي شيء! لم أستطع أن أكون حقوداً أو طيب القلب، ولا نذلاً أو أميناً، ولا بطلاً أو حشرة. إنني أعيش حياتي الآن في هذه الزاوية، مهيناً نفسي بمؤاساة حاقدة غير مجدية تتمثل في قولي لها: إنّ الذكي لا يمكنه أن يكون شيئاً خطيراً، وإنّ الأحمق وحده هو الذي يمكنه أن يكون أي شيء.أجل، إنّ الفرد في القرن التاسع عشر يجب أن يكون مخلوقاً لا شخصية له، أما الإنسان الذي يتميز بالشخصية، الإنسان الفعال، فهو مخلوق محدود. هذا هو ما تعلمته طيلة هذه السنوات الأربعين.
إنني في الأربعين من عمري الآن، ولعلك تعرف أنّ أربعين عاماً هي حياة كاملة، هي منتهى التقدم في العمر. أما أن يعيش الإنسان بعد الأربعين، فذلك أمر سيء، عادي، منافٍ للأخلاق! ومن هو هذا الذي يعيش (حقاً) بعد الأربعين؟ أجب عن ذلك بإخلاص وأمانة، وسأخبرك أنا بمن يفعل ذلك: إنهم الحمقى والأفراد الذين لا قيمة لهم . إنني ألقي بهذه الحقيقة في وجوه كل المسنين، والشيوخ المحترمين، المبجلين ذوي الشعور البيضاء! بل إنني ألقي بهذه الحقيقة في وجه العالم كله! ولي الحق في ذلك، لأنني سأعيش إلى الستين، إلى السبعين، إلى الثمانين... هه ! انتظر، دعني ألتقط أنفاسي.إنكم تظنون أنني أريد أن أسليكم أيها السادة، إلا أنكم مخطئون في هذا أيضاً، فلست ذلك الإنسان المرح الذي تتصورونه، أو ربما تتصورونه، رغم أن هذا الهذر يضايقكم، (وإنني لأشعر بأنه يضايقكم). إنكم تسألونني من أنا – أما جوابي فهو أنني كنت أعمل موظفاً، لأنني كنت أريد أن أعيش (ولكي أعيش فقط)، ولما توفي أحد أقربائي البعيدين في العام الماضي وترك لي ستة آلاف روبل في وصيته، تركت وظيفتي حالاً، وقبعت في زاويتي. ولم تكن هذه الزاوية غريبة علي، فقد كنت أقضي فيها بعض الأوقات، إلا أنني استطعت بعد ذلك أن أستقر فيها نهائياً. إنني أعيش في غرفة مفزعة كئيبة في أحد أطراف المدينة. أما خادمتي، فهي عجوز ريفية خشنة الطباع بسبب غبائها، كريهة الرائحة دائماً. وقد أخبرني البعض بأنّ مناخ بطرسبيرغ لا يلائمني، وأنّ الحياة فيها لا تتناسب مع دخلي المتواضع. إنني أعرف هذا جيداً، أكثر مما يعرفه هؤلاء المشيرون والناصحون.. إلا أنني باق في بطرسبيرغ ولن أغادر بطرسبيرغ! لن أغادرها لأنه.. بل أنه سيان عندي أن أغادرها أو أن أبقى فيها. ترى ما هو الذي يستطيع أن يتحدث به الإنسان السوي ويحس بأعظم المتعة؟ الجواب: أن يتحدث عن نفسه.
لقد حاولت أن أكون حشرة عدة مرات، إلا أنني لم أكن أستحق حتى أن أكون حشرة
2
أود أن أخبركم الآن أيها السادة، سواء كان يهمكم هذا أم لا، لماذا لم أصبح حشرة. لقد حاولت أن أكون حشرة عدة مرات، إلا أنني لم أكن أستحق حتى أن أكون حشرة. أقسم أيها السادة أن شدة الإدارك مرض.. مرض حقيقي خطير. إن حياة الإنسان المألوفة لا تتطلب منه أكثر من إدراك الإنسان العادي، أي نصف أو ربع الإدارك الذي يتمتع به الإنسان المثقف في هذا القرن التاسع عشر الكئيب، وخاصة الإنسان الذي يقوده سوء حظه إلى سكنى بطرسبيرغ، أعظم مدينة من الناحية الفكرية والهدفية في العالم (هنالك مدن هادفة ومدن غير هادفة). يكفي أن يكون للإنسان من الإدراك ما يعيش به الناس المباشرون (كما يسميهم البعض) والفعالون في هذه الحياة. أراهنكم على أنكم تظنون أنني إنما أكتب هذا كله تظاهراً، أي لكي أكون منكتاً على حساب هؤلاء الفعالين، وأكثر من هذا، إنني أتظاهر بذلك كما تظاهر ذلك الضابط بالعظمة حين صلصل سيفه، ولكن من هو هذا الإنسان الذي يستطيع أن يفخر بأمراضه ويختال بها؟