يتأمل الأديب الأمريكي إرنست همنغواي في روايته "العجوز والبحر" أو "الشيخ والبحر" في الصراع الدائر بين الإنسان والحياة، ومدى ثبات الإنسان أمام هذا الصراع السرمدي الذي لا ينقطع. تضربه الحياة بأحداثها، فيثبت ويتسلح بما استطاع من قوة ليقاوم ويؤصّل معنى المقاومة الذي لا بديل عنه. تُعدّ هذه الرواية، في نظر النقاد، ذروة نضج همنغواي الأدبي والفني، وقد أثنت عليها لجنة نوبل عندما مُنحت لهمنغواي عام 1954، لاسيما، وقد نال عليها جائزة بوليتزر قبل ذلك بعامين. وترجمت الرواية إلى معظم لغات العالم. وحوّلها المخرج جود تايلور عام 1990 إلى فيلم هوليودي، وقام ببطولته أنطوني كوين.
تُعدّ رواية "العجوز والبحر"، في نظر النقاد، ذروة نضج همنغواي الأدبي والفني، وقد أثنت عليها لجنة نوبل عندما منحته الجائزة
الرواية تجسّد رحلة الحياة، حيث يجب أن يؤمن الإنسان على متنها بالقدرات الكامنة والخارقة المتواجدة داخله، وتظهر قوة الإنسان وتصميمه وعزمه على نيل أهدافه والوصول إلى ما يصبو إليه وإمكانية انتصاره على قوى الطبيعة، وهكذا أكدت الرواية بحزم أنّ الإنسان لم يُخلق للهزيمة، وقد يهلك الإنسان دون أن يهزم، فلا مكان لليأس. إنها لحماقة أن يستولي اليأس على الإنسان.
الرواية تتحدث عن رجل عجوز كان يتجوّل وحيداً في مركبه يصطاد في مياه غولف ستريم (كوبا). سانتياغو صياد متقدم في السن، ولكنه لا يزال متمتعاً بحيويته ونشاطه. كان لا يزال في زورقه وحيداً ساعياً إلى الصيد، وقد مضى 84 يوماً، ولم يظفر ولو بسمكة واحدة. رافقه في الأيام الأربعين الأولى ولد صغير كان بمثابة مساعد له، كان الصبي يحب العجوز كثيراً ويحب خدمته ورعايته. قال والدا الغلام لابنهما إن الشيخ منحوس نحساً لا ريب فيه، وأمراه أن يعمل في قارب آخر ما لبث أن فاز بثلاث سمكات رائعات من الأسبوع الأول لعمله معه.
وأشد ما كان يؤلم الغلام رؤية العجوز راجعاً إلى الشاطئ، في مساء كل يوم، وزورقه فارغ من الأسماك، ولم يكن يملك إلا أن يسرع إليه ليساعده في لملمة حباله، وحمل عدة الصيد وطي الشراع حول الصاري. وكان هذا الشراع يبدو وكأنه علم أبيض يرمز إلى الهزيمة السرمدية التي طال أمدها.
وفي يوم خرج العجوز من ميناء هافانا بقاربه قبل بزوغ الشمس، وتوغل في البحر عازماً على الوصول لمنطقة لم يصل لها من قبل، فهو ينشد اصطياد سمكة كبيرة ليجني ربحاً كبيراً يعيد له كبرياءه كرجل وكصياد... بعد أن جذّف كثيراً وتوغل في البحر أكثر رأى أحد الحبال يتحرك وتتعلق بخطافه سمكة عملاقة، لكنها لضخامتها لم يستطع العجوز أن يرفعها، وإذ بها تسحب هي المركب وتسبح به بعيداً... طال الوقت والسمكة ما زالت منطلقة... لفّ العجوز الحبل على كتفه لئلا يُفلت السمكة. أبصر من بعيد أضواء مدينة هافانا، فأدرك أنّ التيار يتجه صوب الشرق. وقد كان العجوز يحادث نفسه بصوت عال ما دام وحده. ويقول: لو كان الصبي معي في هذه الرحلة، إنني لم أظفر بمثل هذه السمكة في حياتي... إنها تستطيع أن تدمرني إذا قفزت، ولكن كيف لها أن تعرف أنني رجل عجوز...... كانت السمكة تراوغ وتناور وتدور، وكان بعد كل دورة يسترد أجزاء من الحبل أكثر فأكثر. كان واثقاً أنه بعد دورتين أخريين سيجد الفرصة ليطعنها بالرمح الذي أعده منذ وقت طويل. راح يصارعها عدة أيام وليال وتأخذه بعيدًا عن الشاطئ.
نال منه التعب ما نال، وجف ريقه والسمكة مازالت في دورانها. كان كلما حاول جذبها لكي يضربها تبتعد في هدوء دون أن يستطيع الوصول إليها. بعد دورات كثيرة، استجمع العجوز قوته واقترب منها ممسكاً بالرمح، وحين مرت أمامه رفع الرمح عالياً وطعنها به، فنفذ الرمح في السمكة خلف الزعنفة الكبيرة، وانحنى العجوز على الرمح بكل ثقله فتوغل الرمح في لحمها عميقاً.
اضطربت السمكة وقفزت وسقطت في الماء محدثة ضجة عالية وانبعث رذاذ الماء، ليغطي العجوز والمركب كله. شعر العجوز بالدوار.. شاهد السمكة مستلقية على ظهرها وقصبة الرمح بارزة منها وتحول لون الماء إلى اللون الأحمر. بسبب الدم الغزير الذي سال منها. كانت السمكة طافية مع الأمواج.. قال لنفسه: ينبغي أن أستعد للعمل الآن فأربطها للمركب وأبحر إلى موطني. تأمل العجوز السمكة الكبيرة، إنها غنيمته الغالية وظل في سعادته ساعة قبل أن تلطم فرحته أول سمكة من أسماك القرش..!! لقد أثارتها سحابة الدم التي انسابت من السمكة الضخمة وانتشرت على عمق ميل تقريباً، فأسرعت القروش بالصعود بلا حذر وبقوة. كان القرش المهاجم قوياً ومن النوع الذي لا يرهبه شيئاً. أخذ العجوز يُعدّ رمحه، حيث أصبح حبله قصيراً بعد أن قطعه ليربط به السمكة. كان العجوز يعلم أن أمله ضعيف، خاطب نفسه قائلاً: ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل..! هجم قرش آخر ونهش من جسد السمكة في نهم.. استعد العجوز وحين اقترب القرش مرة أخرى طعنه بالرمح طعنة قوية.
أكدت الرواية بحزم أنّ الإنسان لم يُخلق للهزيمة، وقد يهلك الإنسان دون أن يهزم، إنها لحماقة أن يستولي اليأس على الإنسان
علم العجوز أنّ القرش قد مات، لكنه كان قد تناول ما يقرب من أربعين رطلاً من اللحم، بل وأخذ الرمح معه مغروساً في رأسه. وأخذت دماء السمكة تسيل بغزارة لتجتذب أسماك قرش أخرى.. كانت آماله تضيق لكنه قال لنفسه: فكر في شيء بهيج أيها العجوز فكل دقيقة تمر تقترب من البيت وأنت تبحر خفيفاً بعد أن فقدت السمكة بعض وزنها. تطلع العجوز إلى رأس السمكة وأخذه التفكير بينما المركب منطلق في هذا الطقس المنعش وعاوده بعض الأمل فقال لنفسه: نعم، إن اليأس خطيئة..! كادت أعضاؤه تتجمد من شدة برد الليل وآلمته جروحه، بل كل أجزاء جسمه بسبب هذا المجهود الخارق الذي قام به.
لمح وهج بعض الأضواء من بعيد، فانتعش بعض الشيء، لكنّ مجموعة أخيرة من القروش هاجمت المركب وأتت على ما بقي من السمكة، ولم تجد مقاومته لها نفعاً فعاد العجوز بمركبه خفيفاً وقد تجمدت مشاعره.. لقد غُلب على أمره في النهاية. عاد للشاطئ وربط المركب وحمل الصاري، لم يكن أحد على الشاطئ ليراه، وكان التعب قد هدّه، وكاد يسقط لكنه استراح في الطريق عدة مرات حتى وصل لكوخه القديم.
جاء الصبي في الصباح، فنظر من النافذة وحين لمح يديْ العجوز وما أصابهما بكى. انطلق ليأتي له بالقهوة وبعض اللبن، ورأى الصيادون هيكل السمكة الناصع وأخذ بعضهم يقيس طولها. عاد الصبي للعجوز بالقهوة وأخذا يتحادثان. كان الصبي قد قرر أن يصيد مع العجوز بعد ذلك، ويترك من يعمل معه حتى ولو رفض والداه وقال: أمامي الكثير الذي أتعلمه منك.. انصرف الصبي وواصل العجوز نومه ليستريح بعد رحلته الشاقة.
فيما يأتي إطلالة على عوالم هذه الرواية وأجوائها الصراعية الساحرة بترجمة د. زياد زكريّا:
.. إنّهُ عشب الخليج الأصفر، الذي ينشرُ على وجه الماء إشعاعات فوسفوريّة في الظلام .
وراحَ العجوزُ يحدّث السمَكة:
أيّتها السمَكة، انّي أحبّك واحترمك كثيراً، ولكنّي سأصرعُك حتّى الموت قبل أن ينتهي هذا اليوم.
وقالَ في حديثهِ:
لنتعلّقَ بهذا الأمل ..
وأقبلَ طائرٌ صغير من الطيور المُغرّدة، قادماً من الشمال، وحلّقَ على مقربةٍ من سطح الماء، فأدركُ العجوزُ أنّ الطائرَ قد بلغَ آيةَ العناء.
واستراحَ الطائرُ على صدرِ الزورق، مستقرّاً عليه. ثم لم يلبث أن طار مطوّفاً حول رأس العجوز. ثمّ راقَ لهُ أن يقفَ على الحبل.
و سألهُ العجوز:
ما عمرك؟.. أو هذه رحلتك الأولى؟
و ظلّ الطائرُ يتطلّعُ لهُ إذ هو يتكلّم، ثمّ راحَ يقبض بقدميه الرقيقتين على الحبل، فقالَ لهُ العجوز:
إنّه ثابتٌ كلّ الثبات. وما كان لك أيّها العزيز أن تتجشم كلّ هذا العناء في ليلةٍ كهذه، بلا ريح.. ولكن حدّثني .. لماذا تأتي الطيورُ إلى هُنا؟
وحدّث العجوزُ نفسه:
إنّ الصقور تفدُ إلى البحر لتلتقي بمثل هذا الطائر.
ولكنّه لم يقُل هذا الطائرُ شيئاً، لأنّ الطائر لا يفهمُ لغته، ولا بدّ أن يعرف قصة الصقور يوماً ما.
ثم قالَ للطائر:
خذ نصيبك من الرّاحة أيّها الطائر الصغير. ثمّ اذهب إلى موعدك مع القدَر، كأيّ إنسان، أو أيّ طائر، أو أيّة سمَكة.
وراقَ للعجوز أن يثرثر، لأنّ ظهره كانَ قد تصلّب، واشتد به الألم اثناء الليل. وعادَ يقولُ للطائر:
اغرب عن مأواي إذا شئت. ويؤسفني أنني لا أستطيع نشر الشراع لآخذك فيه مع هذه النسمة الخفيفة التي بدأت تهفو. على انّي أحسّ الآن أن معي صديقاً..
.. كان الظلامُ قد أرخى سدوله. إذ إنّ الظلامُ يهبطُ سريعاً بعد الغروب في شهر سبتمبر.
سانتياغو صياد متقدم في السن ولكنه لا يزال متمتعاً بحيويته ونشاطه. وقد مضى 84 يوماً ولم يظفر ولو بسمكة واحدة
ومالَ العجوزُ إلى الأمام فاستلقى على لوحةِ الزورق قدرَ ما استطاع. وطلعت النجومُ الأولى في السماء.
ولمحَ العجوزُ بينها نجماً لا يعرفُ اسمه، وإن كان يعرفُ من أمره ما يُشير إلى أنّ هذه الوحدة تقتربُ من نهايتها، ولن يلبثَ أن يجدَ نفسه بين أصحابهِ النائمين.
و قال العجوز:
هذه السمكة صاحبتي هي الأخرى. إنني لم أرَ أو أسمع بمثلها في حياتي.. ولكن، لا بدّ لي من قتلها. من حُسْن الحظ أننا لا نحاولُ قتلَ النجوم.
وجعلَ يُفكّرُ محدّثاً نفسه:
تصوّر.. لو حاولَ الناسُ كلَّ يوم أن يقتلوا القمر! إنّ القمرَ يستطيعُ أن يهربَ ويلوذُ بالنجاة ولكن.. تصوّر، لو بذلَ انسانٌ جهدَ يومه ليقتلَ الشمس.. من حُسن الطالع أنّنا ولدنا هكذا.
ثمّ عاودهُ الرثاءُ للسمكةِ التي لم تُطعم شيئاً. على أنّ رثاءه لم يُخفّف من حدّة شوقه إلى قتلها.
وهمْهمَ قائلاً:
كم من أفواه النّاس سيأكلُ من لحم هذه السمَكة؟ ولكنْ، أهذهِ الأفواه أهل لأكلها؟.. لا. طبعاً لا.. إنّ هذهِ السَمَكة بعظمَتها وبراعة تصرّفها لا تجدُ من هو أهل لأكلها.. إنّني لا أحسنُ فهمَ هذه الأمور. ولكن من حسن الطالع أن لا ينبغي لنا أن نحاولَ قتل الشمس والقمر والنجوم. حسبُنا أن نعيشَ على الماءِ ونقتل أخوَتنا الصادقين في الودّ!