فاطمة حاتملمّا كان المجتمع المدنيّ يتنزّل في إطار أوسع هو العلاقات الاجتماعيّة داخل النظم الديمقراطيّة، فقد ارتأى الباحث التونسي حاتم عبيد أنه من المفيد التمييز بينه وبين مجالات أخرى تنعقد داخلها ضروب متنوّعة من العلاقات الاجتماعيّة، حتّى نفهم دور المجتمع المدنيّ، وندرك من ثمّ إسهامه في تعزيز الديمقراطيّة والتمكين لها، ومن هنا أهمية دراسته التي نشرت في موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث تحت عنوان: "المجتمع المدني سبيلاً إلى الديمقراطية: آمال ومخاوف".
ويُميز الباحث بداية بين فضاءين اثنين في معض الحديث عن المجتمع المدني: فضاء خاصّتندرج فيه العلاقات الأسريّة وشبكة العلاقات القائمة على الصداقة، وينفصل عن الفضاء الثاني المتمثّل في الفضاء العموميّالذي يضمّ المجتمع المدنيّ ومجالات أربعة أخرى. ويحيل هذا الفصل بين الفضاءين إلى التمييز بين أعمال اجتماعيّة تجري داخل دوائر ضيّقة وبين أطراف يثق الواحد منها بالآخر، وأعمال تتعدّى ذلك النطاق وتنطوي على تفاعل مع أشكال أخرى من التنظيم الاجتماعيّ التي تقع على صعيد واسع داخل المجتمع.
كما يُميز الباحث في مستوى ثانٍ وفي إطار المجالات الخمسة التي تنتمي إلى الفضاء العموميّ بين مجالين؛ هما: بيروقراطيّة الدولة وسلطة القانون، ومجالات ثلاثة هي: المجتمع السياسيّ والمجتمع المدنيّ والمجتمع الاقتصاديّ.
واضح أنّ أهمّ ما يميّز المجتمع المدنيّ من المجتمعين السياسيّ والاقتصاديّ، أنّ الأفراد المنضمّين في إطاره لا يمكنهم إحداث التغيير أو الحيلولة دون حصوله، إلاّ من خلال صوت يعبّر عنهم ويتكلّم باسمهم يتمثّل في المنظّمات التي ينتمون إليها. أمّا في المجتمعين السياسيّ والاقتصاديّ، فإنّ للنخبة سلطة تتيح لها مراقبة التوجّهات الاقتصاديّة والسياسيّة، حتّى إن لم تكن تلك النخبة تعمل داخل ذينك المجتمعين، أو لم تكن لسان حال منظّمة من المنظّمات، فأبرز ما يميّز المجتمعين السياسيّ والاقتصاديّ أنّهما يتكوّنان من نخبة فاعلة ومن مؤسّسات تتعلّق همّتها بالحوز على السلطة أو تحقيق الربح. بينما يظلّ المجتمع المدنيّ مجالاً يؤمّه المواطنون العاديّون الذين ينضمّون إلى جماعات أو منظّمات، لأنّ لهم في حياتهم اليوميّة هواجس ينشدون إيجاد حلول لها، ورغبات وحاجات يبحثون عن سبل لتلبيتها وتحقيقها. فمنظّمات المجتمع المدنيّ لا تجعل من الوصول إلى الحكم أو تحقيق الثروة هدفها الذي ليس بعده هدف، وإن كانت تسعى بين الحين والحين إلى أن تكون فاعلاً سياسيًّا وطرفًا مؤثّرًا في صنع القرار، وكان لها حاجة دائمة إلى الدعم الماليّ كذلك، حتّى تستطيع البقاء ومواصلة أنشطتها.
في ما يتعلق باختلاف المجتمع المدنيّ عن المجتمعين السياسيّ والاقتصادي، فلا يعني البتّة عدم وجود تداخل بين هذه الميادين الثلاثة، والدليل على ذلك، يضيف الباحث حاتم عبيد، أننا نجد المنظّمة الواحدة تنتمي في الوقت نفسه إلى هذا الميدان وذاك. ذلك شأن ما يحدث من تداخل بين المجتمع المدنيّ والمجتمع الاقتصاديّ تجسّده أحسن تجسيد اتّحادات العمّال والمنظّمات الشغيلة والمنظّمات غير الحكوميّة والجمعيّات التي ينضوي فيها المنتجون والفلاّحون، فهذه المنظّمات على اختلافها تنتمي إلى المجتمع الاقتصاديّ ما دام من أهدافها التأثير في الحصيلة الاقتصاديّة. وتتميز هذه المنظّمات من المجتمع المدنيّ أنّ أعضاءها انتموا إليها طوعًا، واجتمعوا في إطارها من أجل تقليب النظر والتداول في مصالح تجمعهم. وهذه المنظّمات كذلك يمكن أن تتحوّل إلى فاعل سياسيّ على النحو الذي حصل في تونس في الأشهر الأخيرة من سنة 2013 عندما شهدت الحياة السياسيّة أزمة لم تلُحْ فيها للفرقاء بوادر انفراج، إلاّ حين تدخّلت المنظّمة الشغيلة المعروفة بالاتّحاد العامّ التونسيّ للشغل، فنظّمت حوارًا وطنيًّا رعته بمعيّة ثلاث منظّمات مدنيّة أخرى، وجمعت فيه على طاولة واحدة من هم في الحكم ومن يقفون في الصفّ المعارض، واستطاعت بفضله أن تقرّب بين وجهات النظر المتباينة، وأن تصل إلى تحقيق توافق بينها حول خارطة طريق تضمّ عددًا من النقاط المتّفق عليها، وأن تُخرج البلاد من أزمة كادت تعصف بها لتدخل طورًا جديدًا سمته التوافق.
حتّى لا يتحوّل المجتمع المدنيّ عندنا إلى خصم يعادي الديمقراطيّة، عقيدة لا بدّ أن ترسخ في ضمائرنا تقول بأنّ المجتمع المدنيّ، باعتباره مجموعة من القيم والممارسات لا يكون ذا فائدة وقيمة إلاّ إذا وقف إلى جانب الحكومات
"هل يمكن الحديث عن مجتمع مدنيّ في ظلّ مجتمعات غير ديمقراطيّة؟"، سؤال مهم تضمنته الدراسة، ولو أنه ليس هيناً الإجابة عن هذا السؤال، فالآراء تختلف هنا، والدارسون منهم من يتبنّى تصوّرًا ضيّقًا للمجتمع المدنيّ، ويعتبره من ثمّ من أمر الغرْب دون سواه، لأنّه في تقديرهم سليل فكر غربيّ نظريّ تشكّل بالتدريج، حتّى استقام تصوّرًا متكاملاً، ولأنّه ثمرة تجارب تاريخيّة وممارسات انبثقت من الواقع الغربيّ وما انفكّت عبر الأزمنة تتطوّر وتتبلور، حتّى عرفت الشكل المنظّم الذي هي عليه اليوم، والذي ارتقى إلى منزلة النموذج والمنوال. فالمجتمع المدنيّ وفق هذه النظرة لا يمكن أن يحيل إلاّ إلى نوع من المنظّمات التطوّعيّة التي تجيء على المنوالات الأمريكيّة والأوروبيّة التي لا يمكن أن توجد إلاّ في مجتمعات لها خلفيّة تاريخيّة على النحو الذي بيّنا.
ومن أهم خلاصات الدراسة، أن مجتمعات بلدان الربيع العربي تشهد اليوم تكاثرًا غير مسبوق في عدد المنظّمات والجمعيّات التي تأسّست بعد الثورة، والتي صارت تُعدّ بالمئات والآلاف، والتي تُصنّف في خانة المجتمع المدنيّ، ومن ثمّ تُعتبر في تقدير أغلب المحلّلين علامة صحيّة وأمارة على أنّ هذه المجتمعات قد بدأت تقطع أشواطًا في الطريق إلى الديمقراطيّة، ولولا أن الخوف كلّ الخوف، حسب الباحث، أن تحمل الفورة والحماس والرغبة في البذل والعطاء عددًا من المواطنين إلى الانضمام، بعد الثورة، إلى جمعيّات وممارسة أنشطة داخلها، ظنًّا منهم أنّهم يخدمون مجتمعاتهم ويكرّسون قيم الديمقراطيّة، بينما لا يمكن لتلك المنظّمات التي انضمّوا إليها إلاّ أن تعود على الديمقراطيّة بالوبال.
ومن الدروس التي من الأولى أن يلتقطها، حتّى لا يتحوّل المجتمع المدنيّ عندنا إلى خصم يعادي الديمقراطيّة، عقيدة لا بدّ أن ترسخ في ضمائرنا تقول بأنّ المجتمع المدنيّ، باعتباره مجموعة من القيم والممارسات لا يكون ذا فائدة وقيمة إلاّ إذا وقف إلى جانب الحكومات ومن يملكون الثروة من رجال الأعمال، ومدّ يده إليهما للعمل سويّة من أجل المصلحة العامّة وخير البلاد، ولم يقع في قبضة أحدهما، وإذا راعى الناس عند دعمه والانخراط فيه طبيعته وخصوصيّاته وكفّوا عن تصوّره حلاًّ وملاذًا يلجؤون إليهما، عندما تعجز الدولة أو تضطرب أحوال السوق والمال.
وآخر درس بليغ يجدر بنا الاعتبار به، عدم غلق باب النقاش والبحث في ما يمكن أن يفتح عليه المجتمع المدنيّ من سبل وتنويعات وابتكارات قد تجود بها تجارب مجتمعاتنا في هذا المجال وعادات لنا راسخة وضاربة في التاريخ في العمل الجمعيّاتي التطوّعي، وفي المنظّمات الخيريّة التي لعبت في بعض الفترات أدوارًا جليلة من غير أن تقع تحت قبضة التوظيف الماكر. فنحن حين نُثبّت المجتمع في رواية غربيّة أو منوال أمريكيّ، وما هما في نهاية الأمر إلاّ ثمرة تجربة وتأويل مخصوصين ومرتهنين بالسياق الذي ظهرا فيه، نسير في اتّجاه يتعارض والروح التي يقوم عليها المجتمع المدني.
لقراءة الدراسة كاملة على الموقع الإلكتروني لـ"مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث"، انقر هنا: