لم تترك تجربة شعرية معينة في الجزيرة العربية أو
الخليج أثراً عميقاً في محيطها وخارج هذا المحيط مثلما تركته تجربة الشاعر
قاسم حداد، هذا المبدع الذي شكل بأسلوبه الشعري المتدرج من قصيدة التفعيلة
الى قصيدة النثر ذروة جمالية استثنائية تضاف الى تجارب عدد قليل من الشعراء
في الوطن العربي. ولن نندهش حين تأتي هذه التجربة المتقدمة من البحرين ذلك
البلد الصغير اذ كان تميز عما حوله منذ عشرينات القرن الماضي بسبق تعليمي
طبع تفاعله الثقافي بطابع التجديد ومحاورة الزمن الجديد في أشكاله الفكرية
والأدبية. ومنذ خمسينات القرن الماضي نفسه وهذا البلد في سباق مع نفسه في
الإبداع الأدبي من دون التركيز على مقتضيات جنس أدبي محدد وان كان للشعر
الأولوية في هذا السباق.
واذا كنا لا نندهش لمجيء هذه التجربة، تجربة قاسم
حداد، من البحرين الجزر الصغيرة المساحة القليلة السكان فإننا لن نقف
مدهوشين أمام كيفية تطور هذه التجربة وتصاعدها، ابتداء من المجموعة الأولى
(البشارة) التي كانت بالفعل بشارة بشاعر يمتلك رؤية للشعر وللعالم معاً،
وصولاً الى (أيقظتني الساحرة) وهي آخر وأحدث المجموعات الشعرية التي وصل
تعدادها...؟
المجموعة الاخيرة (أيقظتني الساحرة) مرفقة بترجمة الى
اللغة الانكليزية من محمد الخزاعي ومراجعـــة كمال أبو ديب. وتبــدو فيها
القصـــيدة وقد وصـــلت ذروة النضج والتكثيف حافلة بالمعنى المعمق الذي
يستوقف القارئ ليفكر ويتأمل لا أن تلهيه موسيقى القصيدة أو تداعيات اللغة.
يأسرك النص الأول في المجموعة بإيقاعه الذي لا يتكرر
في قيمة النصوص، وكأنه يعيد الى الذاكرة أطياف موسيقى الصوت الأول للشاعر
وطريقته الأولى في نسق الصياغة والبناء:
أيقظتني الساحرة
رسمت لي رمزها
وسقتني كأسها،
كلما أغفو أراها
عند حرفي ساهرة. (ص10)
لقد نجحت الساحرة حقاً في استنطاق المكنونات الطائرة
في نفس الشاعر. والساحرة وهي توقظه من وعيه لتدخل به ساحة الشعر تبدو
وكأنها تتعامل معه تارة برقة وتارة بقسوة، وفي أحيان تكون اللحظة الشعرية
واضحة سافرة المعنى، وفي أحايين أخرى تكون مملوءة بالاختلاف والغموض، كل
ذلك يتم وفقاً لما تتطلبه المواقف ذاتها وزوايا الرؤية الشعرية واشعاعاتها
الحسية والمعنوية. وهنا نلاحظ أهمية ما يمكن أن يقدم الشاعر من اضافات الى
معنى الشعر وما يمتلكه من خصوصية تتجلى في الأسلوب كما في البنية اللغوية
والتعبيرية، وفي ما يبتكره من وسائل فنية وأقنعة يتحدث عبرها ويحقق بها
ومعها مستوى جمالياً لم يكن ليحققه أو ينجح في خلقه لو لم تسعفه موهبته
العالية في الاهتداء الى ذلك المستوى الجمالي والتركيبي:
أوقفتني الجنية الزرقاء وقالت لي:
تُصقل الكتابة بالتجربة
مثل نهرٍ يزخرف الجبل
نهر الدم يطفر من الكتب
نهر يفيض ويذهب في أخبار القتلى.
تقرأ تراثك
كمن يستعيد النص في حضرة حلم
يوشك على النجاة
ولم يكن في ذلك دلالة ولا حكمة. (ص24)
ويسهل على من يتأمل هذه الوقفات أن يربط بينها ومواقف
(النفري) بدليل تقنيتها المعتمدة على البدء بعبارة (أوقفتني) لكن ذلك يبقى
ربطاً في الإيحاء بالاسم فقط، بينما يحتفظ الشاعر بعالمه الرؤيوي في
سياقاته وعلاقاته وفي طاقته الإبداعية فضلاً عن نجاحه في تجنب الوقوع في ما
يثير حفيظة المتعصبين ممن لم يكونوا يحتملون مواقف النفري ومخاطباته، ليس
خوفاً من المغامرة في دخول الممنوع وانما ابتعاداً عن المحاكاة. ولهذا فإن
ساحرة القصيدة هي التي أوقفت قاسم حداد وقالت له: ليس الكلام في الكتب
الكلام في الناس. (ص16)
- 2 –
في كتاب «جوهر الفهم» الذي يضم أساسيات التعاليم
البوذية حديث عن (الكينونة المتداخلة). يبدأ بهذه الاشارة التي قد تبدو
للقارئ بديهية في حين أنها ليست كذلك: «ان كنت شاعراً فسترى بوضوح أنه توجد
سحابة تسري في هذه الورقة البيضاء. من دون السحابة لن يكون هناك مطر، ومن
دون المطر لن تنمو الأشجار، ولن نتمكن من صنع الورق، السحابة ضرورية لوجود
الورق». لماذا يتوجه الحديث هنا الى الشاعر من بين سائر الناس، ولماذا
الشاعر وحده الذي يدرك أبعاد الكينونة في تداخلاتها البصرية وما تنطوي عليه
من تحولات والتباسات؟! ألأن الشاعر الرائي المتأمل الأكثر غوصاً في
كينونات العالم وجمالياته؟!
أسئلة تؤسس لرؤية قد تكون مبالغة في تمجيد الشاعر
ومقدرته على تفهم التفاصيل في اطارها الكلي، وفي سعيه الدؤوب الى «خلق حالة
يتقاطع فيها الوجدان بالتأمل» أكثر من أي مبدع آخر. ولم يسبق أن ظهرت نصوص
شعرية لقاسم حداد بمثل هذا الاختزال وهذا التكثيف في أعماله السابقة وهي
كثيرة وتتضمن محاولات جادة ومثيرة للوصول الى جوهر الشعر، فهل أصبحت لدى
قاسم أخيراً قناعة بأن جوهر الشعر في التكثيف والاختزال، لكن وكما يعطيك نص
قاسم في صورته الجديدة الكثير – بالرغم من اختزاله وكثافة معناه – فإن
كلماته وحدها تعطيك الكثير أيضاً مساقطها، ظلالها، وطريقة صوغها:
أوقفتني في الورقة / ورسمت كوخاً يتكئ على شجرة، /
للكوخ هيئة النسيان / وللشجرة شهوة المخيلة.
وضعت ماءها في موقع الرمز وقالت:
اذهب في التأويل لكي أقرأ لك الآية / ففي كل بياض أضع
فيه وشماً تدب الحياة / ويتدفق أطفال حول الشجرة، / رقص عاصف مثل درس
العرس.
أذهب في التأويل وارجع لي، / تعرف باب الكلام
وبيت المعنى. (88)
مع قاسم حداد يستعيد الشعر حريته وحيويته، وعلى رغم
تنوع التجريب وجرأة المغامرة في تجربته الشعرية إلا انه يكره العبث في
الإبداع، ويكره أن يكون بينه وبين قارئه جدار من الإبهام واللامعنى. هكذا
تقول نصوص مجموعته الجديدة بكل ما حفلت به من مفاجآت، ويبدو أن من العسير
عليه وهو الذي ولد شعرياً في ميدان النضال أن يتقبل الفصل بين ذات الشاعر
وواقعه:
أوقفتني في سدرة المعنى وقالت:
لن تراني مثلما أراك،
فليست الرؤية في العين، / الرؤية في القاف.
ولن تشهدني مثلما أشهدك،
فليست الشهادة في النجاة،
الشهادة في التهلكة.
ولن تضعني على جرح مثلما أضعك،
فليس البلسم في التعديل،
البلسم في الجرح.
واذا وضعوا الشمس في يمينك
والقمر في شمالك / على أن تبوح
فلا تقل لهم التأويل،
قل لهم المعنى. (ص 110)
هنا في «أيقظتني الساحرة» يبدو الشعر تعبيراً عميقاً
عن معنى أعمق، وتبدو درجة الرصد أبعد ما تكون عن المباشرة وأقرب ما تكون من
اللغة الخالقة لمعناها. ويبدو قاسم حداد في أقصى عذوبة تجلياته الشعرية
وأكثرها دلالة على التجدد والفرادة:
أوقفتني الجنية الزرقاء في الرؤية
وقالت لي:
لا تكلمهم إلاَّ رمزاً،
ففي ذلك نعمة لهم
ورحمة عليك. (ص42)