كثيراً ما يكون الديوان الاول للشاعر او الشاعرة
بمثابة جواز مرور الى عالم الكتابة الشعرية في مستواها الناصع. ودور هذا
الجواز التأكيد ان ثمة مبدعاً في طريقه الينا. اما ما يعد به من إنجاز
وإضافة شعرية فيأتي بعد ذلك. هكذا تشير الاعمال الاولى لكل الشعراء الكبار
ليس في اللغة العربية بل في كل اللغات، مع وجود استثناءات قليلة لا تحدث
الا مرة واحدة في كل قرن كما حدث في حالي «رامبو» الفرنسي و «الشابي»
العربي اللذين كانت اعمالهما الاولى هي البداية والاضافة معاً. اما
القاعدة، فإن الشاعر يولد بالتقسيط على حد تعبير محمود درويش ولا تتم
ولادته مرة واحدة. كأنه بذلك يتعلم كل يوم من نفسه ومن غيره كيف يكتب
القصيدة ولماذا يكتبها، وتحت أي اجواء ومؤثرات ذاتية او عامة. سوسن العريقي شاعرة ظهر
ديوانها الاول عام 2004، وقدمت له بإهداء تقول كلماته: «الى براكين الألم
التي أحرقتني فتوهجت حباً، وغناء، وتراتيل جنون». وكان لهذه الشاعرة ان
تفتتن بما أنجزته وأن يبقى شغلها الشاغل الحديث عن ذلك الانجاز والبحث عن
نقاد يتحدثون عنه، لكنها فعلت العكس من ذلك واختارت ان تنسى او بالأصح
تتناسى عملها الاول بكل ما فيه من وهج البداية وعفويتها، وأن ترحل الى
المستقبل مدفوعة بمخيلة لا تكف عن الحنين الى الأجدّ وامتلاك كل ما يؤدي
اليه. وصرت كلما قرأت نصاً جديداً لها استوقفني فيه هذا الحرص على التجاوز
والرغبة في اكتشاف جمالية الشعرية في اللغة والموقف وفي اشياء اخرى لم يكن
الشاعر يهتدي اليها وهو لا يزال في بداية الطريق. وحتى نتبين أبعاد التجاوز
لدى الشاعرة سوسن العريقي ومقدرتها على طرح اسئلتها الشعرية الجديدة، فلا
مفر من وقفة قصيرة مع نموذجين من قصائد الديوان الاول:
«شفافة روحي / تتكوم في بؤرة
اللحظات / ندى خلاقاً / تبحث عن غيمة نقية / لتبكي... / لا... تنادني / لا
تلوّح بأزاهير الحياة / فعندما اقترب / ينكمش الضوء / تُجرح المسافة /
وتطوقني بأشواك مسمومة»...
«حاجة البكاء» هو عنوان النص /
القصيدة الذي اجتزأت منه هذا المقطع المفعم بصوت الألم الذاتي بكل ما
يحفره في الروح من شعور حزين وإحساس فاجع. وتكرار أفعال المضارعة في
القصيدة تعبير عميق الدلالة عن مكنونات ألم ماثل، جارح ومعاش. والشاعرة
بارعة – من دون أدنى شك – في كتابه الألم واستدعاء مثيراته وهي كثيرة في
حياة الناس بعامة وفي حياة المبدعين بخاصة:
في مآقي الوجع / خبأتك... /
عشبة، / تحنو على مغارة الجرح
وحنيناً / مليئاً /
بالأصداء»... (ص21)
هكذا يتضح منذ البدايات
الشعرية لسوسن العريقي انها تمسك بجمرة الشعر، وتتحسس طريقها اليه بقدر كاف
من الوعي بصعوبة الطريق، وضرورة امتلاك آليات القصيدة، وأهم هذه الآليات
المساعدة على امتلاكها اللغة بصفتها أداة الكتابة الابداعية ووسيلة
احتمالات فتوحاتها. يضاف الى ذلك ادراك سينمو ويتطور للمتوالية التبادلية
بين الواقع المعاش والحلم التخييلي المعبر عنه.
يذهب عدد من الشعراء الشبان
الى توزيع قصائد اعمالهم الشعرية الى زوايا ونوافذ. وهكذا تفعل الشاعرة
سوسن العريقي في ديوانها الاول «مربع الألم» عندما تقوم بتوزيعه الى خمس
زوايا: الاولى (زاوية الألم اللحظة) والثانية (زاوية أبعد من حدود الشهقة)
والثالثة (زاوية تراكمات متعددة الظلال) والرابعة (زاوية اضاءات المرايا
المعتمة) والزاوية الخامسة في الديوان تحت عنوان (الزاوية الاخيرة). وعلى
رغم ان الديوان ليس ديوان موضوعات أو اغراض بالمعنى التقليدي، الا ان هذا
التوزيع ينسجم مع حساسية القصائد التي يتضمنها، ويكاد عنوان كل زاوية يختزل
شعرية الصور والموقف.
الشاعرة سوسن العريقي – كما
سبقت الاشارة – واحدة من هذا الجيل الموهوب والمتحفز لأخذ موقعه الطبيعي في
دنيا الابداع الادبي والشعري منه على وجه الخصوص. واذا كان ديوانها الاول
حقق لها حضوراً ملحوظاً في الساحة الادبية اليمنية، فإنها – كما سبقت
الاشارة ايضاً – لم تتوقف عنده أو تسعى الى استرجاع ملامح من تجربته
الناجزة. وانما نراها في ما تكتب من نصوص جديدة حريصة على ان توجد بينها
وبينه مسافة واسعة مستلهمة من حركية الزمن وتغير الاشياء قوة على الرحيل
المستمر صوب المستقبل بأبعاده اللانهائية وحساباته المتعالية على المواصفات
والمعايير والمعطيات الحسية والروحية على السواء:
«ها أنت ترحل، / وتتركنا نعود
لمصافحة الوحشة / التي تنتظر أيامنا على قارعة الفراغ / والامكنة الممتلئة
بالدعاء / لن تصبر على نسياننا. / نحتمي بك من شرور انفسنا / وندنو من
الصحو / الذي ترتق مسافات الروح / فيكبر الانسان في لحظات / التجلي / ولو
على هامش ضيق».
جديد هذا النص يتجلى في مسحة
صوفية لم يكن لها مكان في قصائد الديوان الاول، وصياغة فنية شديدة
الانضباط، فضلاً عن لغة تتعامل مع الفكرة باعتباطية فائقة، مع اقتدار واضح
على الانتقاء والحذف والتركيب وفق مقتضيات يستدعيها النص وفضاءاته الروحية:
«ياااا... / يا ركناً تضع فيه
الدنيا اوزارها / وتخلع بساط النفاق / على ارض محايدة... / هلاّ ساعدتنا، /
على ان نلملم ما بقي من شتات / أنفسنا / ولو على بوابة الرحيل / هلاّ
ساعدتنا / على ترويض احلامنا / الأمّارة بالمستحيل. / كيف سيكتسي القلب
بالضوء / وأعيننا مقفلة على مصراعيها؟!».
وفي نص جديد آخر بعنوان «اليوم
الذي سقط سهواً» تقترب الشاعرة اكثر فأكثر من الاشياء التي تحيط بها وتطيل
التأمل في هذه الاشياء حيث تنبجس لها في قيعان الذاكرة حالات وصور لا حدود
لأبعادها الروحية والنفسية. وسأكتفي هنا بإثبات المقطع الاخير من النص
الذي يتألف من اربعة مقاطع، كل واحد منها يشكل حالة من حالات اليوم الذي
سقط سهواً:
«القمر... / لم يكتمل اليوم، /
يمسح وجهي بيد واحدة / وأصابعه تمتد عابثة بالبحر / مد وجزر / تعبث بي /
بكينونتي / التي تدمي على امتداد الفصول / فلا اتأهب / إلا لأشق في ظمأ
الأنهار/ اكتمالاً ليوم / سقط سهواً».