حكاية من الزمن الصعب .. رواية (تسارع الخطى)
مسارات فبراير 4, 2017 مسارات أدبية اضف تعليق 8 زيارة
احمد عواد الخزاعي
كأنك تجلس في مقهى قبل مئة عام من الآن وتستمع لحكواتي، سارد عليم بكل شيء يحكي ويشرح ويفسر ويلقن، أو انك تجلس في مسرح وتشاهد عرضا مسرحيا تجريبيا يحمل قيمة فنية وفكرية رصينة، هكذا بدت رواية ( تسارع الخطى) للروائي احمد خلف والتي صدرت عن مؤسسة المدى سنة 2014.. لقد علمني احمد خلف درسا جديد في كيفية قراءة النص وفهمه، بعد ان شعرت وأنا إقراء الثلث الأول من الرواية بأنه كان يخدعني كقارئ، ويستدرجني إلى فخ جميل بكل ما تحمل العبارة من تناقض.. حكاية غريبة من الزمن الصعب، يرويها سارد عليم يعرف ما يريد والى اين يمضي بالقارئ، في هذه الرواية خاطبنا احمد خلف بصورة مباشرة ليقول لنا ( توقفوا رجاءا كي تسمعوا حكايتي، التي لابد ان ارويها لكم، كي نجد حلا لبعض طلاسمها) .. تبدأ الرواية بمقولة تمهيدية استهلالية للشاعر الفرنسي سان جون بيرس..( هذه حكايتي سأرويها ، هذه حكايتي ستُسمع .. هذه حكايتي سأرويها كما يليق ان تروى.. سيكون سردها لطفا يفرض الاستمتاع بها).. حقيقة أراد لنا الروائي أن نسمعها ونتقن فن الإنصات، حقيقة بشعة البسها قناعا أدبيا وفنيا جماليا، كي نتقبلها، أراد لها أن تستفز عقولنا وأحاسيسنا عبر مشاهد وأحداث وانتقالات سردية سريعة، وتدوير لزمن السرد، تسلط الضوء على الواقع العراقي بعد التغيير، بكل ما يحمل من فوضى وتعقيد، عبر ثنائيات أزلية كان لها حضورها الآني في النص.. هذا الصراع الذي خلقته أزمنة الحروب والقحط والفوضى، لتسحق كل ما هو جميل، وتحيله إلى مسخ قبيح.. صراع بين سماسرة السلطة الطارئين على العراق، كان ضحيته المواطن البسيط والقوى الناعمة من الشعب العراقي ( أدباء، فنانون، مثقفون، أكاديميون) .
تبدأ الرواية بصوت أنثوي، ينبثق من وحشة المكان، ورعب اللحظة التي كانا يعيشهما بطل الرواية (عبد الله)، وهو يعيش محنة الخطف من قبل أناس مجهولين لديه، كان الكلام قد حمل بعدا فلسفيا وإيحائيا عميقا، تجاوز ثقافة المتكلم والبيئة الاجتماعية التي نشأت فيها، ومستوى وعيه وإدراكه وفهمه، حتى يعتقد القارئ انه صوت صادر من عالم اخر، وليس من فتاة صغيرة تعمل خادمة في بيت الدعارة الذي احتجز فيه رهينة.. لكننا ندرك بعد حين، كغيرها من الفخاخ التي وضعها لنا الروائي، ان هذه الفتاة في احدى صورها، ما هي إلا رمزية غارقة في التعقيد لشريحة واسعة من مجتمعنا تعاني الاستلاب، مغلوبة على أمرها، منقادة لأقدارها بصورة قسرية، تبحث لها عن متنفس لتطلق صرختها الاحتجاجية على كل ما هو قائم.. (أي خديعة قادك إليها أيها القدر مرغما ؟ كم من السنوات ضاعت وتلاشى بريقها الان ؟ في أي شارع أو زقاق منسي التقطوك وأرغموك على المجيء معهم..) .. تتداخل بعدها الأحداث والصور والمشاهد والأصوات، ويتم تدوير الزمن داخل النص وتتعدد الاماكن، ليتداخل الماضي بالحاضر، الخيال بالحقيقة، العالم الحقيقي بالعالم الافتراضي.. وتتقاذف السرد عدة ضمائر بصورة مفاجئة وسريعة، ( ضمير المتكلم، ضمير الغائب، ضمير المخاطب).. ان هذا التداخل بين متن النص الرئيسي والثيمة المحورية، وبين تضمين سردي وثيمات ثانوية ، مسرحية وقصصية، يمثل تكنيكا جديدا على الرواية العراقية، كما في مسرحية ( الصرة) ومسرحية ( الحانة) التي ختم فيها الروائي نصه، واللتان كانتا مشروعا مسرحيا للبطل عبد الله لم يريا النور بعد، سلطتا الضوء على المشكلة العراقية المزمنة بكل أبعادها ( الإرهاب والفوضى والفساد المالي) وقد منح هذا التضمين الرواية مرونة كبيرة في التعاطي مع أصل المشكلة القائمة في العراق الآن، ساهم هذا التداخل في خلق بناء سرديا يحمل بعدا فنتازيا رمزيا .. يأتي بعد صوت الخادمة صوت آخر أراد ان يكون الروائي حاضرا من خلاله، وهو ( أبو العز) الفنان، البطل الظل، صديق عبد الله، وهذه التقنية غالبا ما يلجا إليها احمد خلف في أعماله السردية فنجده حاضرا في النص بصورة متوارية، من خلال بطل ظل، كما فعل في رواية ( نداء قديم) في شخصية أيوب .. أبو العز كان صوتا احتجاجيا استشرافيا..( ضاع، ضاع العراق بين اللصوص والقتلة، والإرهاب الدولي).
يهرب عبد الله الكاتب والممثل المسرحي من خاطفيه بمساعدة فاطمة، ليهيم على وجهه في ارض وعرة في منطقة (سبع البور) وهي منطقة نائية تقع شمال غرب بغداد، ليتوقف به الزمن هناك وتتداخل الأحداث، بين ترقبه وخوفه من ملاحقة خاطفيه، وبين عالمه السابق وحياته الفنية، ومشاريعه الأدبية المؤجلة، وحزنه على ابنة أخته وقلقه عليها، (هند) التي صارحته بمشكلتها بعد أن فقدت عذريتها في حماقة ارتكبتها مع زميلها الثري في الجامعة ( رياض) الذي صنعته الصدفة وفوضى التغيير كما صنعت الآلاف غيره في عراق ما بعد 2003، وكيف عجز هو عن إيجاد حلا لها، حين منعته حادثة اختطافه من لقاء رياض وإقناعه بالزواج منها.. ليكتشف القارئ بعد أن يغوص في ثنايا النص، أن رياض هو من دبر حادثة الاختطاف، وان البيت الذي احتجز فيه عبد الله هو نفسه البيت الذي فقدت فيه هند عذريتها.
وهنا أود تسليط الضوء على أهم المحاور التي تأسست عليها البنية الهرمية لرواية ( تسارع الخطى):
[list=rtl]
[*]
أزمة المثقف العراقي: شكلت أزمة المثقف، النافذة الرئيسية التي أطلت بالقارئ على المشكلة السياسية والاجتماعية والاقتصادية القائمة في عراق ما بعد 2003، عبد الله الفنان والكاتب المسرحي، كان يمثل رمزا للقوى الناعمة التي فقدت بوصلتها في خضم فوضى الشد والجذب بين، القوى السياسية من جهة، والإرهاب والفساد من جهة أخرى..( إذن أنت المسرحي الذي يحرص البعض منا على العثور عليه، ماذا تقول في مسرحياتك؟ هل تتحدث عن النساء الجميلات؟ أم عن التجار المفلسين؟ وعن حرامية الكهرباء؟ عن أي شيء تتكلم في مسرحياتك؟ أم تتحدث عن الخطف والاغتيال وسرقة المال العام؟ ).[*]
الرمزية: كانت مسرحية الحانة التي تضمنتها الرواية ، اهم المحطات لرمزية النص وبعده السياسي والاجتماعي، هذا المكان الذي حاول فيه الروائي أن يجمع المتناقضات العراقية فيه، وفق رؤية فنتازية ( المثقفون والفنانون والتجار والسياسيون والسماسرة والفاسدون) .. وقد أشار احمد خلف الى هذه الرمزية بحوار دار بين عبد الله وصديقه أبو العز..( الحانة يمكن أن تصبح بديلا او رمزا عن جماعة أو كتلة مضطهدة او كيان يصارع قوى اكبر منه).. إضافة إلى رمزية الحانة نجد إن الأسماء كان لها بعدها الدلالي ..(عبد الله) هذا الاسم يحمل بعدا شاملا فضفاضا، لعبيد الله من العراقيين المغلوبين على أمرهم وسط هذه الفوضى العارمة ..( لماذا لا يكون شخصا آخر اسمه عبد الله هو المطلوب؟ هل تضن انك الوحيد من يحمل اسم عبد الله؟ ).. وفي تحول مفاجئ نجد أن عبد الله يطالب أصدقائه بان ينادوه باسم ايوب بكل ما يحمل هذا الاسم من مضامين دينية ومثولوجية ترمز للصبر:
- أي اسم تريدنا ان نناديك به؟
- الاسم الذي يليق بنا، إذا أردت أن تناديني أيوب من يمنعك؟
[/list]
وقد ورد اسم أيوب في رواية (نداء قديم) بنفس الدلالة والإيحاء، وهذه التقنية تتكرر في أعمال احمد خلف، فتكرار الأسماء نجده واضح بين الروايتين..( مزهر القصاب، حامد النجار).
[list=rtl]
[*]
التنوع في اللغة السردية: تنوعت اللغة في النص، بطريقة تحكم فيها تنوع التضمين السردي التي رافقه، فنجد الوجه العام للغة، بأنها لغة روائية حداثوية، سلسلة ومرنة، خالية من التعقيد والإسهاب، ثم نلاحظ دخول ألفاظ كبيرة ومركبة عليها بصورة مفاجئة مثل ( اشتد الوغى، جندلوه بضربة، في غيهم عنه سادرون، أهل لكل الخطوب والملمات….) أن ورود مثل هذه الألفاظ والعبارات، هي محاولة من الروائي في تذكيرنا بين الحين والآخر، بأنه ما زال يرو لنا الحكاية التي أراد لنا أن نسمعها جيدا، بطريقة الحكواتي وأسلوبه وألفاظه التي يتعاطى معها.. وفي مكان اخر من النص، تتحول اللغة الى مسرحية، حين تهيمن أجواء المسرح على النص الروائي كما في مسرحية الحانة:
- لم هذه الضجة في الخارج؟
- أنهم يحاولون اقتحام الحانة.
- من يقتحم؟
- يقال الشرطة تصاحبها مجموعة من البدو.
[/list]
رواية (تسارع الخطى ) للروائي القدير احمد خلف، هي رؤية مغايرة لقراءة الواقع العراقي، تناولها بطريقة التعاطي مع الجزئيات الصغيرة، ليتيح لها المجال في ان تتراكم في ذهنية القارئ، وتتحول الى صورة ثلاثية الأبعاد، تمكنه من معرفة ما حصل ويحصل على ارض عراق ما بعد التغيير.