رياض حمَّادي
في الثقافة الشعبية العربية تسود عبارة "أنا كلمتي متنزلش الأرض"(*), يقولها الرجل العربي للتعبير عن أنه لا يغيّر أو يبدل رأيه مهما كلفه الأمر. فتبديل الكلام أو مخالفته بآخر في ثقافة الرجل العربي من سمات المرأة لا الرجل, وفيه إنقاص من قدره ومكانته. وربط الكلمة عند الرجل بالسماء, يجعل منها كلمة مقدسة, فإذا نزلت الأرض تدنست. تبديل الكلام بآخر, من حيث المبدأ, قيمة سالبة عند العرب قديماً وحديثاً, حتى وإن كان في تبديل الكلام مصلحة. والذي جعل من كلمة الرجل الشرقي العربي كلمة معلقة في السماء, مقدسة – لا تنزل الأرض - هو طبيعة الثقافة الذكورية الأبوية السائدة والتي تجعل من الرجل قيمة أعلى من قيمة المرأة فالرجل محله السماء والمرأة محلها الأرض. وبالتالي كان من البديهي أن يستغرب هؤلاء تبديل الله لكلامه, أو استبداله حكماً بآخر.
وبهذا يكون كلام الله, السماوي, عند هؤلاء الرجال, كلاماً مقدساً لا يجوز أن يتغير أو يتبدل فإذا بدّل الإله كلامه سقط من مرتبة الإله الرجل إلى مرتبة الإله الأنثى أو الإله المرأة!
وهذا هو جوهر الاتهام الذي وجهه المشركون لإله محمد: إله يبدل كلامه عندما كان يبدل حكماً بحكم آخر:
{مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} البقرة 106
أي
"ما نبدِّل من آية أو نُزِلها من القلوب والأذهان نأت بأنفع لكم منها, أو نأت بمثلها في التكليف والثواب, ولكلٍ حكمة. ألم تعلم - أيها النبي - أنت وأمتك أن الله قادر لا يعجزه شيء؟" - التفسير الميسر.
|
إذا بدّل الإله كلامه سقط إلى مرتبة الإله الأنثى أو الإله المرأة: منحوتة حجرية للإلاهة اللات |
فكرة تغيير أو تبديل النص بآخر, مرتبطة في الآية بالقدرة الإلهية, وقد فُهم ضمناً عجز المتلقي عن القيام بالمثل, أو أن صاحب الكلام هو وحده الجدير بتبديل كلامه, وما على المتلقي سوى القبول بآخر تعديل! وهو ما يجعل فكرة المقدس مرتبطة في الأذهان بالثبات, وأن أي تبديل بشري للنص الإلهي يكتسب صفة سلبية من خلال إسباغ اسم آخر عليه هو التحريف. من هنا قوبل تعديل اليهود والنصارى لكتابهم المقدس بنظرة استهجان من قبل المسلمين جعلتهم يطلقون على هذا التعديل صفة أخرى هي التحريف. وهو ما يمكن أن يكون مؤشراً إلى فرق آخر بين فكرين أو عالمين: عملي, لا يرى مانعاً من تغيير البشر للنص الإلهي, إذا كانت هناك مصلحة, ونظري, يتمسك بالكلام الإلهي كما هو.
منهج تبديل الكلام / الأحكام
حاول القرآن كسر الكثير من الثوابت العربية, حيثما استطاع إلى ذلك سبيلا, نجح مراتٍ وأخفق أخرى. من تلك الثوابت التي حاول كسرها, ضرورة تغيير الأحكام إذا كانت تتعارض مع الواقع المتغير أو إذا لم تعد صالحة للظرف التاريخي الذي أنتجها. وهو بهذا ينفي صفة القداسة عن كلام الرجل بنفيه لصفة القداسة عن أحكام الله. فالإله الذي يغير أحكامه لا يريد لها أن تصبح مقدسة, بقدر ما يريد ترسيخ منهج تبديل الأحكام بأخرى أنفع للناس. وحكم الله الأصلح, أو حكمه الأخير (الناسخ), لم يكن يريد له أن يصبح كلمة أخيرة غير قابلة للتبديل, بقدر ما كان يرى أنه حكم أنسب للحالة التي يعالجها.
فكرة اكتمال الدين, في الآية 3 من سورة المائدة (**),(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ), جعلت المشرع يعتقد بأن القرآن قد حصر جميع المشكلات والحالات الاجتماعية لكل زمان ومكان. مع أن المقصود باكتمال الدين في الآية هو إتمام المنهج لا إتمام النص, فسياق الآية هو الحديث عن طقوس ومحرمات تعبدية, لا الحديث عن مشكلات اجتماعية ومعاملات تختلف حالاتها من وقت لآخر.
بهذا المنهج أصبح الله رجلا عربيا شرقياً |
كما أن توقف الوحي, بموت النبي محمد, أوهم المشرع بأن حكم الناسخ هو حكم مقدس, وبالتالي حكم أخير وثابت. دون أن يعمل هؤلاء أي اعتبار للمنهج الذي أباح استبدال الحكم بآخر, دون أن يعني, ذلك بالضرورة, تثبيت الحكم الأخير. وهذا ما سنه النبي محمد ثم الصحابة والتابعين المستنيرين من بعده, من أمثال عمر بن الخطاب.
للأسف لم يُكتب لهذا المنهج أن يسود, فمات بموت الرسول ومن تبعه من الصحابة المستنيرين, وبدلا من ذلك ساد منهج (الناسخ والمنسوخ) بمعناه الذي جعل من حكم الناسخ كلمة الله الأخيرة التي لا تتبدل. وبهذا المنهج أصبح الله رجلا عربيا شرقياً لا يبدل كلامه, ويردد مقولة الرجل الشرقي ومرادفاتها التي تعني التمسك بالرأي وبالكلمة كمعيار للرجولة والألوهة!
منهج "الناسخ والمنسوخ", بمعناه تقديس الحكم الأخير, منهج مستحدث ولا محل له من الوجود في النص القرآني. والمعنى, أن حكم الناسخ لا يمثل نفياً للحكم السابق, وإنما يمثل رأيا بديلا, أو مضافاً, يناسب الحالة التي يعالجها - تلك الحالة المحكومة بسياق تاريخي محدد. النص القرآني تحكمه هذه العلاقة الجدلية في علاقته بالواقع, وهو بذلك نص تاريخي, لا ميتاتاريخي أو متجاوزا للتاريخ. وهذا لا ينقص من قيمته طالما وفي منهجه ما يستوعب القضايا الجديدة ويبيح الخروج على الأحكام السابقة ولو كانت ناسخة لما قبلها.
تبديل الله لكلامه في هذه الحالة يكون ميزة لا عيبا وقيمة إيجابية لا سلبية حيث يجعل من كلامه يسراً ومرونة ويرسخ منهجا للتعامل مع القضايا المتغيرة المتبدلة وكأنه بذلك ينتج معادلة مفادها:
واقع متبدل = حُكم متبدل.