- 1 –
في عام 2003 صدرت المجموعة
الشعرية الخامسة «الأرض في بهارات هاويتي» للشاعر شوقي شفيق، أي بعد عشرين
عاماً من صدور مجموعته الأولى «تحولات الضوء والمطر» عام 1983، وبينهما
صدرت للشاعر ثلاث مجموعات فقط هي: «مكاشفات» و «أناشيد النزيف» و «شرك
شاهق». وهذا لا يعني انه شاعر مقل في الكتابة الشعرية وإنما يعني انه يعطي
للقصيدة حقها في أن تنضج على نار فنية هادئة وألا تجد طريقها الى النشر إلا
عندما تكتمل وتأخذ المستوى الذي يريده الشاعر لها، ومن هنا فإنك وأنت تقرأ
قصائد شوقي شفيق يستحيل عليك أن تجد كلمة نافرة أو خارجة عن موقعها أو أن
تعثر على سطر لا يحمل شحنة تعبيرية غنية الدلالات عميقة التأثير، سواء
حينما يكتب قصيدة التفعيلة أو يكتب قصيدة النثر أو عندما يزاوج بينهما.
شوقي شفيق شاعر سبعيني أسهم
مع عدد من مجايليه من الشعراء اليمنيين وزملائهم السبعينيين في الوطن
العربي في رسم صورة مغايرة للقصيدة الحديثة تختلف تماماً عن قصيدة الرواد
تلك التي كان همها الأول إثبات أهمية الشكل الشعري الجديد ومقدرته على
استيعاب الهم الوطني والإنساني وتحرير الكتابة الشعرية المعاصرة من آثار
الخطابية والإنشاد. لقد انتقل هذا الجيل بالقصيدة الى مرحلة أخرى لا تقلل
من أهمية الحديث عن الهم الوطني والإنساني لكنها في الوقت ذاته لا تلغي ذات
الشاعر او لا تلتفت الى رسم الخلل الرائع الناتج عن تماهي الصوت العام
بالصوت الخاص، كما أنها – وهذا هو الأهم – تكرس مساحة القصيدة للشعر نفسه
ولما أعلنته من التخلي التدريجي عن بذخ اللغة وغموض الصورة وتعقيدها:
«مساءٌ أخيرٌ/ وأنت تسير الى بقعة في المرايا/ الأخيرة من كلمات الشتاء،/
وتشغر منك المرايا. تبيع فضاءك/ للعابرين، تصوب في عدم رمحك/ الرخو/ أو
تتوافد في شارع نازفٍ/ ومساء أخير».
«الأرض في بهارات هاويتي: ص
22».
هذا المقطع هو الأول من
قصيدة بعنوان «على قبة العالم أبني نزيفي) وتتألف من ثلاثة مقاطع ينتهي
المقطع الأخير منها على هذا النحو: «جسدٌ ضيقٌ/ بيد أني أواربه في دمي/
وأمجد أحواله،/ جسدٌ، ليس يشهبني، يرتمي في/ احتراقي،/ فأُنصِّب مملكة
وأُتوجه،/ وأُتوّجني حارساً لأرومته/ جسدٌ ضيقٌ/ ومساءٌ أخير».
لا فرق بين الرسام والشاعر،
أو بين الشاعر والرسام، هكذا قالوا منذ أزمنة بعيدة، لذلك سيبقى الرسام
شاعراً يكتب قصيدته بيده ويبقى الشاعر رساماً يرسم لوحته بقلبه، وتلك هي
المعادلة التي أكدتها عبارة «لا فرق بين الرسام والشاعر» أو «الشعر رسم
بالكلمات». وإذا كان الأمر لا يخلو من مفارقة فإن الوردة في اللوحة تظل
جامدة خرساء لا تستجيب لحركة العواصف والغيوم. بينما الوردة في القصيدة
تبقى ذات صوت مسموع يداعب الوجدان ويستدعي الرائحة النائمة في الكلمات، وهو
ما يجعلها تستيقظ ولو بعد مئات الأعوام.
في القصيدة التي اجتزأت منها
المقطع السابق وبعضاً من المقطع الذي يليه، يستطيع القارئ أن يتأمل كيف
تمسك مخيلة الشاعر بخطوط لوحته، وكيف تساعده حواسه المستفزة على تشكيل صورة
لا يستطيع البصر أن يلم بها فضلاً عن أن هذا المجتزأ يكشف مهارة الشاعر في
الجمع بين الحسي والروحي ويشير الى مقدرته على استدعاء التفاصيل الصغيرة
ووضعها في مكانها الصحيح من السياق لتمنح النص الشعري كينونته المتكاملة.
- 2 –
يفتتح الشاعر شوقي شفيق
مجموعة «الأرض في بهارات هاويتي» بتوقيعين اثنين أولهما للشاعر أنسي الحاج
«الوديعة أكبر من يدي» والآخر للشاعر عبدالرحمن فخري (أنتم شعراء بالجملة،
وأنا أستحي من وجه ديوان) ولكل توقيع دلالته الملتبسة والواضحة في آن.
وكأنها تشير من بعيد الى أن الشعر هذا «الصوغ الصامت والمستبطن لتاريخ
الكون والإنسان» على حد تعبير واحد من الشعراء الذين أرهقتهم المغامرة
والتجريب وحاولوا كسر الذاتية السائدة والتمرد على ما تواضع الناس عبر
العصور على اعتباره الشعر في نظامه الأزلي والأبدي.
وإذا كان شوقي – كما سبقت
الإشارة – يكتب شعر التفعيلة وقصيدة النثر أو يزاوج بينهما فإنني مضطر في
هذه القراءة الموجزة الى التوقف عند تجربة لم تخطر ببال الشعراء من قبل وهي
المزاوجة بين مقاطع من الشعر الفصيح القائم على التفعيلة وآخر من شعر
العامية السائد والمتداول في اليمن منذ قرون. عنوان القصيدة التي أخضعها
الشاعر لهذه التجربة الفريدة هو «أحكام عدن بن زايد» وهي أولى قصائد
المجموعة. و «ابن زايد» حكيم شعبي لأشعاره أو بالأصح لأحكامه الشعرية مكانة
في أوساط العامة لا تدانيها مكانة المتنبي لدى الخاصة، وشعره مرجع بالغ
التأثير في العادات والتقاليد في اليمن ومواعيد الزراعة والعلاقات
الاجتماعية:
«عدن تشاكسني بشارعها
الطويل/ وبالنساء/ بالفل متقداً على الربوات،/ بالمطر الخفي يسيل في جسدي/
ويتركني مصاباً باليباس./ عدنٌ تشد على يدي، في برهة مجلوة/ وتقول: لا تركن
الى ترف الرمال/ فتستبيك غواية/ وتضيع في غرف النعاس./ عدن تشد على ضميري/
وتقول لي:/ سيّج كلامك باليقين/ وصد عنك مغامرات الأصدقاء/ الانتهاء.../
عدن احتمالات البداية واختمار المنتهى./ عدن تقول: (إن صاحبي مثل روحي/
وإلا فلا كان صاحب)». «الأرض في بهارات هاويتي: ص 7». هكذا ينتهي كل مقطع
من قصيدة «أحكام عدن بن زايد» بسطرين أو أكثر من شعر حكيم اليمن «علي بن
زايد» بعد أن يتم توظيفهما في تضمين بارع بما يتناسب مع السياق، وهي خطوة
فنية جريئة وغير مسبوقة. وهذا النوع من التضمين يقودنا الى الحديث عن اللغة
في شعر شوقي شفيق، وهي لغة أنيقة مصفاة ومستلة من قاموس خاص يمتاز بولائه
للشعر وانخلاعه من قواميس الشعارات تلك التي جذبت على مدى زمن طويل عدداً
من الشعراء، بمن فيهم شعراء التحديث الذين لم يتمكنوا من تجاوز قابلية
البقاء في عالم الموروث الشعري المكتظ بالألفاظ الصارخة والهدير العاطفي.
وربما زادت لغة شاعرنا صفاء واتقاداً وهي تقترب من مناخ قصيدة النثر التي
تطوح بوزن التفعيلة الهادئ وتلقي به خارج التجربة الأجد التي نجحت في
ابتكار عالمها الشعري واجتراح إيقاعاته الأهدأ:
«لك ما يحمله القلب من
اتساع. ولك/ كل/ ما اختزن من علو الجنون وفضاء/ المديح الباذخ./ أي كلمات./
أي غبار سأجلو عن أبديتي كي أبقى/ على قيد الجنون/ أو على قيد النهار/
وعلى قيد البصيرة.
«الأرض في بهارات هاويتي: ص
75».
شوقي شفيق، شاعر باذخ الخيال
نجح مع أفراد من جيله السبعيني في اكتشاف الوجه الآخر للقصيدة الجديدة
المحملة بمعطيات العصر ودلالاته من خلال لغة إشارية لا تحتفي بالغامض كما
لا تتوسل الوضوح المباشر في آن واحد. وهذا هو سر توازنها الذي انعكس على
تجربة الشاعر شوقي شفيق عبر تطور أساليبه الشعرية في مجموعاته الشعرية
المنشورة.