19 فبراير 2015 بقلم
إبراهيم غرايبة قسم:
الدراسات الدينية حجم الخط
-18
+ للنشر:هل يتغير فهمنا للنصوص والتراث الإسلامي عند قراءتها وفق منتجات الحداثة والتقدم والمناهج العلمية؟ أصبحت الإجابة بـ "نعم" أمرا بديهيا؛ فالإسلام وإن كان نصاً واحداً، فإنه متعدد في الفهم والتطبيق والتجارب على نحو يجعله مورداً يتنافس الجميع على الاستفادة منه وتوظيفه، ولكن أحداً لا يملك أن يحتكره أو يدعي الحقيقة في فهمه واستيعابه وتطبيقه، أعتقد أن هذه الفكرة تمثل خطوةً أساسيةً وأولى لتحرير مفهوم الدين من الاستبداد والاستغلال.
ولكن الأمر يتجاوز ذلك بكثير، فالشك (مبدأ الريبة) بدأ يـسـود حـتى في الـعلوم التي كانت تبدو يقينية مثل الفيزياء؛ وبطبيعة الحال، فإنها تمتد إلى كل الجهود الإنسانية في الفهم والتأويل.
ولدينا اليوم منجزات فكرية وبحثية كثيرة في هذا المجال، مثل أعمال نصر حامد أبو زيد ومحمد أركون، وعبد المجيد الشرفي ومجموعة كبيرة من الباحثين والمفكرين، تعيد الجدل بين الاتجاهات والـتـيـارات الإسلامية (بالمفهوم الـشــامل والــعام للمـسـلـمين)، وهو بالمناسـبة جـدل قديم جـداً، يـعود إلى القـرن الأول الهجري، عـنـدما اتـضـح بقوة ظـهور جماعة أهل العدل «المعتزلة» في مواجهة أهل الحديث، أو أهل الرأي/ العقل وأهل النقل/ النص، ثم تحول الجدل إلى صراع سياسي كبير وخـطير في عصر الـخلـيفة الـعـباسي المـأمـون ومـن بعده، ولم يـتوقف بـعـد ذلـك وإن كانت الغلبة بـعـامـة لأهـل «الـنـقـل»، ولـكن ذلك لم يمنع تـواصـل ظـهور علماء ومفكرين وحالات عـقلية كانت تصعد أحياناً وتتراجع أحياناً أخرى.
إذا كان النص الديني يحتمل معان وقراءاتٍ عدة وفق المناهج المتبعة وحدود اللغة وظروف الزمان والمكان والبيئة المحيطة بالإنسان، وهذا ما كانت عليه الحال طوال التاريخ الإسلامي، فإن تجدد أو تغير فهم النصوص وتطبيقها سيتواصل عبر التطور الإنساني واختلاف المجتمعات والحضارات، وبالمناسبة فإن هذا ما يسلكه كثير من أصحاب المواقف المناهضة للفصل بين النص والمعنى والتطبيق، ولكنهم يبيحون لأنفسهم ما يحرمونه على غيرهم.
يعتقد مفكرون مثل نصر حامد أبو زيد، ومحمد الطالبي، ومحمد أركون، وعبد المجيد الشرفي، أن معرفة العالم وإنتاج المعنى هما مسؤولية الإنسان وحده، وهذا يعني إسناد الأهلية إلى الإنسان لفهم هذه النصوص وتدبرها (الأسنة)، وتتصل الرؤية الحديثة لمسألة القراءة اتصالاً وطيداً بمسألة تعدد المعنى، وخصوصاً فيما يتعلق بالنص الديني. وفي ما يتعلق بالتعامل مع النص القرآني تنهض منهجية الشرفي على قراءة النص في كليته بعيداً عن ضروب الإسقاط و الانتقائية، واعتماد القراءة المقاصدية للنص وتجاوز الرؤية الحرفية له.
وأما محمد أركون، فيسعى إلى نقد العقل الإسلامي بوضع التجربة الدينية بكل أنواعها من تفسير وحديث وعلم كلام وفقه، باعتبارها نتاجاً بشرياً يحق للدارس نقدها وتفكيكها وتجاوزها. ويدعو أركون إلى «العقل المنبثق حديثاً» الذي يعتمد فكرة التنازع بين التأويلات بدلاً من الدفاع عن فكرة واحدة في التأويل، ومن شروط هذا العقل ألا يتورط في بناء منظومة معرفية تؤصل للحقيقة، ويتبنى أركون النقد المـنـفتـح علـى آخر مـكتسبات علوم الإنـسـان والمجتمع، ويطبق القراءة الحية والمتحركة، لأنها قراءة تشكل ما هو بديهي، وتزحزح المفاهيم التقليدية من مواقعها لتفكيكها من النسق الذي ركبت عليه في الوعي الإسلامي؛ فهو يحاول أن يخضعها باستمرار للتحديات التي تطرح على التاريخ المقارن للأديان، ويقترح أركون إعادة النظر في العلوم الإسلامية، التي شكلت منهجاً وسبيلاً إلى فهم النص القرآني ومن بينها علم الناسخ والمنسوخ، وعلم أسباب النزول وغيرهما، التي تكشف في رأيه التلاعبات الخطيرة التي يقوم بها العلماء.
لقد دأبت فئة معينة في كل ديانة على تحديد قواعد لعملية القراءة وضبط من له أهلية القراءة، ولكن المشروع التأويلي الجديد ينفتح على قطاع متنوع من القراء ذوي المشارب المختلفة، وهم يطبقون مناهج حديثة، ويعتمدون أدوات قراءة متنوعة مستمدة من حقول معرفية شتى، كالأنثروبولوجيا بفروعها، وعلوم اللسان بمدارسها، أو هم على الأقل يدعون إلى الانفتاح على مكتسبات العلوم الإنسانية وإلى تجديد أدوات القراءة، فالموقف النقدي الذي يبلوره المجددون للنص يقوم على مراجعة مفهوم النص الإسلامي، ثم ارتكزوا على توسيع حدود النص ليشمل إلى جانب النص الرسمي النصوص الهامشية التي أقصاها الفقهاء والعلماء الرسميون.
ومن مرتكزات الموقف النقدي لـ «المجددين» أنه ينظر في المستوى التأويلي، أي علاقة النص الديني بقراءته، لأن النص القرآني برأي التيار التجديدي كان عرضة لمختلف ضروب القراءة الإسقاطية، سواء بالاحتجاج بأجزاء من آيات لا آيات كاملة، أو باقتطاع آيات من سياقها التاريخي وسياقها النصي. وبرأي هذا التيار، فإن الكثير من الأحكام التي أحاطت بفهم المسلمين لطبيعة النص ووظيفته في الحياة الروحية للمسلمين لا تعدو أن تكون أحكاماً تاريخية، فهي بالتالي أحكام قابلة للمراجعة وللمساءلة وللنقض، بخاصة أن القراءة التقليدية للنصوص المقدسة تتبنى الإيمان بواحدية المعنى وثباته، واعتبار كل اختلاف في المعنى قصوراً، وتعتبر التفسير الرسمي للنص المقدس هو التأويل الوحيد المطابق للمعنى الأصلي.
إن القراءة الحديثة للنص تقوم على سؤال مركزي: هل الإنسان هو الذي ينتج المعنى أم أنه معطى إلهي فوقي يصاحب الكتاب المقدس؟ ولا يمكن بالطبع الجزم بصواب أو خطأ أي من المناهج المتبعة، والأهم من ذلك كله لا يمكن نسبة الصواب أو الخطأ بالإطلاق إلى اتجاه محدد في الفهم والتأويل، فكلاهما معرض للخطأ والصواب والهوى واللبس، ولكن استمرار هذا الجدل أو رعايته هو الذي يضمن لكل الاتجاهات والأفكار أن تتحرى دائماً النزاهة والعلمية والدقة لتقترب من الصواب، وهذا هو المطلوب.
يلاحظ خاتمي، المفكر الإسلامي والرئيس الإيراني السابق، أن المد الفلسفي المذهل الذي شمل العالم الإسلامي أهمل حقلي الاقتصاد وسياسة المدن، ويستبعد أن يكون تفسير ذلك بسبب سعة الشريعة الإسلامية لمثل هذه القضايا وحجبها للفلسفة والنظر في مثل هذه المسائل، فذلك أدعى للاهتمام والبحث في قضايا السياسة وليس إهمالها، والفقيه إنسان ومفكر أيضا ونتائجه الفقهية تختلف تبعا لمصادره في الاستنباط التي تحددها له رؤيته الفلسفية والعرفانية والاجتماعية.
وقد يرد ذلك إلى التصوف الذي شكل روح الثقافة والأدب لكثير من المسلمين، فالتفكير الصوفي يرتكز إلى ترك الدنيا أو عدم الاهتمام بها، ولكن المؤلف يعتقد أن التصوف هو سبب ترك المسلمين وعلمائهم للفكر السياسي، وليس التصوف هو سبب ترك السياسة.
بدأ البحث الفلسفي لدى المسلمين في حقيقة السياسة والسلطة، وكان الفارابي رائد هذه المحاولات الخالدة. ثم اتجه الفكر السياسي بسبب التغلب والاستبداد إلى التبرير والتهرب، وكان ابن خلدون ممن تناول واقع الحياة الاجتماعية للإنسان برؤية جديدة حتى يصح أن يسمى "أبو فلسفة التاريخ" أو أول علماء الاجتماع، وربما توقف الفكر السياسي بعد ابن خلدون.
وقد مرت بالمسلمين بعد ابن خلدون حوادث ووقائع مهمة، مثل الغزو المغولي واستقرار السلطنة العثمانية وظهور الملكية الصفوية في إيران؛ وبرغم الاختلافات العقدية والمذهبية بين هذه الدول، فقد كانت تجمع بينها الغلبة.
يعتبر الفارابي مؤسس الفلسفة الإسلامية في القرن الرابع الهجري (وهو قرن الازدهار الفكري والنضج العلمي للمسلمين)، وكان أول من وضع من خلال طرحه المنظم فلسفة تعد في كلياتها وتركيبها شيئا جديدا وبديعا، وقد تعرف المسلمون قبل الفارابي بمائتي سنة على الفلسفة ، ولكن الجهود السابقة لم تتجاوز الترجمة والدراسة للفلسفة اليونانية والفارسية والهندية. ويعتبر خاتمي أن فلسفة السياسة بدأت بالفارابي وانتهت به تقريبا، ويعد كتاباه "السياسة المدنية" و"آراء أهل المدينة الفاضلة" اللذان يدور فيهما البحث حول السياسة هما أهم كتبه الفلسفية.
وبدأ الفارابي في فلسفته من مبدأ الوجود إلى نظام المعقول إلى الإنسان، ومنه يصل إلى المجتمع الإنساني، ويقسم المجتمع الإنساني إلى مدينة فاضلة ومدن غير فاضلة؛ وفي المدينة الفاضلة يجتمع الناس للتعاون على الأشياء التي تنال بها السعادة الحقيقية، ويتصف أهلها ورئيسها بالحكمة، وأما المدن الفاضلة فهي ستة أقسام:
المدينة الضرورية التي يجتمع فيها الناس على الحد الأدنى من الحاجات وصفات المدينة، والرئيس فيها من يتحلى بحسن تدبير وجودة احتيال في استعمالهم فيما ينالون به الأشياء الضرورية وحسن تدبير في حفظها عليهم، أو الذي يبذل لهم هذه الأشياء من تلقاء نفسه.
مدينة النذالة التي يميل فيها الناس إلى جمع الأموال وتراكم القوة، إضافة إلى تأمين الحاجات الضرورية، والرئيس فيها من يكون أقدر من غيره على إدارة المجتمع نحو تراكم الثروة.
مدينة الخسة وهي تضيف إلى سابقتيها تعاون الناس لبلوغ السعادة الحسية والخيالية والتخمة والمتعة ومعاشرة النساء، ويكون فيها رئيسا من يستطيع تحقيق هذه الأهداف للناس.
مدينة الكرامة التي تضيف إلى السابقات، اتجاه الناس نحو سعادة داخلية وتهتم بالشأن والقوة، والرئيس في نظرهم من يلبي رغبات أهل المدينة، بينما لا تتعدى رغبته الكرامة.
مدينة التغلب (الاستبداد) عندما يزيد حب الجاه والكرامة، تتحول مدينة الكرامة إلى مدينة الجبارين، فيتعاون الناس ويجتمعون على أن يكون لهم الغلبة، والرئيس في هذه المدينة من كان أكثر قوة وحيلة وأقدر على توفير الأدوات اللازمة والأذكى في تمهيد طرق الاستعباد.
مدينة الجماعة، وفي هذه المدينة يكون الناس أحرارا، وهم متساوون ولا فضل لأحد على آخر، والرجل العظيم في نظر أهل هذه المدينة من يمنح الناس الحرية، ويحمي المدينة من الأعداء ويمنع الناس من اعتداء بعضهم على بعض.
والفارابي، إنما يتحدث هنا عن الديمقراطية وهو يراها مذمومة وإن كانت أفضل مما سواها، فالرئاسة هنا لا ينالها الإنسان الفاضل والكفؤ لأنها مدينة قائمة على أهواء الشعب، وقد تشترى فيها الرئاسة بالمال، بينما يريد الإنسان الفاضل أن يقود أهله نحو السعادة التي تبدأ طريقها بلجم الأهواء "وأما الفاضل الذي هو بالحقيقة فاضل وهو الذي إذا رأسهم قدر أفعالهم وسددها نحو السعادة فهم لا يرأسونه".
والمدينة الضرورية هي أول مراحل الاجتماع المدني؛ حيث اجتمع فيها الناس من وحي فطرتهم لتأمين حاجاتهم الضرورية، وفي هذا المجتمع مازالت الفطرة سليمة واستعدادها أكبر لنمو الفضائل وملكات الخير لدى الناس، فإذا لم يطلها الانحراف وتوافرت لها الأفكار الفاضلة والمربي الفاضل، فمن الممكن ببساطة أن تتبدل إلى مدينة فاضلة.
وأما في المدن التي يحكمها الشعب أو التي يسميها مدينة "اجتماع الحرية"، فإنها بسبب الحرية تكون أكثر ملاءمة لنمو الناس الخبيرين والفضلاء، ولذلك لا يخلو هذا المجتمع من العظماء والمعلمين الفاضلين، بل إن هذه المدن تكون بسبب حرية الفكر والعمل أسرع في نمو الفضيلة، وتكون أجواء هذا المجتمع أكثر ملاءمة من المجتمعات الأخرى لسيادة الفضيلة في المدينة وتنظيم عمل الناس على أساسها.
والحاكم في رأي الفارابي هو إنسان خاص قد تأهل، وصار كفؤا بفطرته ومن خلال تربيته الفكرية إلا أن الكفاءة والعظمة لا تكون علة تامة لاستقرار المدينة، وإنما رغبة وتضامن الشعب شرط آخر لازم لظهور المدينة الفاضلة، والفضيلة لا تنسجم مع تغلب الحاكم مهما كان.