لا شكّ أنّ العلمانية كإطار سياسي ورؤية معرفية هي التي تضمن التمتع الكامل بالحريات سواء في بعدها الجمعي أو بعدها الفردي، لأنها لا تحتكم إلى موقف يدعي امتلاك الحقيقة المطلقة، فكلّ المواقف تتساوى في إطارها بما أنها غير منحازة، أي محايدة إزاء الاعتقادات والتمثلات.هذا يعني أنه لا يوجد موقف يحترم ويقدّر جميع الاعتقادات كيفما كانت أكثر من الموقف العلماني. وعليه، يفترض التمتع بالحرية في جميع أبعادها وجود العلمانية، لأننا في هذه الحالة نتمتع بحرياتنا كحقوق وليس كمنة أو تنازل أو تسامح من أغلبية إزاء أقلية، أو طائفة إزاء أخرى. في الحالة الأولى نتمتع بحرياتنا على أساس المساواة، وفي الحالة الثانية نتمتع بحرياتنا على أساس أريحية الآخر وتنازله في ظل وضع يفتقر إلى المساواة. ذلك أن هذا الآخر يستند إلى وضع يحوز فيه أحقية مصادرة حرياتنا متى شاء، بينما في وضع تسود فيه العلمانية هو مجبر على احترام حقنا في الاختلاف كحقّ جوهريّ منبثق من انتمائنا إلى ذلك الحيز الجغرافي والقانوني الذي تؤطره وتسود فيه العلمانية.
التمتع الكامل إذن بالحريات الفردية لم يسبق له أن تحقق إلا عندما سادت العلمانية مجموعة من الدول والمجتمعات، ولا يمكن الادّعاء بأنّ ذلك حصل في أيّ فترة تاريخية قبل زمن العلمانية. ولهذا ليس صحيحا البتة القول بأنّ حرية المعتقد مثلا سادت في فترات من التاريخ الإسلامي، لأنّ غير المسلمين كان ينظر إليهم نظرة تمييزية وانتقاصية حتى وإن سمح لهم بممارسة شعائرهم، لأن تلك الممارسة كانت تسمح للسلطة القائمة باستخلاص مبلغ الجزية منهم، ولم يكن في صالحها أن تجبرهم على تغيير ديانتهم، ما دامت تستفيد منهم اقتصاديا. فهم إذن كانوا يتمتعون بحرية نسبية مشروطة برضا السلطة وبما يدفعون من مال. فممارسة شعائرهم تلك، لم تكن راسخة كحق وإنما مرتبطة بظرف ووضع معين قابل لأن يزول في أي لحظة.
إن العلمانية كموقف يتسم بالحياد إزاء اختلاف الناس في أفكارهم ومعتقداتهم، يعود إلى فكرة أن هؤلاء الناس كلهم سواسية من حيث القيمة والاعتبار، فكل فرد في الإطار العلماني هو قيمة في حد ذاته بغض النظر عما هو كائن عليه من حيث وضعه الاجتماعي والطبقي أو من حيث اعتقاده أو جنسه أو لونه أو ميوله الجنسية. فكل فرد يتحدد بمساواته لكل الأفراد، وله ما لهم من حقوق وواجبات، ومن تلك الحقوق الحق في التمتع بالحريات الفردية كما أصبح متعارف عليها في الأدبيات الحقوقية.
هذه النظرة إلى الفرد، هي إذن نظرة علمانية، لا تنطلق في تحديد قيمته من معتقده، وإنما من كونه إنسانا. وما دام كذلك، فهو جدير بأن يحوز وضعا يليق به كإنسان، وهذا الوضع لا يتحقق إلا بتمتعه بكامل حقوقه الفردية. فإنسانيته كفرد مشروطة بحريته، ودون هذه الحرية تنعدم تلك الإنسانية. ولا غرابة في أن العلمانية تبلورت كرؤية مع ميلاد النزعة الإنسانية التي أعطت للإنسان مكانة رفيعة باعتباره سيد نفسه ومصيره، وأنه اعتمادا على قدرات العقل يستطيع أن يتخلص من كل الأوهام والخرافات التي تشكل عائقا أمام تطوره وتقدمه وسيطرته على الطبيعة التي أصبح هو سيدها يسخرها لأغراضه وسعادته، بخلاف الحقبة السابقة عن العلمانية، حيث كان الإنسان مكبلا باعتقادات قائمة على الخرافة والأساطير، تجعله دائما خائفا مما يعتبره قوى خارقة لا يملك إزاءها إلا الخوف والرهبة والخضوع. وبتجاوزه لهذه المرحلةـ تخلص الإنسان من قصوره واكتمل نضجه، واكتسب وعيا بذاته كفرد، ولم يعد في حاجة إلى وصاية أي كان على فكره وحريته، لأنه أصبح المسؤول الوحيد عن ذاته. ولهذا فليس هناك أي معنى لتقييد حرياته الفردية، بما أنه استطاع تجاوز قصوره المعرفي ، ودشن عصر التنوير بما هو عصر لانبثاق الفرد كحالة مشروطة بالحرية.
في خضم هذه الصيرورة إذن، تشكلت العلمانية، ولهذا كانت منذ البداية متوازية ومعضدة للحريات الفردية. ومن تم فالمطالبة بها يعزز هذه الحريات ويرسخها، لأنها هي الإطار السياسي الوحيد الذي يضمنها ويحميها الحماية التامة. ولذلك فكل دعوة لحماية الحريات الفردية هي دعوة لتكريس العلمانية وإقرارها، إذ بدون العلمانية يتعذر على أي منظومة سياسية وقانونية أن تحمي هذه الحقوق وتستجيب لمطلب صيانتها وتعزيزها