قدرات النياندرتاليين العقلية (*)
أسفرت التحاليل التشريحية و تحاليل الدنا DNA والبقايا الثقافية عن أفكار(١)
محيّرة في الحياة العقلية (٢) لأبناء عمومتنا المنقرضين الذين يصعب تعرفهم.
باختصار
ظلّ الرأي السائد لفترة طويلة على أن النياندرتاليين كانوا متخلفين عن الإنسان العاقل الحديث تشريحيا(٣) في قدراتهم العقلية(٤).
وتشير الدراسات إلى أنهم كانوا يختلفون بالفعل عن الإنسان العاقل في تشريح الدماغ والدنا DNA، إلا أن الدلالة الوظيفية لهذه الاختلافات لم تكن واضحة.
توفر البقايا الثقافية أفكارا أكثر وضوحا عن قدرات النياندرتاليين العقلية وتـضيق الفجوة العقلية المفترضة بينهم وبيننا.
وتشير نتائج البحوث إلى أن هناك عوامل لا علاقة لها بالذكاء(٥) دفعت النياندرتاليين إلى الانقراض وسمحت للإنسان العاقل بأن يتطور. |
[rtl]في يوم صحوٍ في جبل طارق يمكنك أن ترى، وأنت تستكشف كهف كورهام، الساحلَ الشمالي المتعرج الأرجواني لبلاد المغرب العربي فوق سطح البحر الفيروزي. ويخيم الهدوء في داخل الكهف باستثناء ضربات الأمواج على الساحل الصخري. ولكن بعيدا عن الساحل، يعمُّ النشاط في المضيق الذي يفصل هذا الطرف في أقصى جنوب شبه الجزيرة الإيبيرية عن القارة الإفريقية. فهناك تمخر مراكب الصيد في البحر لصيد أسماك التونة والمارلين، والسفن السياحية التي تنقل السياح، وهم يشاهدون الجدار الصخري الكلسي لجبل طارق، وناقلات النفط الخام التي تبحر من البحر المتوسط إلى موانئ أوروبا الغربية. لقد جذبت، هذه المنطقة من خلال تياراتها السريعة الغنية بالغذاء ومناخها المعتدل وموقع بوابتها، البشرَ منذ آلاف السنين.
[/rtl]
[rtl]قطنت مجموعة من البشر مثيرة للإعجاب في هذه المنطقة لمدة عشرات الآلاف من السنين وتحملت العيش في عصور جليدية متعددة. وخلال هذه الأزمنة كشف انخفاض مستويات البحر عن سهل ساحلي واسع أمام الكهف، حيث ترعرعت مجموعة متنوعة من الحيوانات والنباتات. وقد استطاع النياندرتاليون استغلال هذا الكَرَم المحلي بشكل ذكي؛ إذ كانوا يصطادون الحيوانات الكبيرة كالوعول والفقمات والحيوانات الصغيرة مثل الأرانب والحمام، كما كانوا يصطادون سمك الأبراميس ويجمعون المحار والحلزون (والبطلينوس) من الشواطئ البعيدة؛ كما كانوا يقومون بجمع أكواز الصنوبر من أشجار الصنوبر الدائمة الخضرة. وأحيانا كانوا يتخذون من رياش الغربان والنسور زينة يتزينون بريشها الأسود الجميل. وإضافة إلى ذلك، كانوا ينقشون أرض كهفهم برموز ضاعت دلالاتها مع مرور الزمن.
[/rtl]
[rtl]وتصرف هؤلاء الناس مثلما تصرف أسلافنا من أفراد الإنسان العاقل Homo sapiens الذين نشؤوا في إفريقيا بالبنية التشريحية نفسها التي لنا في الوقت الحاضر، والذين استعمروا فيما بعد كل بقعة من بقاع الكرة الأرضية. ولكنهم لم يكونوا هؤلاء البشر الحديثين تشريحيا؛ وإنما كانوا من النياندرتاليين أبناء عمومتنا من ذوي الأجسام القصيرة والبدينة والحواجب الثخينة والمعروف أنهم عاشوا في آسيا وأوروبا في الحقبة من 350 ألف سنة إلى 39 ألف سنة خلت - أولئك هم النياندرتاليون ذاتهم الذي جاء اسمهم ليكون مترادفا مع الثقافة الشعبية المرافقة للذكاء المتدني والوحشية.
[/rtl]
[rtl]إن الأساس العلمي لهذا الرأي الشعبي المستهجن يعود إلى أسباب عميقة. فعند العودة إلى السنوات المبكرة من القرن التاسع عشر نجد أن اكتشاف أول هيكل عظمي كامل لإنسان نياندرتال في موقع لاشاپل-أوه-سانت(6) في فرنسا أدى إلى مشكلة في صورة هذه المجموعة: فالتشوهات في الهيكل المعروفة الآن التي تعكس عمره القديم كانت تعتبر علامات انحطاط عقلي ومستوى دون البشر.
[/rtl]
[rtl]ومنذ ذلك الحين تأرجحت آراء علماء الإنسان القديم بصورة متــكــررة بــين البـــاحثــين الــــذيــــن يرون أن النياندرتاليين أدنى في قدراتهم العقلية من الإنسان العاقل وبين أولئك الذين يرونهم كأنهم متساوون معنا بقدراتنا العقلية. وفي الوقت الحاضر تثير اكتشافات حديثة هذا الجدل. إذ بينت التحاليل الحديثة لبعض الأحافير والدنا القديم أن أدمغة النياندرتاليين كانت مختلفة فعلا - وأقل قدرة عقلية من أدمغة الإنسان العاقل. ومع ذلك تشير أدلة أثرية archaeological إلى أن النياندرتاليين كانوا يتصرفون بالأساليب نفسها التي كان يتصرف بها معاصروهم من البشر الحديثين تشريحيا.
[/rtl]
[rtl]ومع تقدم العلماء في نطاق قدرات النياندرتاليين العقلية يزداد الغموض الذي يحوم حول أسباب انقراض أقرب أقربائنا من البشر وذلك على الرغم من سيادته لمئات الآلاف من السنين. وقد بدأ التنافس حول حل اللغز المتعلق بالانقراض، وإن مثل هذه الفكرة ستساعد على الكشف عما كان يميز نوعنا عن باقي أفراد فصيلة البشر - وستساعد أيضا على وضع أفراد البشر الحديثين تشريحيا على الطريق الذي سيصبح فيه نوعنا في الوقت الحاضر النوع الأكثر نجاحا.
[/rtl]
معارف عظميّة(**)
[rtl]لمدة طويلة بحث علماء الإنسان القديم عن أدلة على قدرات النياندرتاليين العقلية في جماجمهم التي تركوها خلفهم. ومن خلال دراسة القوالب الداخلية لقحف دماغهم، تمكن الباحثون من إعادة بناء الشكل الخارجي لدماغ الإنسان المنقرض الذي يكشف عن حجمه الإجمالي، وكذلك عن شكل بعض مناطقه. إلا أن هذه التحليلات فشلت في إظهار اختلافات واضحة بين أدمغة النياندرتاليين وأدمغة أفراد الإنسان العاقل. (يعتقد بعض الخبراء أن النياندرتاليين ما هم إلا مجرد مجموعة أخرى من الإنسان العاقل. غير أن مقالنا هذا يعالج المجموعتين على أنهما نوعان مختلفان من البشر، حتى وإن كانت درجة قرابتهما وثيقة الصلة إلى أبعد الحدود.) لقد كانت تلافيف أدمغة النياندرتاليين أقل تعرجا من أدمغتنا ولكن حجمها كان كحجم أدمغتنا. وفي الواقع كانت أكبر حجما في كثير من الحالات، بحسب تفسير المتخصص بعلم الأعصاب القديم(7) <R. هولّواي> [من جامعة كولومبيا]. كما أن فصوص الدماغ الجبهية - التي تتحكم في حل المشكلات، من بين المهام الأخرى - كانت مماثلة تقريبا لفصوص دماغ الإنسان العاقل الجبهية، وذلك انطلاقا من الانطباعات التي تخلفت عنها داخل قحف الدماغ. ومع ذلك، فإن هذه الانطباعات لا تكشف الامتداد الداخلي أو بنية تلك المناطق الرئيسية في الدماغ. وهذه القوالب الداخلية endocasts تشكل أكثر الأدلة المباشرة على تطور الدماغ، لكنها تكون محدودة للغاية من حيث إعطاء معلومات مؤكدة حول سلوك النياندرتاليين بحسب <هولّواي>.
[/rtl]
[rtl]ففي دراسة تمت في عام 2013 ونشرت على نطاق واسع، ادعت <E. بيرس> وزملاؤها [من جامعة أكسفورد] أنها تجاوزت بعض نواقص القوالب الداخلية وقدمت وسيلة لتقدير حجم المناطق الداخلية من الدماغ. فقد استخدم فريقها حجم تجويف الحجاج (العين) eyesocket كبديل عن حجم القشرة البصرية التي هي منطقة في الدماغ وتعالج الإشارات البصرية. فقد وجدوا أن جماجم النياندرتاليين التي تم إجراء القياسات عليها كان حجم التجويف الحجاجي أكبر كثيرا من التجويف الحجاجي لأفراد البشر الحديثين – وهذا كان أفضل للتلاؤم مع مستويات الضوء المنخفضة المتاحة، وفق إحدى الفرضيات، في مساكنهم الواقعة في مناطق خطوط العرض العليا - ومن ثم، فإن حجم القشرة البصرية كانت أكبر. ومع المزيد من الحالات الواقعية المكرسة إلى معالجة المعلومات البصرية، يجادل الباحثون في أنه ربما كانت للنياندرتاليين أنسجة عصبية أقل في مناطق الدماغ الأخرى، بما في ذلك تلك المناطق التي تساعدنا على الحفاظ على تواصل اجتماعي واسع، والتي يمكن أن تكون بمثابة المخزن لمواجهة الأوقات الصعبة.
[/rtl]
[rtl]لم يقتنع <هولّواي> بهذا الطرح إذ يشير عمله الخاص بالقوالب الداخلية إلى عدم وجود أية وسيلة لتحديد وقياس القشرة البصرية. إضافة إلى ذلك، فإن وجوه النياندرتاليين كانت أكبر من وجوه البشر الحديثين تشريحيا؛ مما قد يفسر الحجم الأكبر لتجويف الحجاج (العين)؛ كما لاحظ <هولّواي> أن البشر الحاليين كانوا يختلفون كثيرا بأبعاد قشرتهم البصرية مقارنة بمناطق الدماغ الأخرى، وهذا الاختلاف التشريحي لا يبدو أنه يتوافق مع الاختلافات في السلوك.
[/rtl]
[rtl]وقد وفرت تحاليل الأحافير(8) الأخرى دلائل غامضة مشابهة على قدرات النياندرتاليين العقلية. ودراسات عدم تناظر الأطراف وعلامات الاهتراء على الأسنان والأدوات (من استخدامها في التقاط الأشياء مثل جلود الحيوانات خلال معالجتها) أشارت إلى أن النياندرتاليين كانوا يفضلون استخدام اليد اليمنى كما نفعل نحن البشر الحديثون. ويـعتبر الاتجاه القوي نحو تفضيل اليد اليمنى إحدى السمات التي تميز الإنسان الحديث عن أفراد الشمبانزي وتنسجم مع حالات اللاتناظر في الدماغ التي يعتقد أن لها صلة باللغة - وهي مكون رئيسي في سلوك الإنسان الحديث. ومع ذلك، فإن الدراسات الخاصة بشكل جمجمة النياندرتاليين في العينات التي تناولت مجموعة من مراحل النمو، تشير إلى أن النياندرتاليين اكتسبوا الحجم الكبير للدماغ من خلال مسلك للنمو يختلف عن مسلك الإنسان العاقل. ومع أن قدرات النياندرتاليين العقلية بدأت بالنمو بطريقة مشابهة لدى الإنسان الحديث في أرحام أمهاتهم، إلا أنها اختلفت عن نمط النمو الحديث بعد الولادة خلال الفترة المهمة من النمو المعرفي.
[/rtl]
[rtl]وقد تكون لهذه الاختلافات في النمو جذور تطورية عميقة. إنّ تحليل نحو 17 جمجمة يعود عمرها إلى ما قبل 430 ألف سنة من موقع الأحافير سيما دو لوس هويسوس(9) في جبال أتابويركا شمالي إسبانيا، بيّن أن أفرادا من السكان هناك، كانوا يعتقدون أنهم أسلاف النياندرتاليين الذين كانت لديهم أدمغة أصغر من أدمغة أفراد السلالة الذين أتوا بعدهم. وهذا الكشف يدل على أن النياندرتاليين لم يرثوا حجم دماغهم الكبير من السلف الأخير المشترك من النياندرتاليين والإنسان الحديث، وإنما تعرَّض هذان النوعان لزيادة في حجم الدماغ بصورة متوازية خلال عملية تطورهما اللاحق. وعلى الرغم من أن حجم أدمغة النياندرتاليين وصل تقريبا إلى حجم أدمغتنا، فإن تطورها المستقل ترك إمكانيات كثيرة لظهور اختلافات في الدماغ مستقلة عن حجمه، كتلك الاختلافات التي تؤثر في الاتصال بين مناطقه.
[/rtl]
إشارات جينية(***)
[rtl]وقد تأتي تلميحات من بعض تلك الاختلافات من تحليل الدنا DNA. فمنذ أن نشر مشروع لجينومgenome النياندرتاليين في عام 2010، بحث علماء الوراثة في الدنا لاستنتاج طريقة لمقارنة النياندتاليين بالإنسان العاقل. ومن المثير للاهتمام أن يتضح أن النياندرتاليين كانوا يحملون متغيراً لجين يشبه كثيرا ما نحمله نحن البشر يدعى المتغير FOXP2 الذي كان يعتقد أنه يؤدي دورا في عملية التكلم واللغة. إلا أن أجزاء أخرى في جينوم النياندرتاليين تبدو أنها تتباين مع جينوماتنا بشكل ملحوظ. إذ يبدو، من جهة، أن النياندرتاليين كانوا يحملون صيغا مختلفة لجينات أخرى مرتبطة باللغة تشمل الصيغة CNTNAP2. ومن جهة ثانية، فإن من بين 87 جيناً لدى أفراد الإنسان الحديث التي تختلف عن نظرائها عند النياندرتاليين وعند مجموعة بشرية قديمة أخرى من الهومينين (أشباه البشر) hominin، الدينيسوڤانيين(10) the Denisovans، هناك عدة جينات كانت تؤثر في نمو الدماغ وعمله الوظيفي.
[/rtl]
[rtl]ومع ذلك، فإن الاختلافات في الكودات الجينية the genetic codes بين النياندرتاليين والبشر الحديثين لا تمثل كامل القصة؛ إذ إن تشغيل وإلغاء تأثير عمل الجينات يمكن أن يؤدي إلى تمييز البشر الحديثين عن النياندرتاليين، أيضا، وهكذا فإن المجموعتين كانتا تختلفان في الطريقة والظروف اللتان كانتا تنتجان بها المواد المكودة بجيناتهما. وبالفعل، يبدو أن المـتغير FOXP2 ذاته كان يُعبر بصورة مختلفة لدى النياندرتاليين عنه لدى أفراد الإنسان العاقل مع أن البروتين المصنوع منه هو ذاته. وقد بدأ العلماء بدراسة تعديل الجينات لدى النياندرتاليين ولدى مجموعات بشرية أخرى منقرضة من خلال دراسة أنماط من العلامات الكيميائية المعروفة بعلامات مجموعات المثيل methyl groups لدى الجينومات القديمة. والمعروف أن هذه العلامات تؤثر في النشاط الجيني.
[/rtl]
[rtl]إلا أن السؤال الكبير يكمن فيما إذا كانت الاختلافات في تسلسلات الدنا وفعالية الجينات تترجم اختلافات في الإدراك والمعرفة. وتحقيقا لهذه الغاية، ظهرت أدلة مثيرة من دراسة الأفراد الحاليين الذين يحملون نسبة مئوية صغيرة من دنا النياندرتاليين أنها كانت نتيجة للتزاوج الطويل الأمد بين النياندرتاليين وأفراد الإنسان العاقل.
[/rtl]
تركة النياندرتاليين(****)
كشف تحليل الدنا المأخوذ من أحافير النياندرتاليين، أن النياندرتاليين كانوا يتزاوجون بأفراد الإنسان العاقل بعد أن ترك نوعنا إفريقيا. ونتيجة لهذا التزاوج الطويل الأمد يوجد الدنا النياندرتالي في كثير من البشر الحاليين.
إن أي شخص حالي لا يمتلك إلا كمية قليلة من الدنا النياندرتالي. ولكن ليس كل شخص يحمل الأجزاء نفسها. ففي الواقع، إن ضم أجزاء الدنا النياندرتالي من عينة كبيرة من البشر الحديثين، مكّن العلماء من إعادة بناء نسبة 35 - 70% من جينوم النياندرتاليين. |
[rtl]لقد قام عالم الوراثة [من معهد البحوث الطبية الحيوية في تكساس] بإجراء دراسة لمدة طويلة على عائلات كبيرة في منطقة سان أنطونيو بهدف العثور على الجينات المسؤولة عن أمراض معقدة مثل داء السكري. وفي السنوات القليلة الماضية بدأ <بلانگيرو> بدراسة بنية الدماغ ووظيفته لدى عينات الأفراد المشاركين في الدراسة. فقد بدأ <بلانگيرو>، وهو أحد علماء علم الأحياء المختص بعلم الإنسان، بالتساؤل عن الطريقة التي تمكنه من استخدام البشر للإجابة عن أسئلة مثل السؤال عن القدرات المعرفية التي كانت لدى النياندرتاليين.
[/rtl]
[rtl]وبدأت الخطة بالتبلور. فقد حصل <بلانگيرو> وفريقه، خلال بحثهم عن الأمراض على تسلسلات كاملة للجينوم إضافة إلى صور مسوح التصوير بالرنين المغنطيسي (MRI) لأدمغة مئات المرضى. وقاموا بتطوير طريقة إحصائية لقياس تأثيرات بعض المتغيرات الجينية المرتبطة بالمرض في السمات التي يمكن ملاحظتها. لقد أدرك <بلانگيرو> وفريقه أن بطريقتهم الإحصائية يمكنهم استخدام جينومات النياندرتاليين والبيانات الجينية والتصوير MRI لمجموعته من البشر الأحياء لتقدير تأثيرات مجموعة المتغيرات الجينية الكاملة للنياندرتاليين - المعروفة بالنمط الجيني المتعدد polygenotype - في السمات المرتبطة بالإدراك المعرفي.
[/rtl]
[rtl]وتشير النتائج التي حصلوا عليها إلى أن عدة مناطق رئيسية من الدماغ كانت أصغر لدى النياندرتاليين عما هي عليه لدى أفراد الإنسان الحديث، ويشمل ذلك: منطقة المادة الرمادية السطحية التي تساعد على معالجة المعلومات في الدماغ، ومنطقة البروكا Broca التي تبدو معنية في قدرات اللغة، ومنطقة اللوزة الدماغية(11)the amygdala التي تتحكم في العواطف والدوافع. وتشير هذه النتائج أيضا إلى أن النياندرتاليين كانت لديهم كمية أقل من المادة البيضاء، وهذا ما يفسر انخفاض عمليات اتصال الخلايا العصبية فيما بينها في أدمغتهم. وهناك سمات أخرى ستؤثر في قدرتهم على التعلم وتذكـر الكلمات. ويؤكد <بلانگيرو> في عرضه لاكتشافاته في الاجتماع السنوي لجمعية علماء الإنسان الفيزيائيين الأمريكيين في كالكاري في الشهر 4/2014 «أن النياندرتاليين كانوا بالتأكيد أقل مهارة معرفيا، وأنا مستعد للمراهنة على ذلك.»
[/rtl]
[rtl]وبالطبع, فإن عدم وجود نياندرتاليين أحياء الآن يعني عجز <بلانگيرو> عن تقدير إمكانياتهم المعرفية ومن ثم تأكيد أو نفي استنتاجاته، إلا أن هناك، نظريا، أسلوباً آخر لاختبار حدسه، إذ سيكون من الممكن استخدام التقانة الحالية في دراسة الوظائف الخلوية الدماغية للنياندرتاليين من خلال التعديل الجيني لخلايا أفراد البشر الحديثين لتحوز على تسلسلات الحمض النووي النياندرتالي وبرمجتها لتصبح خلايا عصبية(12) ثم مراقبة هذه الخلايا النياندرتالية في أطباق پتري petri dishes. وعند ذلك يمكن للعلماء أن يدرسوا قدرات الخلايا العصبية على نقل النبضات الكهربائية(13) وانتقالها إلى مناطق مختلفة من الدماغ وإنتاج استطالات عصبية neuritesتساعد الخلايا على الاتصال فيما بينها، على سبيل المثال. ويشير <بلانگيرو> إلى أنه على الرغم من وجود قضايا أخلاقية عالقة عندما يتعلق الأمر بخلق خلايا نياندرتالية، إلا أن هذا العمل يمكن أن يساعد الباحثين بالفعل على تحديد الجينات المسؤولة عن اضطرابات دماغ الإنسان الحديث إذا كانت التغيرات الجينية تخرب وظائف الخلايا العصبية. ويمكن لهذه النتائج في المقابل أن تقود إلى اكتشاف أهداف لأدوية جديدة.
[/rtl]
[rtl]ولكن الجميع ليسوا مستعدين لاستخلاص استنتاجات حول عقل النياندرتال من الدنا. فقد لاحظ <J. هوكس> [من جامعة ويسكونسن-ماديسون] أنه من الممكن أن النياندرتاليين كانوا يحملون متغيرات جينية كانت تؤثر في وظيفة الدماغ، ولكن لم تكن لتلك المتغيرات مقابلات لدى البشر الحاليين لمقارنتها بهم. كما بين أنه إذا كان على المرء أن يتنبأ بلون بشرة النياندرتاليين استنادا إلى الجينات التي يتشاركون فيها مع أفراد البشر الحديثين، فإنه سيستنتج أن لون بشرتهم كان قاتما. ومع ذلك يعرف العلماء حاليا أن المعلومات عن بعض الجينات التي كانت لدى النياندرتاليين لم تعد متداولة ومن المحتمل أنها كانت تخفف من لون بشرتهم. ولكن المشكلة الأكبر في محاولة التحقق في طريقة عمل أدمغة النياندرتاليين استنادا إلى جيناتهم، وفق قول <هوكس>، هي في عجز القسم الأكبر من الباحثين عن معرفة طريقة تأثير الجينات في التفكير في نوعنا البشري. ويؤكد <هوكس> قائلا: «نحن نكاد لا نعرف شيئا في علم الجينات(14) genetics عن إدراك النياندرتاليين بسبب أننا لا نعرف تقريبا أي شيء في علم الجينات عن إدراك البشر الحديثين.»
[/rtl]
معارف من اللقى الأثرية(*****)
[rtl]ونظرا لمحدودية المعلومات التشريحية التي يمكن أن توفرها دراسة الأحافير وحقيقة أن بحوث الدنا القديم ما زالت في مهدها، يعتقد الكثير من الباحثين أن النافذة الحقيقية والأوضح على عقل النياندرتاليين تكمن في السجل الثقافي الذي تركه وراءهم هؤلاء البشر المنقرضون. ولفترة طويلة من الزمن لم يرسم هذا السجل صورة واضحة لأبناء عمومتنا المنقرضين. فقد ترك الأوروبيون الحديثون المبكرون فنوناً راقية وأدوات معقدة وبقايا طعام تدل على قدرتهم على استغلال الكثير من أنواع الحيوانات والنباتات؛ مما سمح لهم بالتكيف مع البيئات الجديدة والتقلبات المناخية. أما النياندرتاليون، بالمقابل، فيبدو أنهم لم يتركوا وراءهم فنونا وبقايا رمزية، كما أن أدواتهم كانت بسيطة نسبيا. ويبدو أنهم كانوا يستخدمون أيضا استراتيجية البحث عن الطعام تتمركز بصورة محدودة على الطرائد الكبيرة. لقد كان النياندرتاليون يتعثرون في أساليبهم، ومن ثم لم يتمكنوا من التكيف مع تدهور الظروف المناخية والمنافسة مع الغزاة أفراد البشر الحديثين.
[/rtl]
[النتائج]
تأثير الانسان العاقل(******)
سيطر النياندرتاليون على أوراسيا لمئات الآلاف من السنين إلى أن اجتاح الإنسان العاقل الحديث تشريحيا القادم من إفريقيا عقر دارهم. وحين ذلك انقرض النياندرتاليون. لقد فسر بعض العلماء أن خسارة النياندرتاليين لصالح أفراد الإنسان الحديث كانت بسبب افتقارهم إلى المهارات اللغوية والاجتماعية والإبداع التقني ومقدرتهم على جمع الطعام، وهي مهارات كان يحوزها القادمون الجدد. وكانت تعزى أية إشارة عن تطور للنياندرتاليين في مراحلهم المتأخرة في مواقعهم الأثارية إلى الإنسان العاقل. إذ يشير المجهود الأخير لتحديد زمن انقراض النياندرتاليين من خلال إعادة تحديد عمر عدد من المواقع في أوروبا إلى أن النياندرتاليين كانوا يتعايشون مع أفراد الإنسان الحديث لآلاف السنين في بعض المناطق - وهو زمن كاف للنياندرتاليين كي يتعلموا طرق الغزاة الجدد. إلا أنه على مدى السنوات القليلة الماضية برزت سلسلة من الاكتشافات الحديثة التي تشهد على تطور النياندرتاليين - من عناصر رمزية وأدوات متطورة إلى مجموعة واسعة من بقايا المواد الغذائية – من مواقع التي تسبق بوضوح وصول الإنسان العاقل. ويبقى التساؤل الذي يواجهه العلماء الآن هو معرفة ما إذا كان القادمون الجدد أفضل بالفعل في هذه الأمور أم أن هناك عوامل أخرى أدت إلى انقراض النياندرتاليين.
الحقبة من 000 250 إلى 000 45 سنة خلت الامتداد الأكبر لمناطق النياندرتاليين ومواقعهم مع الأدلة التي تشير إلى سلوكيتهم المتطورة التي تكون قد سبقت قدوم البشر الحديثين تشريحيا.
هولندا صبغ سائل (1) موقع ماستريخت-بلڤيدير في الحقبة من 000 250 إلى 000 200 سنة
فرنسا خيوط ومجموعة بقايا نباتات وحيوانات واحتمالية أسلحة قذف (2) موقع آبري دو ماراس ما قبل 000 90 سنة مخالب النسور (3) موقع كومب كرونال ما قبل 000 90 سنة (4) موقع ليه فيو في الحقبة من 000 60 إلى 000 40 سنة خلت القبور (5) موقع لاشاپل-أوه-سانت ما قبل 000 60 سنة
أدوات لمعالجة الجلود (6) موقع پيك-دو-لازى في الحقبة من 000 53 إلى 400 49 سنة خلت (7) موقع آبري پيروني في الحقبة من 000 47 إلى 000 41 سنة
إسبانيا أصداف بحرية ملطخة بالأصبغة (8) موقع كويڤا دو لوس أڤيونيس ما قبل 000 50 سنة إيطاليا أصداف مصبوغة وانتزاع الريش (9) موقع غروتا دي فوماني ما قبل 600 47 سنة
الحقبة من 000 45 إلى 000 39 سنة خلت تعايش النياندرتاليون والبشر الحديثون في بعض المناطق لمدة 5400 سنة، وهذا يعني أن بعض البقايا الثقافية للنياندرتاليين المتأخرين يمكن أن تكون من نتاج تأثير البشر الحديثين.
فرنسا حلي وعظام مطورة وأدوات حجرية (10) أرسي-سور-كور في الحقبة من 500 44 إلى 000 40سنة (11) موقع سان سيزار في الحقبة من 000 42 إلى 500 40 سنة (12) موقع لا كوينا في الحقبة من 300 43 إلى 600 41 سنة
إسبانيا أصداف بحرية ملطخة بالأصبغة (13) موقع كويڤا أنتون في الحقبة من 500 43 إلى 400 37 سنة خلت جبل طارق نقش الصخور انتزاع الريش (14) موقع مغارة غورهام كيڤ ما قبل أكثر من 000 39 سنة خلت |
[rtl]ومع ذلك، عثر علماء الآثار في التسعينات من القرن الماضي على أدلة تناقض هذا السيناريو، وهي عدد محدود من العناصر الزخرفية وأدوات مطورة نُسبت إلى النياندرتاليين. ومنذ ذلك الحين اختلف الباحثون حول ما إذا كانت هذه العناصر من عمل النياندرتاليين كما ادعوا؛ شكوك برزت لأن عمر العناصر يعود إلى نهاية حقبة النياندرتاليين، الزمن الذي كان فيه الإنسان العاقل موجودا أيضا في ذات المنطقة. (يبدو أن أفراد الإنسان الحديث تشريحيا قد وصلوا إلى أوروبا نحو 000 44 إلى 500 41 سنة خلت، أي بعد مئات الآلاف من السنوات من استقرار النياندرتاليين في هذه المناطق). ويعتقد بعض المشككين أن الإنسان العاقل هو الذي صنع هذه الأعمال الفنية المتطورة التي اختلطت لاحقا ببقايا النياندرتاليين، أو يقترحون احتمالاً آخر، هو أن يكون النياندرتاليون قد قاموا بنسخ مواهب البشر الحديثين أو بسرقة حاجياتهم.
[/rtl]
[rtl]إلا أنه أصبح من الصعب دعم هذا الموقف في مواجهة مجموعة من الاكتشافات خلال السنوات القليلة الماضية التي برهنت على حدة ذكاء النياندرتاليين قبل انتشار الإنسان الحديث تشريحيا في جميع أنحاء أوروبا. «لقد كان هناك تحول كبير من التغيرات الواقعية، فكل شهر يأتي لنا بجديد ومفاجئ صنعه النياندرتاليون،» بحسب ملاحظة <D. فراير> [من جامعة كنساس] «والدلائل الجديدة تشير دائما إلى أن النياندرتاليين كانوا أكثر تطورا ولم يكونوا سذجا.»
[/rtl]
|
يختلف شكل دماغ إنسان نياندرتال (في اليمين) يختلف عن شكل دماغ الإنسان الحديث (في أقصى اليمين)، إلا أن الكيفية التي كان يؤثر هذا الاختلاف في القدرة التفكيرية غير معروفة. |
[rtl]وتكشف بعض الاكتشافات الأكثر إثارة للدهشة عن جماليات فنية وفكر مجرد في ثقافات النياندرتاليين التي سبقت وصول الإنسان العاقل. وتشمل اللقى نقوشا ورموزا تدل على استخدام الريش الذي وجد في كهف كورهام. وفي الواقع تم العثور على هذه اللقى من هذا النوع في مواقع أثرية في جميع أنحاء أوروبا. إذ عثر علماء الآثار في كهف كروتا دي فومان في منطقة فينيتو بإيطاليا على ما يدل على استخدام الريش إضافة إلى قواقع حلزون أحفورية جمعت من مسافة 100 كيلو متر على الأقل، وكانت ملطخة بالأحمر ومضمومة بخيط لارتدائها كقلادة منذ ما قبل 47 ألف سنة ماضية على الأقل. لقد أعطى كهفا كويڤا دي لوس أڤيونيس وكويڤا أنطون في جنوب شرق إسبانيا أيضا أصدافا بحرية تحمل آثار الأصباغ. ويبدو أن بعضها استخدم ككؤوس لخلط وحفظ أصباغ حمراء وصفراء وسوداء لامعة قد تكون لأغراض تجميلية، والأصداف الأخرى تحمل ثقوبا؛ مما يدل على أنها كانت تستخدم كَحُليّ. ويعود عمر الأصداف المحورة (المثقوبة والملونة) إلى ما قبل خمسين ألف سنة خلت.
[/rtl]
[rtl]وتدل بقايا أخرى للنياندرتاليين على أن رغبتهم في التزيين تعود إلى أزمنة بعيدة، إذ تـوثـق مواقع في فرنسا وإيطاليا تقليدا يتمثل بجمع مخالب النسور يعود عمرها من الحقبة 000 90 إلى 000 40 سنة خلت. وتبين آثار عمليات القطـع على العظام أن النياندرتاليين كانوا يركزون جهودهم على جمع المخالب عوضا عن اللحم. وهذا ما دفع الباحثين إلى الاستنتاج أن النياندرتاليين كانوا يستغلون هذه النسور لأغراض رمزية - ربما لتزيين أنفسهم بالمخالب الملفتة للنظر - وليس لحاجات غذائية.
[/rtl]
[rtl]وهناك مؤشرات أقدم للنواحي الجمالية المرتبطة بالنياندرتاليين أتت من موقع ماستريخت بلڤيدير في هولندا، حيث وجد علماء الآثار بقعا صغيرة من المغرة الحمراء أو من أكسيد الحديد في ترسبات تعود إلى الحقبة من 250 ألف إلى 200 ألف سنة ماضية على الأقل. والصبغ القرمزي كان يُطحن طحنا دقيقا ويخلط بسائل ويرمى على الأرض. ولم يستطع العلماء تحديد غاية النياندرتاليين من استخدام السائل الأحمر إلا أن استخدامه في رسم اللوحات هو أحد الاحتمالات الواضحة، وفي الواقع عندما وجد الباحثون المغرة الحمراء في المواقع المنسوبة إلى الإنسان الحديث المبكر افترضوا أن استخدامها كان لأغراض الزينة.
[/rtl]
|
|
كهوف جبل طارق (في الأعلى) وفرت مأوى للأفراد المتطورة من النياندرتاليين. وأضاف أحد النقوش (في اليمين) الذي وجد في أحد الكهوف دليلا على تفكير النياندرتاليين الرمزي. |
[rtl]وتوفر هذه الاكتشافات الجديدة، إضافة إلى تقديم صورة أكثر إشراقا للكثير من أبناء عمومتنا القساة، دلالات حاسمة على عقل النياندرتاليين. لقد اعتبر علماء الآثار، منذ زمن بعيد، الفنون بما في ذلك زخرفة الجسم، لتكون مؤشرا رئيسيا لقدرات البشر الحديثين المعرفية لأنها تعني أن الفنانين قادرون على تصور الأشياء المجردة ونقل هذه المعلومات إلى رموز. إن التفكير الرمزي يمثل قدرتنا على التواصل من خلال اللغة، وهي إحدى الصفات المميزة للإنسان الحديث التي ينظر إليها على أنها حاسمة لنجاحنا كنوع. وفي حال استطاع النياندرتاليون التفكير من خلال رموز كما يبدو أنهم فعلوا ذلك، يكون من المتوقع أنهم كانوا يمتلكون القدرة اللغوية أيضا. وفي الواقع يمكن أن يكون ظهور التفكير المجرد في السلالة البشرية قد سبق آخر سلف مشترك للنياندرتاليين والإنسان العاقل: ففي الشهر 12 كشف الباحثون عن صدفة محار من إندونيسيا زعموا أنها نُـقشت بأشكال هندسية من قبل السلف الأكثر بدائية وهو الإنسان المنتصب Homo erectus الذي يعود عمره إلى نحو ما قبل 500 ألف سنة خلت.
[/rtl]
[rtl]ومع ذلك، كان يعتقد أن التفكير الرمزي لم يكن المكوّن الوحيد للسلوك الذي ساعد الإنسان العاقل على التقدم، إذ يعد تصنيع الأدوات لاستخدامات متخصصة عنصرا آخر للتقدم وهو العنصر الذي يبدو أن النياندرتاليين قد اتقنوا صناعته أيضا. ففي عام 2013 أعلنت <M. سوريسي> إضافة إلى معاوينيها [من جامعة لايدن في هولندا] اكتشاف أدوات عظمية عرفت بأدوات التنعيم والتلميع lissoirs - وهي أدوات يستخدمها حرفيو الجلود اليوم لجعل جلود الحيوانات كتيمة وأكثر مرونة ولمعانا - وذلك في موقعين للنياندرتاليين بمنطقة الدوردونيون في فرنسا التي يعود عمرها إلى الحقبة من 000 53 إلى 000 41 سنة خلت. واعتمادا على آثار الاهتراء على القطع الأثرية، كان النياندرتاليون يستخدمونها للغرض ذاته. فقد صنع النياندرتاليون أدوات التنعيم والتلميع من عظام أضلاع القفص الصدري في الغزلان ونحتوا نهاية الضلع التي تربطه بعظم القص لتشكيل نهاية مدورة. ومن أجل استخدام هذه الأداة كانوا يقومون بضغط طرفها على جلد جاف في مكان محدد منه و بدفعه عبر سطح الجلد بصورة متكررة لتنعيمه وتليينه.
[/rtl]
[rtl]وعُثر أيضا على أدلة جديدة لقدرات النياندرتاليين الإبداعية في موقع يسمى آبري دو ماراس(15) جنوب فرنسا سكنه النياندرتاليون نحو ما قبل 000 90 سنة خلت. لقد كشفت التحاليل المجهرية لأدوات هذا الموقع الحجرية التي أجراها وزملاؤه [من معهد كينيوم] آثاراً لجميع أشكال النشاطات التي ظن فيما مضى أنها بعيدة عن معارف هذا النوع من البشر. وعلى سبيل المثال، عثر الفريق على بقايا ألياف نباتية ملتفة قد يكون قد استخدمت في صنع الحبال أو الخيوط، يمكن أن تكون بعد ذلك الأساس لتصنيع الشباك والفخاخ والأكياس. وهناك بقايا من الخشب عثر عليها أيضا تدل على أن النياندرتاليين قاموا بتصنيع أدوات من تلك المواد.[/rtl]
|
أداة عظمية لمعالجة الجلود تبدو هنا في أربعة أشكال وهي من بين الأدوات المتطورة التي كان النياندرتاليون يصنعونها. |
[rtl]وبينت تحاليل البقايا أيضا خطأ الاعتقاد أن النياندرتاليين كانوا انتقائيين جدا في طعامهم. إذ بينت دراسات التركيب الكيميائي لأسنانهم إضافة إلى تحاليل بقايا الحيوانات في موقع النياندرتاليين أنهم كانوا يعتمدون اعتمادا كبيرا على اصطياد فرائس كبيرة وخطيرة مثل الماموت والبيزون أكثر من اعتمادهم على مجموعة من الحيوانات وفقا لتوافرها, كما كان يعتمد أفراد البشر الحديثين تشريحيا. ويبدو أن النياندرتاليين في موقع آبري دو ماراس كانوا يستثمرون مجموعة متنوعة من المخلوقات شملت حيوانات صغيرة وسريعة كالأرانب والأسماك - وهي أنواع كان يظن سابقا أنها بعيدة عن متناول النياندرتاليين بما كانت لديهم من معدات تقنية متدنية.
[/rtl]
[rtl]ويجادل بعض العلماء في أن إمكانية العيش جزئيا على الأغذية النباتية هي التي أعطت أفراد الإنسان العاقل ميزة تفوقهم على النياندرتاليين، إذ سمح ذلك لهم بالمزيد من القوت(16) من المنطقة ذاتها من الأرض. (إن العيش على النباتات فقط أصعب لأفراد البشر من الرئيسيات primates الأخرى، لأن أدمغة البشر الكبيرة تتطلب الكثير من السعرات الحرارية(17) calories ولأن أمعاءنا الدقيقة غير مناسبة لهضم كميات كبيرة من ألياف النباتات roughage، وهو تركيب يتطلب معرفة جيدة بالأغذية النباتية وطريقة تحضيرها.) إلا أن النياندرتاليين في موقع آبري دو ماراس كانوا يجمعون النباتات الصالحة للأكل بما في ذلك الجزر الأبيض parsnip الأرقطيون burdock، إضافة إلى الفطور الصالحة للأكل وهذه النباتات لم تكن كل ما كانوا يجمعونه.
[/rtl]
[rtl]ووفقا لدراسات أجرتها <A. هنري> [من معهد ماكس بلانك لعلم الإنسان التطوري في لايبزيگ بألمانيا] تبين لها أن النياندرتاليين كانوا في رقعة واسعة من أوراسيا - من العراق حتى بلجيكا - يأكلون نباتات متنوعة. ولدى فحصها قلح أسنان(18) النياندرتاليين والفضلات المتبقية على الأدوات الحجرية أكدت أن النياندرتاليين كانوا يستهلكون أنواعا تنتمي - إلى حد بعيد - إلى أنواع القمح والشعير الحاليين، بعد طبخها لكي تصبح لذيذة المذاق. وقد وجدت أيضا بقايا من نشاء البطاطا ومركبات تدل على أشجار نخيل. لقد كانت أوجه التشابه بين هذه النتائج ونتائج مواقع الإنسان الحديث المبكر مدهشة. «وعلى أية حال، لقد وضعنا حدًّا لهذه البيانات، إذ لا يبدو هناك اختلافات ذات أهمية بين المجموعتين،» بحسب تصريح <هنري>. وتضيف: «إن الأدلة التي لدينا الآن تشير إلى أن البشر الحديثين الأولين في أوراسيا كانوا يحصلون بصورة أفضل على الأطعمة النباتية.»
[/rtl]
فراق منذ عهد بعيد(*******)
[rtl]إذا كان النياندرتاليون يتصرفون بالفعل بأساليب كان يعتقد أنها تميز أفراد البشر الحديثين تشريحيا وتشجع وصولهم إلى الهيمنة على العالم، فإن هذا التشابه يجعل انحدارهم وانقراضهم نهائيا أكثر غموضا. لماذا انقرضوا في حين بقي الإنسان العاقل على قيد الحياة؟ تشير إحدى الفرضيات إلى أن البشر الحديثين كانت لديهم مجموعة أكبر من الأدوات يمكن أن تكون قد دعمت عائداتهم من جمع الطعام. وتشرح <هنري> أن البشر الحديثين كانوا يتطورون في إفريقيا، حيث كان عدد جماعاتهم أكبر من جماعة النياندرتاليين. ومع المزيد من الأفراد الواجب إطعامها، فإن الموارد المفضلة تناقصت، كنقصان عدد الطرائد سهلة الصيد مثلا، وكان على البشر الحديثين أن يطوروا أدوات جديدة للحصول على أنواع أخرى، من المواد الغذائية. وعندما أحضروا هذه التقانات المطورة معهم من إفريقيا إلى أوراسيا تمكنوا من استغلال تلك البيئة بطريقة أكثر فعالية من النياندرتاليين المقيمين. وبعبارة أخرى، كان البشر الحديثون يحسنون مهاراتهم للبقاء على قيد الحياة في ظل ظروف أكثر منافسة من الظروف التي واجهها النياندرتاليون، وهكذا دخلوا مناطق النياندرتاليين مع ميزات أفضل لم تكن متوفرة لدى النياندرتاليين.
[/rtl]
[rtl]لم يحرض العدد الكبير لجماعة الإنسان العاقل على الإبداع فقط، وإنما كان يساعد أيضا على إبقاء التقاليد الجديدة وعدم انقراضها مع انقراض آخر فرد من أفراد مجموعة صغيرة معزولة. فجماعة الإنسان العاقل الأكبر عددا والأكثر تواصلا وفرت، بحسب <C. سترينگر> [من متحف التاريخ الطبيعي في لندن]، المزيد من التقدم الفعال لبناء المعرفة والحفاظ عليها، مقارنة بما لدى أفراد البشر المبكرين، بمن فيهم النياندرتاليين. وعلى الرغم من ذلك، فإن وصول أفراد البشر الحديثين لم يوضح انقراض النياندرتاليين السريع. والمحاولة الأخيرة لتعقـب تناقص أعداد النياندرتاليين التي أجراها <Th. هيكهام> وزملاؤه [من جامعة أكسفورد] طبقت طرقا لتحديد أعمار محسنة وذلك لتحديد أعمار العشرات من مواقع النياندرتاليين وأفراد الإنسان الحديث الأوروبي امتدت من إسبانيا إلى روسيا. فقد بينت النتائج أن المجموعتين تشاركتا القارة لمدة 2600 إلى 5400 سنة تقريبا، وذلك قبل اختفاء النياندرتاليين نهائيا نحو ما قبل 000 39 سنة خلت.
[/rtl]
[rtl]وهذا التشارك الطويل الأمد في القارة ربما ترك الكثير من الوقت للتزاوج بين المجموعتين. إذ بينت تحاليل الدنا أن أفراد البشر الحاليين الذين يعيشون خارج إفريقيا يحملون وسطيا ما لا يقل عن نسبة 1.5 - 2.1 في المئة من الدنا النياندرتالي - وهي تركة الاتصالات الجنسية بين النياندرتاليين وأفراد البشر الحديثين تشريحيا لعشرات الألوف من السنين بعد أن بدأت المجموعة الأخيرة بالانتشار خارج إفريقيا.
[/rtl]
[rtl]ويقترح بعض المختصين أن الاختلاط بين جماعة النياندرتاليين الأصغر عددا وجماعة البشر الحديثين الأكبر عددا يمكن أن يكون قد أدى إلى انقراض النياندرتاليين، في نهاية المطاف، بالهيمنة على مجمع جيناتهم(19). ويعتقد <فرايير> «أن النياندرتاليين لم يكونوا بأعداد كبيرة جدا، فقد كان هناك أناس قَدِموا من مناطق أخرى واختلطوا بهم مما أدى إلى انقراضهم. فتاريخ جميع الكائنات الحية ينتهي بانقراضها»، ويضيف «وهذا لا يشير بالضرورة إلى أنهم كانوا أغبياء أو عاجزين ثقافيا أو غير قادرين على التكيف وإنما يشير فقط إلى ما كان يحدث.»[/rtl]
[rtl]المؤلفة[/rtl] | Kate Wong |
<وانگ> محررة رئيسة في مجلة ساينتفيك أمريكان. | |