تتوجّب مقاربة هذه الومضة الشعرية ضمن سياقات انتمائها إلى لحظة تذويب شخصنة الهمّ في وعاء إيحاءات القضية الأم، أو الخطابات الضمنية المقتبسة من عملية ابتلاع رمزي تمارسه هذه الأخيرة على الحسّ النّرجسي، تسري دونما محو ملامح المعاناة أو طمس مؤشرات الترميم اللحظي للذات الإبداعية عبر هروبها من اختناقات الواقع باتجاه عوالم وجع تختزنه الذاكرة. هكذا وضدّا للتقنية البوليودية الناجعة في تحويل المزابل إلى فراديس ومشاهد القبح إلى دنيا من الجمال الآسر، ربما بنية ترسيخ ثقافة محاربة الأرضية المسكونة بتراجيديا المعتقد والصورة،ومجابهتها بسلاح النظرة المتفائلة والوسيلة المتسامية على الصيغة السوداوية الكالحة.
يسلك الشاعر الفلسطيني الواعد سعد أبو غنام ، درب القطيعة مع كل ما من شأنه أن يشكل حاجزا يعيق ملامسة جوهر وجذور وطن مطعون،أبشع مظاهر الخبث بحقه الفلسفة الماسونية في التعاطى مع أوجاعه، عبر عولمة وتدويل قضيته على شاكلة تعمّق الأزمة أكثر فأكثر و تغذي الغطرسة الصهيونية وترعى مصالح الدول العظمى المتكالبة على الحق العربي عموما.
هذه هي الحكاية في ثوب حنينها المتقد إلى خيوط محايدة تُعتمد في نسيج القضية وصنعها من الداخل دون ضغط أجنبي رخيص أو مراعاة لمصلحة بدافع الخيانة أو العمالة أو النعرة الإيديولوجية المشكوك في براءتها.
طبوغرافيا شاعرنا مطفأة لا تستعير شمّاعة أو قناعا أو أسلوبا متملّقا تتغيا من ورائه حصاد إطراءات ومديح قد يجود وربما يبخل به الآخر المستهدف بعد مكابدة وعناء.
هو لون من ألوان الصدق مع الذات والانقياد الأعمى لمراياها الفاضحة. فتشكيل هوية هذه الذات أو محاولات إعادة صياغتها ،منطقي ألا تواكلا واعتمادا على أياد دخيلة لحفنة انتهازية تستعبدها نزواتها و عرقيتها ونازيتها وساديتها وأحقادها.
هي مرايا لغة شعورية توقظ نظريات صناعة الاسم دون امتطاء ظهر القضية، وتقترح المكان طبقا لأصله وتبعا لصورته ارتقاء بالوجع الوطني وتبديد التخمينات وانطباعات العجز والقصور أو تسوّل محفّزات الطاقة الإيجابية كوقود لاستنطاقات القضية وتفادي موجبات الإخفاق وعدم التمكّن من وضح الإصبع على مكمن الخلل بغية استدعاء أسباب العلاج بعيدا عن الحلول الترقيعية الملوّثة بشتى أشكال المساومة والمزايدات .
الإضاءة سيئة
هنا
أين المصباح؟
آه...
ظهري
عثرت على الإبرة
اللعينة
فقدت خيط الحكاية
أفلت مني حذائي
واختبأ خلف الباب
أطلّت ذاكرتي
من ثقب الوقت
تلك الماكرة
عديمة التربية
تهدد بمغادرة منزل
العائلة .
ظاهريا قد تبدو الومضة غير مقنعة أو مغرية،نظرا إلى تقطيعات تطال المعنى بغير مناسبة ،وكذلك النهل الاعتباطي من معجم مفرداته متهمة بـالتلكّأ إن لم نقل الفشل ــ أحيانا ــ في إيصال ما تفيده الرؤيا الوطنية الجامحة.
قد تبدو الومضة أقرب إلى الفوضى التعبيرية منها إلى لوحة بوح في تناغمها الجمالي والدلالي.
كهذا نمط من التلقي ربما يختزل النص في حكاية على شفة منفصل عن قضيته، تزعجه الإنارة الخافتة ، كشخصية راحت تكتسحها أعراض الشيخوخة،في فعل البحث المرتبك عن إبرة وخيط لرتق حذاء لا حول له ولا قوة في تنقل أو اختباء خلف الباب بقدر ما توهمنا وتسقط عليه ذلك ذاكرة مشوشة ومضطربة .
لكن ... الماهية مستقرّة في ما يفتح بصيرة التلقي على ثغرات تدفع بنا إلى القفز فوق مثل هذه القراءات السطحية،وتجعلنا نلتفّ ونخوض دورة كاملة تمنحنا البعض من نكهة هذا النص الومضة من خلال مقاربته احتكاكا بمستويات انتسابه إلى قضية عالمية عريقة وعميقة عالقة بحجم قضيتنا الفلسطينية الكبرى .
أحمد الشيخاوي
شاعر وناقد مغربي