أحدثت ثورة (إخناتون) الدينية (1365-1349 ق.م)، تحولاً مهماً في القواعد الـمُتبعة في نحت التماثيل الملكية، إذ ازاحت موضوعات تلك التماثيل وسماتها الشكلية الواقعية أو المثالية، وجاءت بأسلوب جديد في آليات إظهار تماثيل إخناتون وعائلته، يمكن تسميتهُ بالأسلوب التعبيري. فقد جانبَ فنانو الديانة الإخناتونية، النزعة المادية، ونشدوا حالة الإنسان الروحية، ولجأوا إلى إخضاع مظاهر الوجود، وجعلوها مثابة تمثلات لإحساساتهم الذاتية. ففي العام (1911م) اكتشفت بعثة جمعية الشرق الألمانية، في أحد منازل تل العمارنة، تمثالاً طقوسياً لإخناتون، منحوتاً من الحجر الجيري. فها هنا يقف (إخناتون) حاملاً نضد قربان لإله الشمس (آتون)، نُقِشَ بصور الأطعمة وزهور السوسن. وتمظهر الملك بتاج (خبرش) أزرق اللون، على غرار أسلافه من الملوك المصريين، ونقبة قصيرة مزدحمة الطيات، في حين تميز وجهه بنوع من الاستطالة، وتميز باتساع حوضه، وامتلاء فخذيه. مما يدل على أن التحول في نحت السمات الشكلية لأعضاء جسم الملك، على وفق الأسلوب التعبيري لم يحدث فجأة، وإنما استغرق زمناً من سني حكمه الست عشرة. ومن الميزات الجديدة التي حملها تمثال إخناتون، هي ثبات قدميه إحداهما جنب الأخرى، بعد أن اعتاد أسلافه تقديم رجلهم اليُسرى بخطوة قصيرة إلى الأمام. وكذلك ظهور ثقبي الأذنين، وعدد من خطوط التجاعيد على عنقهِ.
إن فكرة التعبيرية الإخناتونية، هي أن الفن يَنبغي أن لا يَتقيد بتسجيل الانطباعات المرئية. بل عليه ان يُعبّر عن التجارب العاطفية والقيم الروحية، فالخارجي أو الخاص لا يكون له مُجرد وجود، إلا أن يكون تعبيراً عن الأحاسيس الداخلية. فالصور الفنية ليست نقلاً للواقع الخارجي، بل هي إفراغ لما في (داخلية) الفنان من شحنة عاطفية، مُتولّدة عن انصهار الوجود في مخيلته. لذلك بَدَت تماثيل إخناتون وكأنها من كوكب آخر، فظهر (بورتريت) الملك على مثل تلك الاستطالة، إذ يُؤكد الشكل اللوزي لعينيه المبالغ في امتداده، وامتداد أنفه الطويل، ووعورة شفتيه، وتدلي حِنكِه. شيوع نوع من النزعة العاطفية في نحت التماثيل، حَلّت محلّ الاتجاه العقلاني، رجّحت خطاب الذات المنفعلة على حساب الواقع. وتتصل تلك الآليات في إظهار صورة إخناتون، بموديلات الرسام التعبيري (مودلياني) إيطالي الجنسية، وبصورة السيد المسيح والحواريين للرسام الألماني (نولدة). إذ كانت ذات الفنانين الكاشفة المؤولة، تُبدع الأشكال بمثل تلك الهلوسة الفريدة من نوعها. لكشف أعماق الحقائق النفسية، إذ تمَّ تمثل الشكل بروح (فرويدية) وكأنها عملية تحليل للشخصيات، حيث الدخول إلى الأعماق، وإماطة اللثام عن الكوامن المتوارية بمخيلة حدسية خارقة.
أعلن (إخناتون) في دستور ديانته الجديدة، بأنه أحد أفراد بني البشر وليس ملكاً مؤلهاً مثل أسلافه، ومنح الحرية الكاملة للفنانين بإخراج صورته، على وفق إحساساتهم الذاتية، من دون التقيد بأي نوع من أنواع التقاليد التي كانت متبعة سابقاً. فبثَّ الرغبة في ذات كل فنان من فناني عصره، أن تدخل سِر الحياة، وأن تتعقب دروب الطاقة الخلاقة في الوجود، وأن تبتكر ليس ابتداءً من الواقع المنظور، بل تماشياً مع حقيقة أكثر عمقاً. وهنا برزَ نوع من القصدية الوجدانية، لتحطيم قواعد أنظمة الصور المثالية السابقة لعهده، فظهرت تماثيل (إخناتون) إثرَ ذلك الحراك الفكري: بأكتاف ضيقة، وبطن متدلية، وساقين ضامرتين أصابهما الهُزال. تلك هي مقتربات أسلوب التعبيرية بين تماثيل (إخناتون)، والفن الحديث، ومصدر قوتها وجمالها وروعتها.
فصور إخناتون ليست تسجيلاً للواقع الخارجي بل هي مثابة إملاء لذات الفنان، بفعل انصهار الوجود في مخيلته، كما لو كان التمثال قطعة من ذاته، لا جزءاً من الواقع الموضوعي المحيط به. إنه نوع من النزعة غير التسجيلية، التي سَعت في نسق تماثيل إخناتون، إلى اختزال الظواهر المرئية، لتأكيد استقلالية الأشكال الخالصة. وبرغم ابتعاد (إخناتون) عن الأسلوب المثالي المتعالي، الـمُتبع في نحت تماثيل أسلافه من الملوك المصريين. بَقيَ مشدوداً إلى منظومة متكاملة من الأشكال الرمزية، الملحقة بتلك الأنساق الجميلة من التماثيل. إذ تمظهر بالتاج المزدوج رمز سيطرته على كل البلاد، وما زال يُتوّج جبهته بـ (الصِل) الأسطوري المقدس رمز حمايته، ويَعصب رأسه بـ (النمس) المقدس الذي نُسِجَ بعناية من خيوط الكتان، ويُزين حنكه بلحيتهِ الطويلة المستعارة، ويمسك بكلتا يديه بأداتي (أوزيريس) الأسطوريتين وهما: الصولجان (حقا) رمز سلطته، و(المذبّة) طاردة الشر والأرواح الخبيثة. فكأن تلك الأشكال عاشت في بنيته الفكرية اللاشعورية، ولم تفارقه أبداً، برغم الأسلوب الجديد الذي أحلّه في نحت تماثيله. والذي سرعان مازال من خارطة أسلوب نحت تماثيل الملوك المصريين بعد موت صاحبه، واختفاء ديانتهِ في رمال العمارنة.
في العام (1912م) اكتشفت بعثة الآثار الالمانية، في استوديو النحات (تحتمس) في العمارنة، تمثال الملكة (نفرتيتي) المشهورة، وهو منحوت من الحجر الجيري وخامات أخرى، ارتفاعه (48 سم)، ومحفوظ في متحف برلين حالياً. ونحن لا نعرف سوى القليل عن أسلاف الملكة (نفرتيتي)، زوجة الملك إخناتون الجميلة، التي اخلَصت له وأيّدت ديانته طوال حياتها. وكانت قد طُرحت حول أصلها فروض كثيرة، انتهت اليوم إلى اتفاق عام، بأنها سليلة أسرة مصرية عريقة.
يُمثل التمثال النصفي للملكة (نفرتيتي) ظاهرة مهمة في آليات إظهار تماثيل الملكات في النحت المصري، كونه يشكّل تحولاً مهماً في تركيب تماثيلهن، إذا ما قُورنَ مع تمثال الملكة (حتشبسوت)، وكلاهما من عصر السلالة الثامنة عشرة. فالنحات (تحتمس) أو ربما غيره، لم ينحت صورة لنفرتيتي، وإنما أبدعَ تمثالاً لفكرة الملكية، حين تمثلها امرأة، لذلك اكتسبَ التمثال شهرته العالمية، لأنه تحُفة فنية رائعة من النقاء والاتزان، إذ تجتاز (البورتريت) الملكي رقة متناهية في تمثل الوجه الملكي. فوجه الملكة بيضوي الشكل، يَشف عن حساسية امرأة رفيعة المقام، استطال على الفطرة حاجبيها إلى الصدغين، حيث اتسقَ ذلك البروز من فوق الحاجبين، مع عظام وجنتيها، وعيونها الـمُسبلة، وفمها الغامض، في تناسق جميل من النسب المتناغمة.
أطلّت سيدة البلاط الأولى، على الفكر الإنساني، متمظهرة بـ (بُنَيقة) معقدة أرستقراطية المظهر، شُكّلت بعناية من نسج عدد كبير من قطع الأحجار الكريمة متنوعة الألوان. في حين استطال عنقها الجميل، بحركة تعبيرية شجاعة من قبل النحات الـمُبدع، لم يشهد لها تاريخ الفن سميّاً جمالياً حتى الوقت الحاضر. مُتوجة رأسها بتاج فريد كبير الحجم نسبياً، أسود اللون ومزين بشريط ملكي متنوع الألوان.
وأظهرت دراسة التمثال بالأشعة (المقطعية)، أنه طُليَ بعدة طبقات من الجص، ومن ثم لون بكرنفال من الألوان المتنوعة. وذلك يهمنا في منحنيين: أحدهما هو أن النحات قد خَلطَ تقنية النحت بالرسم، في آليات إظهار المظهر الجمالي للتمثال. أما المنحنى الآخر: فيقوم على فكرة نحت تاج الرأس على انفراد، ومن ثم تركيبه الى التمثال، من دون وجود أي خلل في تناسب أجزائه الرقيقة. وإذا أضفنا الى ذلك تطعيم عيني التمثال بأحجار ملونة، رغبة من لَدُن مبدعه في مضاعفة تعبيريته، يمكننا القول: إن في ذلك حضوراً متميزاً لتجميع الخامات ومضايفة التقنيات في نحت التماثيل، بلغها النحت المصري، قبل عصر الحداثة بزمن طويل.
د. زهير صاحب
استاذ تاريخ الفن القديم – كلية الفنون الجميلة – جامعة بغداد