تنقسم فلسفة المعرفة إلى مذاهب فكرية مختلفة ومتصارعة لا يُوحِّد بينها سوى مذهب السوبر حداثة الذي يؤكد على لا محددية المعرفة فيقبل أجناس المعرفة المتنوعة. تبدأ فلسفة المعرفة بتحليل أفلاطون وهو التالي: المعرفة هي اعتقاد صادق مُبرهَن عليه. هذا يعني مثلا ً أننا نعرف أن الأرض تدور حول الشمس إذا وفقط إذا الأرض تدور حول الشمس، ونحن نعتقد ذلك ولدينا برهان أو براهين على صدق اعتقادنا هذا. لكن الفلسفة المعاصرة أظهرت فشل هذا التحليل التقليدي للمعرفة، واشتهر الفيلسوف غيتر بنقده. من الممكن تقديم هذا النقد على النحو التالي: لنتصوّر أننا ننظر إلى ساعة معينة ونرى أنها تشير إلى أن الوقت هو الواحدة ظهرا ً، ولنتصوّر أننا نملك برهاناً قوياً على صدق اعتقادنا بأن الوقت هو الواحدة ظهراً لأننا كنا نعتمد على تلك الساعة في معرفة الوقت وكانت تلك الساعة تشير دائماً إلى الوقت الصحيح، ولنتصوّر أن بالفعل الوقت هو الواحدة ظهراً. لكن الحقيقة هي أن تلك الساعة معطلة، وقد تعطلت البارحة حين كانت تشير إلى الواحدة ظهراً وأنها مجرد صدفة أننا اليوم نظرنا إلى تلك الساعة حين كان الوقت حقاً الواحدة ظهراً. الآن، بما أن تلك الساعة معطلة، إذن نحن لا نعرف أنها الواحدة ظهراً، فمجرد الصدفة جعلتنا ننظر إلى تلك الساعة حين الوقت كان حقاً الواحدة ظهراً وبالصدفة فقط توقفت البارحة تلك الساعة مشيرة إلى الواحدة ظهراً. على هذا الأساس لدينا اعتقاد صادق مُبرهَن عليه بأن الوقت هو الواحدة ظهراً، لكن ليس لدينا معرفة بأن الوقت هو الواحدة ظهراً، فالوقت هو الواحدة ظهراً ونعتقد بذلك ولدينا برهان على ذلك لكننا لا نعرف أنها الواحدة ظهراً لأننا اعتمدنا في تشكيل اعتقادنا على ساعة معطلة. هكذا يُظهر غيتر خطأ تحليل المعرفة على أنها اعتقاد صادق مُبرهَن عليه (John Pollock and Joseph Cruz : Contemporary Theories of Knowledge .1999. Rowman & Littlefield Publishers).
ثمة نظريات أخرى في المعرفة منها نظرية الانسجام التي تقول إن معتقدنا يشكّل معرفة متى انسجم مع معتقداتنا الأخرى كافة. هكذا يكون النظام الفكري الذي يشكّل معرفة هو النظام الحاوي على معتقدات منسجمة فيما بينها. لكن المشكلة الأساسية التي تواجه هذا المذهب كامنة في أنه من الممكن أن تنسجم معتقداتنا فيما بينها من دون أن تنجح في التعبير عن الواقع، وبذلك لا تشكّل معتقداتنا المنسجمة حينها معرفة حقة. فمثلا ً، نظرية أرسطو في تفسير الكون منسجمة لكنها لا تشكّل معرفة، علمياً الشجرة ليست شجرة بسبب اتخاذها صورة Form الشجرة على نقيض مما تقول نظرية أرسطو. ومشكلة أخرى تواجه هذا الموقف هي أن من الممكن وجود أنظمة فكرية مختلفة ومتعارضة فيما بينها رغم أن كل نظام منها منسجم ذاتياً. مثل ذلك أن نظرية النسبية لأينشتاين أفكارها منسجمة لكنها تعارض وتناقض نظرية ميكانيكا الكم المنسجمة الأفكار أيضاً. وبذلك يستحيل على ضوء الانسجام الفكري فقط أن نتمكن من الحكم على أية نظرية أو نظام فكري على أنه يشكّل معرفة حقاً دون نظام فكري آخر. ومن النظريات الأخرى التي طرحها الفلاسفة نظرية الأسس في المعرفة التي تقول بوجود بعض المعتقدات الأساسية التي لا تحتاج إلى برهنة لأنها بديهية، وعلى ضوء تلك المعتقدات البديهية تتم البرهنة على المعتقدات الأخرى ويتم تشكيل المعرفة. لكن المشكلة الأساسية التي تواجه هذا المذهب قائمة في أنه لا يوجد معيار على أساسه نتمكن من اختيار ما هو بديهي وأساسي من المعتقدات، فما هو بديهي بالنسبة لهذا الفرد قد لا يكون كذلك بالنسبة إلى فرد آخر
[ltr]) Matthias Steup، John Turri، and Ernest Sosa ( Editors ): Contemporary Debates in Epistemology. Second Edition. 2013. Wiley-Blackwell (.[/ltr]
من مذاهب المعرفة أيضاً مذهب يدعي أن الاتفاق على قبول معتقد ما يجعله معرفة وعلى أساسه تتم البرهنة على المعتقدات الأخرى فنكتسب المعارف. ومشكلة هذا المذهب أنه لا يوجد ضامن يضمن أن مجرد اتفاقنا على معتقد معين يجعل هذا المعتقد معرفة حقة، فمن الممكن أن نتفق على ما هو كاذب بشكل دائم ومستمر. ولقد تطورت فلسفة المعرفة فنشأت النظرية السببية في المعرفة ومفادها التالي: معتقداتنا تشكّل معرفة متى كانت مُسبَّبة من قبل الوقائع في العالم. وهذا يعني أننا نعرف أن الأرض تدور حول الشمس إذا وفقط إذا كنا نعتقد بذلك، وفعلا ً الأرض تدور حول الشمس، ودورانها هذا هو سبب اعتقادنا بأنها تدور حول الشمس. هكذا نضمن ارتباط ما نعتقد بما هو في الواقع فنضمن المعرفة كما يزعم أصحاب هذه النظرية. لكن إحدى مشاكل هذه النظرية هي أنه لا يوجد ما يضمن أن العلاقات السببية تستلزم تحقيق المعرفة، فمن الممكن أن تكون العلاقة السببية بيننا وبين العالم مُسبِّبة لمعتقدات كاذبة عن العالم ولذا اكتسبت الانسانية معتقدات كثيرة خاطئة عبر تاريخها. والنظرية السببية في المعرفة تواجه مشكلة أساسية أخرى هي التالية : معادلات الرياضيات وعناصرها كالأعداد مجردة وبذلك لا قدرة سببية لها لكونها مجردة. من هنا بالنسبة إلى النظرية السببية في المعرفة يستحيل علينا معرفة الرياضيات بما أن النظرية السببية في المعرفة تستلزم وجود علاقات سببية بيننا وبين العالم لتحدث المعرفة لكن الرياضيات لا ترتبط بنا سببياً لكونها مجردة. وهذه النتيجة، ألا وهي أنه يستحيل علينا معرفة الرياضيات، هي في الحقيقة نقيض الواقع لأننا نعرف الرياضيات ومعادلاتها وعناصرها كالأعداد. من هنا تفشل النظرية السببية في المعرفة.
[ltr])Helen Beebee، Christopher Hitchcock، and Peter Menzies (Editors): The Oxford Handbook of Causation. 2010. Oxford University Press (.[/ltr]
لقد رأينا فشل النظريات السابقة في تحليل المعرفة. هذا يشير إلى أن المعرفة غير مُحدَّدة كما تقول السوبر حداثة ولذا فشلت النظريات المختلفة في تعريفها. بالنسبة إلى السوبر حداثة، المعرفة غير مُحدَّدة ما هي. وبذلك لا تسجننا السوبر حداثة في تحليل معين للمعرفة فتحررنا معرفياً. فبما أن المعرفة غير مُحدَّدة، إذن لا تغدو المعرفة مُحدَّدة سوى من خلالنا نحن بالذات. وبذلك تعتمد المعرفة علينا كي نكوِّنها فنمسي أسياد المعرفة بدلا ً من عبيد لها. فلو كانت المعرفة مُحدَّدة لتم سجننا في قيود معرفية مُحدَّدة مُسبَقاً فنصبح بذلك سجناء المعارف الماضوية. لكن السوبر حداثة تحررنا من خلال لا محددية المعرفة. من هنا، تنتصر السوبر حداثة على المذاهب الفلسفية الأخرى. لا قيمة لمعرفة تسجننا بل القيمة العليا كامنة في معارف تحررنا. فلا معرفة من دون حرية ولا حرية من دون معرفة. المعرفة حرية والحرية كامنة في لا محددية المعرفة.
بما أن السوبر حداثة تعتبر أن المعرفة غير مُحدَّدة، إذن من الممكن للمعرفة أن تكون معتقدات صادقة مُبرهَناً عليها منطقياً كما في الفلسفة وأن تكون معتقدات صادقة مُبرهَناً عليها اختبارياً ومنطقياً معاً كما في العلوم كعلوم الفيزياء والكيمياء. وبما أن المعرفة غير مُحدَّدة، إذن من الممكن للمعرفة أن تكون معتقدات صادقة مُبرهَناً عليها رياضياً كما في الرياضيات، ومن الممكن للمعرفة أن تكون معتقدات صادقة مُسبَّبة من قبل الحقائق والواقع كما في حياتنا اليومية وفي العلوم أيضاً. وبما أن المعرفة غير مُحدَّدة، إذن من الممكن لها أن تكون معتقدات أو قدرات مفيدة كمعرفتنا بكيفية ركوب الدراجة. هكذا تتمكن السوبر حداثة من التعبير عن أن المعارف السابقة هي فعلا ً معارف وأن المصادر السابقة كالعلم والفلسفة والرياضيات إلخ هي حقاً مصادر للمعرفة. وبذلك تكتسب السوبر حداثة فضائلها المعرفية فتكتسب مقبوليتها. وعلى هذا الأساس أيضاً تنجح السوبر حداثة في توحيد الأجناس المعرفية المختلفة. فكل الأنماط المعرفية السابقة تشكّل معارف حقيقية من جراء لا محددية المعرفة، وبذلك تتوحد تلك الأجناس المعرفية المتنوعة في كونها معارف حقة. فلو كانت المعرفة مُحدَّدة لتم سجننا في نمط أو نوع معرفي واحد دون سواه. من هنا، لا محددية المعرفة تضمن تجسدات المعرفة المتنوعة تماماً كما تضمن قبولها معاً.
تتصارع معارفنا بسبب اختلافها وتنوعها. فمثلا ً، نعرف من خلال البصر أن الكون يتكوّن من أشياء مادية مختلفة كالتراب والهواء والأشجار والزهور. لكن من منطلق العلوم التجريبية كالفيزياء نعرف أن العالم يتشكّل من ذرات وجُسيمات كالإلكترونات. أما من منظور علم الرياضيات فنعرف أن الكون بنيات رياضية وبفضل اختلاف البنيات الرياضية تختلف الظواهر الطبيعية. هكذا تختلف المعارف وتتنافس. لكن رغم صراع معارفنا، تتمكن السوبر حداثة من توحيد معارفنا المتصارعة فتحل أكبر خلاف فكري. السوبر حداثة توحِّد بين معارفنا المتعارضة حين تعتبرها كلها معارف مقبولة وصادقة. فبما أن، بالنسبة إلى السوبر حداثة، المعرفة غير مُحدَّدة، إذن من الطبيعي أن تتجلى المعرفة في معارف مختلفة ومتنوعة كمعرفتنا من خلال البصر ومعرفتنا من خلال العلوم التجريبية ومعرفتنا من خلال الرياضيات. وبذلك هذه المعارف المتنوعة تشكّل حقلا ً معرفياً واحداً لأنها مجرد تجسدات عدة للمعرفة. هكذا تنجح السوبر حداثة في توحيد المعارف بدلا ً من التعصب لنوع معرفي ضد نوع معرفي آخر. وفي هذا فضيلة كبرى للسوبر حداثة لأنها تحل إشكالية صراع المعارف.
تحررنا المعارف والحقائق غير المُحدَّدة لأنها تدعونا إلى البحث المستمر عنها من جراء لا محدديتها. المعرفة المحدَّدة معرفة ميتة. والحقيقة المُحدَّدة سجن لنا. كون مُحدَّد كون لا يدعونا إلى التفكير المستمر فيه. لذا كون مُحدَّد كون بلا استمرارية المعرفة. وكون بلا معرفة كون بلا حرية. وكون بلا حرية كون بلا وجود.