"طالما أن الفلسفة مازالت تعتقد بأنها صاحبة رؤية أكيدة تتناول كلية الطبيعة والتاريخ، فهي تتصرف بالإطار الذي نأمل أن تنتظم فيه الحياة الفردية وحياة الجماعات"1[1] يندرج هذا المبحث ضمن دائرة التفكير في صياغة إستراتيجية التسوية التاريخية للتدافع السياسي العربي في مرحلة ما بعد الحراك الثوري ومآلاته المعقدة وإفرازاته المجهولة بالنسبة للمجتمع والثقافة والاقتصاد.
على هذا الأساس يحاول الفكر الفلسفي الإمساك بالواقع العربي الملموس والتركيز على الخصائص النوعية للحال السياسية العربية ويشرح الرموز الحضارية ويكد في دراسة الأطر الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي ينغرس فيها العمل الثوري ويتتبع الأدوات التي استعملت في النضال الشبابي ضد الشمولية ورصد بؤر الهيمنة ودوائر الاحتكار وتحديد أشكال الاستغلال وحجم التفاوت وتحليل أساليب المواجهة المتبعة وطرق التصدي للمشاريع المعولمة ومكافحة الفساد وإيقاف عمليات الإهدار.
لقد شهدت الملحمة الكثير من التعقيدات والحبكات وعرف المسار الاحتجاجي تقلبات ومطبات واستحال على الحركة الإصلاحية التحول إلى ثورة برجوازية وفق النموذج الغربي ولم تتطور الهبة الاجتماعية إلى ثورة شعبية ولم يقع افتكاك الحكم السياسي بشكل تام ولم تتبلور قطيعة جذرية مع الماضي السلطوي.
لقد قدمت العديد من التفسيرات على ذلك ومن أبرزها ضعف الوزن الاجتماعي للطبقة الثائرة والتبعية وعدم الانفصال عن الهيئات الخارجية الداعمة (الليبرالية واليسارية والقومية والإسلامية) والحساسية المفرطة تجاه التنظيم والطاعة وغلبة الفوضى على الحرية والنهب على الملكية والانقسام على التوحد والدور المركزي للإيديولوجيا الدينية في تطعيم الوعي السياسي للمنتفضين وغياب نظرية ثورية متكاملة.
لقد استحال على القوى الفاعلة الانخراط في حرب حركة من أجل استكمال المسار الثوري والاستيلاء على الدولة من قبل الفريق المنتصر بعد استبدال النظام المتهرئ بنظام سياسي تعددي وتم تفضيل خيارات رأب الصدع بين القديم والجديد وبين العميق والسطحي وبين الإصلاحي والجذري وجنح الكثير نحو التفاوض والتفاهم والتوافق والصفح والمصالحة دون المصارحة والمحاسبة ولكن في المقابل دشنت العديد من الأطراف الناجية من المطحنة حرب مواقع من أجل افتكاك المبادرة السياسية من الأجهزة القمعية للدولة والاستحواذ على معاقل في المجتمع المدني تسمح لهم بالهيمنة والقيادة الفكرية والأخلاقية للدولة.
إذا كان الأجهزة القمعية التابعة للمجتمع السياسي تقوم بوظيفة السيطرة وتحرص على استمرارية النظام فإن الهيئات والمنظمات الحقوقية التابعة للمجتمع المدني تقوم بوظيفة الهيمنة وتحرص على استمرارية الدولة وتعمل على صياغة إستراتيجية التسوية التاريخية بين المنافسين السياسيين بإجراء تسوية اقتصادية واجتماعية بين الطبقة القائدة والفئات الاجتماعية المتحالفة معها والجماعات والأحزاب والمنظمات القريب منها وبدل القضاء عليها وتصفيتها واجتثاثها تقوم بإدماجها وترويضها وإخضاعها وتشريكها في الحياة السياسية عبر اتفاقات وبإتباع تكتيكات ومناورات تعتمد على محاربة المركزية البيروقراطية وتجنب القوة المسلحة والصراع الإيديولوجي الحاد وإتباع مركزية ديمقراطية ترسي تفاعلا بين القادة والجمهور.
من بين المبررات التي تفضي إلى الحديث عن التسوية التاريخية هو هول الحرب الأهلية وفظاعة الانقسام الداخلي والتفويت في السيادة الوطنية وغياب استقلالية القرار السياسي والتنازل عن الثوابت وانتشار الفوضى والفساد والاحتقان الاجتماعي والفوات الحضاري والانسداد التاريخي والتخلف الاقتصادي.
على هذا الأساس تتضاعف هيمنة الكتلة الاجتماعية التي تمثل الأكثرية ليس من خلال احتكار القيادة والصلف الإيديولوجي للحزب الحاكم الواحد وديكتاتورية الثورة بل بتوسيع أفق إنتظارات الناس والتركيز على ترجمة وطنية للمطالب والتحرك وسط ثورة سلبية تعول على المثقفين العضويين والمجتمع المدني.
من هذا المنطلق لا يقتضي الأمر بناء حزب أو تكوين جبهة يكون وريثا للمسار الثوري وإنما المطلوب هو الاشتغال على احتلال المواقع وافتكاك زمام المبادرة من الفوضويين والملتفين ضمن كتلة تاريخية.
ينبغي معرفة الطريق الذي يسمح بالذهاب إلى الشعب والحديث معه عن مشاكله بلغته والتعرف على حسه السليم وجملة التصورات القبلية التي يرى من خلالها العالم والإنصات إلى نبض الشارع وصوت الناس والإعداد الرصين للثورة الثقافية ليس بالتعويل على موظفي البنى الفوقية بل بالصراع ضد الثقافة التابعة.
تعتمد الكتلة التاريخية الجديدة على مفهوم للعالم مستمد من الحس المشترك للطبقات الرافضة والفئات المتمردة ويلعب الحس المشترك القادم من التقاليد دورا محركا في تغيير الذهنية وتنمية الوعي الشعبي وتتدخل فلسفة الممارسة لكي تؤثر في التجانس بين المثقفين والجمهور وتقطع الصلة بالشمولية التراجعية وتنجز عملية قلب في صلب المجتمع وتجعل من الانفصال إعادة تأليف ومن عملية الاستيعاب تجاوزا.
لا تمتلك الكتلة التاريخية استقلالا نسبيا عن البنى الاجتماعية التي شكلتها ولا تمتلك إيديولوجيا خاصة بها وإنما تطبع المجموع السياسي والقانوني والثقافي بطابعها الخاص وتقترح تنظيم عملي ومتكامل للمجتمع.
لقد تضمن وعي الطبقات المنتصرة إرادة التجاوز والتكامل والبناء والتجديد والالتزام والمثابرة وفقدت الطبقات المغلوبة التماسك والصلابة وحضرت بخوائها الفكري وفراغها الروحي وتجريدها البرجوازي. لقد اتضح للجميع غياب الجدية في التدارك وصعوبة استعادة ما فات وزال وأهمية المضي قدما واستقبال الآتي وعقد الأمل في المشروع السياسي الذي قد يتمخض عن حركية الكتلة التاريخية واندفاعها الحيوي.
رأس الأمر أن النفوذ الذي تمارسه الدولة الشمولية عن طريق سلطة المؤسسات القمعية لن يمثل حجر عثرة أمام الطموح الثوري للكتلة التاريخية وأن التسوية الاجتماعية لا يجب أن تتحول إلى ترضيات للمتحكمين في مراكز النفوذ والى رسكلة للنظام القديم ولا تعطيه فرصة من أجل إعادة ترميم نفسه وإعادة إنتاج آليات الاستيلاء التقليدية على المجتمع والغلبة على مفاصله بل يفترض أن تخلق هذه التسويات مناخا إيتيقيا للعمل المشترك بين قوى سياسية متنوعة ومتعددة تتحرك في إطار حركة اندماجية تؤطرها قيم المشاركة والعفو والتصافي. وبالتالي" قد يصبح التنظيم الاندماجي هو الشكل الجديد للتغيير ولكننا نتساءل هل نتعرض لخدعة من خدع القدر التي حدثنا عنها فيكو، حيث يجد الناس أنفسهم مجبرين على الانصياع لأوامر التاريخ وضروراته، بصرف النظر عما يريدون ويدبرون؟"2[2]. لماذا تغلبت العقلانية العسكرية البونبارتية التي ميزت النظرية الشمولية السياسية على منطق نقاء الديمقراطي التعددي وطهرية المسار الثوري؟ وكيف انقطع الطريق في اللحظة التي أفصح فيها التجديد التاريخي عن أسرار مشروعه الواعد؟ والى أي مدى يمكن الحديث عن منافع سياسية ومزايا ايجابية على الصعيد العربي لهذه الثورة السلبية؟
د زهير الخويلدي
كاتب فلسفي